[size=32]
[/size][size=32][/size][size=48]سورة الأنبياء[/size][size=32][/size]
[size=32]
[/size]الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ(3)﴾
أيها الإخوة الأكارم، هذه السورة ـ سورة الأنبياء ـ مكيَّة، تتحدَّث عن قصص بعض الأنبياء، وعن أمور العقيدة الأساسية، كالإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالله خالقاً، ومربياً، ومسيِّرا، يقول الله سبحانه وتعالى في مطلع هذه السورة: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾
الحركة في الحياة تعني الوصول إلى النهاية الأبدية
ومعنى اقترب، أي أنهم سائرون في طريقٍ ينتهي بالحساب، فكل حركةٍ تعني الوصول، فأيَّةُ مركبةٍ ما إن تنطلق في طريقها حتى تصل، وأيَّة طائرةٍ ما أن تقلع حتى تهبط، وأي قطارٍ ما أن يتحرَّك حتى يصل، فالحركة تعني الوصول، فالله سبحانه وتعالى وضعنا على وجه الأرض، والأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، فكل يومٍ يمضي هو جزءٍ من حياتنا، وكل أسبوعٍ يمضي هو جزءٌ أكبر، وكل شهرٍ يمضي هو جزءٌ أكبر، وكل سنةٍ، والسنوات والفصول تنتهي جميعها بمجيء ملك الموت..﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ﴾
اِقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ
والآن الحبل مُرخَى لهم، يتكلَّمون حقاً أو باطلاً، ويأخذون ما لهم، وما ليس لهم، ويحكمون بالحق إذا حُكِّموا بين شخصين أو بالباطل، ويتكلَّمون بما تهوى أنفسهم أو بما تُمليه عليهم مبادئهُم، فالناس في بحبوحة مخيَّرون، ولكن كل عملٍ عنه محاسبون، وكل موقفٍ من مواقفهم عنه سيُسْأَلون، وكل دِرْهَمٍ من دراهمهم كيف اكتسبوه، وكيف أنفقوه سيوقفون، هكذا.. ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ﴾
ما دمت أنت على وجه الأرض، والأرض تتحرَّك، والعمر مجموعة أيَّامٍ وأسابيع، وأشهر وسنوات فلابدَّ من أن نصل إلى النهاية، ولذلك كل متوقعٍ آت، وكل آتٍ قريب، ومن هنا عبَّر الله سبحانه وتعالى عن يوم القيامة بالفعل الماضي:﴿ اقْتَرَبَ ﴾
أي اقترب وانتهى، والآن لو أنك راكبٌ في سيَّارة، ما دامت واقفة في مركز الانطلاق، ولا تدري متى تتحرَّك، فالوصول غير محدَّد، ولكن ما أن تتحرَّك حتى تصل، والطائرة ما أن تقلع حتى تهبط، وكذلك القطار ما أن ينطلق حتى يصل إلى الهدف، إذاً:
﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ﴾
حسابٌ دقيق..﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾
( سورة الحجر:93)
وفي الحديث:
(( لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ؟ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَ أَبْلاهُ ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ؟ وَفِيمَ وَضَعَهُ ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟ ))
( من سنن الترمذي عن معاذ بن جبل )
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( اغتنم خمساً قبل خمس ؛ شبابك قبل هرمك، وصحَّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك))
[الحاكم في مستدركه، وابن أبي شيبة في المصنف عن عمرو بن ميمون]
﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ﴾
الدولاب يمشي، وأنا في طريقي إلى هذا المسجد، وفي بعض المواقف عند الإشارات الضوئيَّة جاءت جنازة، ونحن في رمضان، هو في طريقه إلى التراب، وإلى الحساب، وإلى نعيمٍ مقيم، أو إلى عذابٍ أليم، وهكذا، ولذلك فما دام الإنسان غافلاً عن هذه الساعة، وعن هذه اللَّحظة، عن تلك النهاية فهو في ضلالٍ مبين.
﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ﴾
لم يقل الله عزَّ وجل: اقترب للناس يومُ الدين، أو اقترب للناس يوم القيامة، بل اقترب للناس حسابهم، يقول لك: مفتِّش محاسبات ـ حينما الإنسان يُحَاسَب يتعرَّى، فينكشفُ على حقيقته ـ ويقول لك: الصندوق مكشوف، يعرف هذا، ويتذوَّقه أمناء الصناديق، فلو جاءهم تفتيشٌ حسابيٌّ مفاجئ، وكانوا قد تصرَّفوا في بعض الأموال، يكادون يُصْعَقون، من منا يدري متى يأتيه الحساب ؟ ومتى يأتيه مَلَك الموت ؟
﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾
اِقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ
فهذا الغافل عن تلك الساعة، وهذا الغارق في مشاريعه، وفي ملذَّاته، وأحلامه، وطموحاته، ومُتَعِهِ، وتجارته، ومعمله وحانوته، وظيفته وهواياته، وشهاداته ومراكزه التي يطمح إليها، هذا الغافل يأتيه الموت كالصاعقة.﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾
في غفلةٍ، وفي إعراض، في غفلةٍ عن هذا اليوم، وفي إعراضٍ عن هذا القرآن، كلام الله رب العالمين لا يأخذونه مأخذاً جدِّياً !! ولا يطبِّقونه، كما لو أنه كلامٌ من إنسانٍ يخشون بطشه، أو يرجون عطاءه، والناس في تعاملهم اليومي حينما يقرؤون نصًّا لإنسانٍ يُرجى خيره، أو يُرْهَب بطشه ينفِّذونه بحذافيره، ويدقِّقون في تطبيقه أدقَّ التدقيق، فما لهم إذا قرؤوا كلام الله عزَّ وجل، وكلام الله عزَّ وجل فيه أمرٌ، وفيه نهيٌ، فهل قُرَّاء القرآن الكريم عند أمر الله وعند نهيه ؟ هل هم صَدَّقوا وعده ووعيده ؟..
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾
( سورة النور: من آية " 55 " )
هل صدَّقوا وعده ووعيده ؟ وهل ائتمروا بأمره، وانتهوا عن نهيه ؟ وهل طمعوا في جنَّته، وخافوا من ناره ؟ وهل رضوا بما قسمه الله لهم ؟ وهل وسعتهم السُنَّة، ولم تستهوهم البدعة ؟ وهل رأوا في الدين خلاصاً من كل مشاكلهم ومشكلاتهم ؟ وفي الإقبال على الله سعادةً لقلوبهم ؟ وفي تطبيق الشريعة الغَرَّاء إنقاذاً لهم من مآسيهم ؟..﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾
( سورة الأنفال: من آية " 33 " )
في حياته وأنت فيهم، وبعد مماته وشريعتك بين ظَهْرَانيهم في حياتهم مطبَّقة.. ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾
غافلون.. فبئس العبد عبدٌ سها ولها، ونسي المبتدى والمنتهى، وبئس العبد عبدٌ تكبَّر، واختال، ونسي الكبير المتعالي، وبئس العبد عبدٌ تجبَّر وطغى، ونسي الجبَّار الأعلى، ولا حبذا هذا العبد ـ وساء العبد عبدٌ طَمَعٌ يقوده، ورغبٌ يُذِلُّه، نعوذ بالله من الغفلة، فهذا هو الغافل:
أيـا غافـلاً تبدي الإساءةَ والجهلَا متى تَشْكُر المَولَى على كلِّ ما أولَى
عليكَ أيَادِيه الكِرَامُ، وأنتَ لا تراها كــأنَّ العين عـمياءُ أو حَــولا
لأنت كمزكومٍ حوى المِسـكُ جَيبُه ولكنَّه المَـحْرُومُ ما شَمَّه أصــلا
* * *
إلى متى أنتَ باللذَّاتِ مشــغُولُ وأنتَ عنْ كلِّ مـا قدَّمْتَ مَسؤولُ
* * *
فَيا خَجَلي مِنه إذا هو قـال لي أيـا عبدَنا هـلا قـرأتَ كِتَابنا
أما تَسْتَحي منَّا ويكْفيكَ ما جَرى أما تَخْتَشي من عُتْبِنَا يومَ جَمْعِنا
أما آنَ أن تغدو عن الذَنْبِ رَاجِعاً وتَنْظُرْ فيما بِه قد جرى فيه وعْدُنَا
* * *
﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾
هجر القرآن من الغفلة الكبيرة
أخطر ما في حياتنا غفلتنا عن مصيرنا، وغفلتنا عن هذا الكتاب الذي فيه وعدٌ ووعيد، وأمرٌ ونهيٌ، وجنَّةٌ ونار، وتشريعٌ دقيق، ونظامٌ حكيم، ومنهجٌ قويم، وعبرةٌ لمن يعتبر، وذكرى لمن يتذكَّر، وإخبارٌ عن أقوامٍ مضوا، ووصفٌ لحالتنا الراهنة، وحديثٌ عما سيكون، ويلٌ لمن جعله وراءه ظهرياً، وقال:﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُوراً﴾
( سورة الفرقان: 30)
هجروه، وقرؤوه على الأموات، ولم يقرؤوه على الأحياء، وقرؤوه في المناسبات، ولم يقرؤوه في المُلِمَّات، وقرؤوه وكأنه كتابٌ لا يعنيهم، وأحكامه لا تتصل بحياتهم.﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾
إن السعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه، نعوذ بالله من الغفلة، ومن الإعراض، وأن يدير الإنسان ظهره للدين، ولأوامر الله سبحانه وتعالى، وألاّ يقيم لها وزناً، وألاّ يهتمَّ بها، وألاّ يأخذها مأخذاً جِدِّياً.
حالتان مرَضيتان: الغفلة والإعراض
حالتان مَرَضيتان خطيرتان مدمِّرتان، الغفلة والإعراض، ومن علامات المؤمن الصحوة والإقبال، ومن علامات الكافر الغفلة والإعراض، المؤمن صاحٍ، يعرف حجمه الحقيقي، ويعرف لماذا هو على وجه الأرض، ويعرف مهمَّته في الحياة، ولماذا أرسله الله إلى الدنيا، وماذا ينتظر منه، وما الذي وراءه، وما الذي أمامه، ولماذا يتزوَّج ؟ لا من أجل المتعة ولكن من أجل أن ينجب أولاداً صالحين يذكرون الله من بعده، يتزوَّج ليأخذ بيد هذه الزوجة إلى ما يحبُّ الله ويرضاه، ولماذا يعمل ؟ لخدمة المسلمين لا ليستغلَّهم، ولا ليبني ثروته على فقرهم، ولا ليغشَّهم، ولا ليحتال عليهم ؛ بل ليخدمهم وينصحهم والله سبحانه وتعالى يتولَّى أن يرزقه رزقاً حلالاً طيِّباً.
المؤمن صاحٍ يعرف ما له وما عليه، ويعرف ما يجوز، وما لا يجوز، وما يمكن، وما لا يمكن، وما يصح، وما لا يصح، ويعرف ذلك، ويعرف حدوده ـ " رحم الله عبداً عرف حدَّه فوقف عنده " ـ ويعرف أن لكل مخلوقٍ إلهاً يحاسب عنه، الناس في تعاملهم اليومي يقولون: الله وكيلك، لو تعرف معنى هذه الكلمة لارتَعَدْتْ فرائصك، فالله وكيله، وتغشُّه ؟ والله وكيله، وتحلف له يميناً كاذباً ؟ وتحتال عليه ؟ ولذلك من علامات الإيمان الصحوة، والإقبال، هل هو صاحٍ، وحضر مجالس العلم، فأَنَّى لإنسانٍ أن يأخذ شهادة عُليا، وهو لا يداوم على الجامعة، مستحيل، من أين يأتي العلم، وأنت جالس في البيت تتابع برامج ترفيهيَّة ؟ ومن أين يأتيك العلم، وأنت في دكَّانك تبيع وتشتري ؟ ومن أين يأتيك العلم، وأنت مع أهلك وأولادك تمزح معهم ؟ لابدَّ من أجل أن تكسب العلم أن تذهب إلى مواطن العلم، إنها مجالس العلم، ولابدَّ من حضورها لتعرف الحلال من الحرام، والحقَّ من الباطل، والخير من الشر، ولتعرف كيف يعامل الله عباده، وقد يأتيك رجل يقول لك: إنّ الله سبحانه وتعالى لا يعذِّب أحداً من عباده، وهذه الآيات التي يتحدَّث فيها عن النار إنما هي من أنواع التخويف، فإن لم تكن تعرف الحقيقة فكيف تواجه هذا الإنسان، إن صدَّقته أهلكت نفسك.﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾
( سورة الحجر:93)
﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
( سورة النحل:32)