مذهب الشافعي في الصفات
لقد كان الشافعي يعتبر التأويل على طريقة أهل الكلام تعطيلا ، إذ قال "إني قد اطلعت من أهل الكلام على التعطيل " ( ) .
وكان مذهبه إثبات الصفات وليس التأويل كما قال " نثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } هكذا رواه عنه الحافظ في الفتح ( ) .
وقال " السنّة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا أهل الحديث الذين رأيتهم عليها فأحلف عنهم مثل سفيان ومالك وغيرهما: الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأن الله على عرشه في سمائه ، يقرب من خلقه كيف يشاء، وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا كيف يشاء " ( ) . وقال بمثل هذه الكلمة ابن المبارك حيث سئل عن حديث النزول - كيف ينزل ؟ أجاب : " ينزل كيف يشاء " ( ) .
• روى الحافظ ابن حجر عن الشافعي أنه قال " لله أسماءٌ وصفات جاء بها كتابه ، وأخبر بها نبيه ïپ¥ الله عليه وسلم أمّتَه لا يسع أحداً ردها . فمن خالف في ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، فأما قبل ثبوت الحجة فمعذور بالجهل ( ) ، لأن عِلْمَ ذلك لا يُدرك بالعقل، ونثبت هذه الصفات وننفي عنها التشبيه ، كما نفاه عن نفسه فقال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ( ) . وهذا يبطل دعواهم " الصفات العقلية " التي تثبت بالعقل. فإن السمع هو الدليل والأصل على ما نثبته من الصفات لا العقل.
الحبشي يكذب على لسان الشافعي
غير أن الحبشي كذب على لسان الشافعي بما يخالف هذا النص. فبينما قال الشافعي قولا مطلقاً ما نصه " إن علم الصفات لا يدرك بالعقل " زعم الحبشي أن صفات الله عند الشافعي قسمان :
قسم يُعرف بالعقل كالصفات الثلاث عشرة كصفات القيام بالنفس وقيام الحوادث وجاحده يكفر بالله . والقسم الثاني لا يدرك بالعقل ( ) .
وقد قال أبو نصر السجزي " وأئمتنا كسفيان ومالك والحمّاديْن وابن عيينة الفضيل وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق متفقون على أن الله سبحانه فوق العرش وعلمه بكل مكان وأنه ينزل إلي السماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء " ( ) .
هذا موقف أهل الحديث الذين تخالفونهم : فاكذبوا ما شئتم وموهوا ما شئتم واختلقوا ما شئتم من الأعذار كالتنزيه وغيره . فإن أهل !الحديث أثبتوا هذه الصفات وصححوا أحاديثها بعد متابعتها ولم يؤولوها ووضعوها في كتب وأبواب التوحيد وكفى بذلك حجة عليكم .
مذهب عبد القادر الجيلاني في الصفات
وذكر الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله في كتابه الغنية ( ) أن الله " يقبض ويبسط ويفرح ويحب ويكره ويبغض ويرضى ويغضب ويسخط وله يدان وكلتا يديه يمين وأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه ، وأنه بجهة العلو مستو على العرش. محتو على الملك. وأن النبي ïپ¥ شهد بإسلام الجارية لما قال لها: أين الله فأشارت إلى السماء " ، وأن عرش الرحمن فوق الماء ، والله تعالى على العرش ودونه سبعون ألف حجاب من نور وظلمـة ، وأن للعـرش حداً يعلمه الله ( ) .
وأنه ينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل ، وأنه استواء الذات على العرش لا على معنى القعود والمماسة كما قالت المجسمة والكرّامية ، ولا على معنى العلو [ أي علو المنزلة ] ، والرفعة كما قالت الأشعرية ، ولا على معنى الاستيلاء كما قالت المعتزلة ( ) .
وأنه تعالى ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء لا بمعنى نزول الرحمة وثوابه على ما ادعت المعتزلة والأشعرية " ( ) . وإنما أخذ الجهمية التأويل عن الفلاسفة والباطنية، وتلقاه المعتزلة عن الجهمية.
وصدق رحمه الله فقد شهد بذلك ابن عساكر وغيره قال " وقد أخذ الجعد بن درهم ( ) بدعته عن بيان بن سمعان ، وأخذها بيانٌ عن طالوت بن أخت لبيد بن أعصم زوج ابنته ، وأخذها طالوت عن لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر النبي ïپ¥ وأخذها لبيد عن يهودي بالمدينة ( ) .
هذا هو سند المذهب الأشعري ، إنه يصل إلى الجهم عن طريق الجعد وواصل بن عطاء ، وليس يصل إلى أبي موسى الأشعري .
وقال الشهرستاني " كان واصل بن عطاء يَشرَع في نفي الصفات على قول ظاهر، وإنما شَرَعَت أصحـابُه فيـها بعد مطالعة كتب الفلاسفة " ( ) .
مذهب أبى الحسن الأشعري في الصفات
وكان أبو الحسن الأشعري رحمه الله من المعتزلة ، غير أنه رجع عن ذلك إلى إثبات جميع ما وصف الله به نفسه ، وأعلن أن " مذهب أهل السنة والجماعة عدم التأويل، وأنهم يثبتون لله اليدين والعينين " ( ) والوجه والاستواء ولا يتأولون ذلك " ( ) .
- وقد سرد الذهبي عقيدة الأشعري الموافقة لأهل السنة وخروجه عن التأويل الذي كان عليه المعتزلة ( ) .
- غير أن المنتسبين إليه من بعده يتجاهلون ما انتهى إليه حال الأشعري رحمه الله من إثبات ما أثبته الله ورسوله. ويجهلون حقيقة عقيدة المعتزلة في كثير من كتبهم ومن هنا خفي على الأشاعرة المتأخرين التأويلات المتقدمة للمعتزلة فتبنَّواْ تأويلاتهم ودافعواعنها معتقدين أنها تأويلات أهل السنة بينما هي عين تأويلات المعتزلة .
وظن آخرون منهم أن المعتزلة لم يكونوا يؤولون الصفات وإنما كانوا ينفونها ويكذبونها. وهذا غير صحيح وإنما كانوا يقولون ما يقوله كثيرون اليوم: نؤمن بهذه الصفات لكننا نعتقد أن ظاهرها غير مراد ( ) .
بل نص أحمد على أن جهم بن صفوان كان " يتأول القرآن على غير تأويله " ( ) . فأثبت له تأويل الصفات لا جحودها .
وذكر المرتضى الزبيدي أن المعتزلة " تصرفوا في الألفاظ بمقتضى عقولهم فأولوا وبدلوا " ( )
ولو أن المعتزلة نفوا الصفات وردوها نصاً لما اختلف في كفرهم ( ) أحد وإنما كانوا يؤولون الصفات على النحو الذي نرى الأشاعرة أخذوه عنهم. فيؤولون اليد بالقدرة والاستواء بالاستيلاء والمجيء بمجيء الأمر والنزول بنزول الملك .
ولذلك نقل أبو الحسن الأشعري لنا تأويلاتهم كقولهم " نزول الله معناه نزول آياته أو نزول الملك بأمره ( ) . وهذا تأويل يصر الحبشي على أنه مذهب أهل السنة.
وفي هذا دليل على أن المعتزلة كانوا يعتمدون التأويل فانه لما ترك أبو الحسن الأشعري الاعتزال ترك معه التأويل . واعتبر تأويل المعتزلة إنكاراً لصفات الله . فأعرض عن طريقتهم وأعلن في كتابه الإبانة أنه على ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل ، هذا الكتاب الذي لا يزال يتجاهله من ينتسبون للأشعري إلى اليوم. ويتجاهلون الحال التي انتهى إليها من مخالفة أهل الكلام والتأويل ، وموافقة الإمام أحمد في السنة واثبات الصفات .
مراحل الأشعرية الفكرية
وقد نقل المرتضى الزبيدي عن ابن كثير بيان مراحل أبي الحسن الفكرية وهي على ثلاث مراحل :
• الأولى : حال الاعتزال التي رجع عنها .
• الثانية : إثبات الصفات العقلية السبعة : الحياة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام ، وتأويل الصفات الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق . وهذه الطريقة اتبع فيها عبد الله بن سعيد بن كلاب ( ) .
• الثالثة : إثبات الصفات جميعها من غير تكييف ولا تشبيه ، جرياً على منهاج السلف ، وهذا ما يظهر في كتابه الإبانة ( ) .
غير أن أمر الأشاعرة قد استقر من بعده على المرحلة الثانية فقط .
اعتراف السبكي برجوع الأشعري إلى مذهب احمد
وقد أكد السبكي هذا الأمر وهو أن الشيخ الأشعري رجع إلى مذهب السلف وأن عقيدته هي عقيدة أحمد بلا شك ولا ارتياب ، وأن الأشعري صرح هو نفسه بذلك مراراً في تصانيفه " أن عقيدتي هي عقيدة الإمام المُبَجَّل ، أحمد بن حنبل " قال السبكي : هذه عبارة الشيخ أبي الحسن في غير موضع كلامه ( ) .
حول كتاب الإبانة للأشعري
وقد حاول البعض التشكيك في المرحلة الثالثة وأنكروا نسبة كتاب الإبانة إليه ، ولكن الدراسات الجادة التي قام بها العديد من الباحثين أكدت تمثيل هذا الكتاب للمرحلة الثالثة للأشعري ، مستبعدين أن يكون كتاب اللمع واستحسان الخوض في علم الكلام آخر كتبه ( ) .
وعمد الأحباش إلى التشكيك في صحة نسخة الإبانة التي بأيدينا ، وزعموا أن النسخ التي يعتمد عليها خصومهم " مدسوسة ولا يستطيعون أن يظهروا نسخة موثوقاً بها " ( ) .
وهل يملك الأحباش مخطوطة صحيحة سليمة من التحريف ؟
لو كانوا يملكون ذلك لأظهروه ولكنه ادعاء وتحكم .
ونحن نحتج عليهم بالفقرات التي نقل الحافظ ابن عساكر من كتاب الإبانة واستحسنه الكوثري وأقره في تحقيقه لرسالة التبيين للحافظ ابن عساكر.
توثيق الحافظ ابن عساكر والبيهقي كتاب الإبانة
- وخالفهم أعلم الناس بمذهب الأشعري وهو الحافظ ابن عساكر والحافظ البيهقي اللذان أثبتا ( ) صحة نسبته إليه .
فقد أكد ابن عساكر أن الأشاعرة القدامى لا يزالون يعتقدون ما في كتاب الإبانة أشد الاعتقاد ( ) .
قلت : إلا عند الأشاعرة المتأخرين .
قال الحافظ ابن عساكر " وأنشدني بعض أصحابنا [ في الثناء على الإبانة]:
لو لم يصنّف عمره غير الإبــانة واللمـع
لكفى ، فكيف وقـد تفنّن في العلوم بما جمـع
وحكى ابن عساكر عن أبي عثمان الصابوني النيسابوري قال : ما كان يخرج إلا وبيده كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري ويظهر الإعجاب به ( ) . وإنما يحكى ابن عساكر والصابوني ما انتهى إليه الأشعري من الاعتقاد على وجه التمدح والثناء على عقيدته .
- كذلك احتج ابن عذبة من الحنفية بالكتاب ( ) .
- وأثبته المرتضى الزبيدي في كتابه إتحاف السادة المتقين (2/4) .
- وكذلك أثبت الذهبي نسبة كتاب الإبانة للأشعري قائلا " وكتاب الإبانة من أشهر تصانيف أبي الحسن ، شهره الحافظ ابن عساكر واعتمد عليه ، ونسخه الإمام محيي الدين النووي بخطه " ( ) .
ولعل هذا ما اضطر الكوثري للاعتراف بصحة نسبته إليه غير أنه زعم في تعليقاته على تبيين كذب المفتري أن أبا الحسن كان يساير به الحنابلة ويستدرجهم ( ).
ولا نتوقع هذه التقية من الأشعري وهو الذي وقف وقفته الشجاعة في صحن المسجد وأعلن رجوعه عن الاعتزال ولا يزال التاريخ يسجل له هذا الموقف ، وهذا الاعتذار الكوثري ليس سوى طعنة في صدر الأشعري .
وقد احتج منكرو كتاب الإبانة بأن أبا بكر بن فورك ذكر مصنفات الأشعري ولم يذكر منها الإبانة ، لكن ابن عساكر استدرك على ابن فورك مصنفات أخرى للأشعري فاتته ولم يذكرها مثل رسالة الأشعري إلى أهل الثغر ورسالة الحث على البحث ( ) فلماذا لا تكون رسالة الإبانة من بينها ؟ . والمثبت مقدم على النافي .
على أن إغفال ابن فورك كتاب الإبانة لا يؤثر كثيراً فقد دوَّن الأشعري في (مقالات الإسلاميين) التزامه بمذهب السلف وأعلن إثبات الصفات كلها كالوجه واليدين والاستواء والنزول على الوجه اللائق بالله .
نقد القاعدة الكلية للرازي
ذهب الرازي الى تقديم الدليل العقلي على الأدلة الشرعية وحجته أن العقل أصلٌ في إثبات الشرع فإذا خالف الدليل الشرعي الدليلُ العقلي وجب تقديم الدليل العقلي عليه ووجب تأويل الدليل الشرعي بما يوافق الدليل العقلي ( ) ، وذهب الغزالي الى أن العقل حاكم لايكذَّب قط، وأن من كذَّب العقلَ فقد كذّّب الشرع. ولولا صدق العقل لما عُرِف النبُي من المتنبي ( ) .
أصابتهم عدوى المعتزلة
• وقد زعموا أن الاشاعرة قرروا مذهب أهل السنة بالأدلة العقلية : كذلكم قالت المعتزلة ما قبل .
وهو عودة بالناس إلى مذهب المعتزلة بعدما أبعدهم الأشعري عنه . فقد صرح القاضي عبد الجبار (رأس المعتزلة) أن " الأدلة أربعة : حجة العقل ، والكتاب ، والسنة ، والإجماع ، ومعرفة الله لا تُنال إلا بحجة العقل ( ) .
وذكر المرتضى الزبيدي أن المعتزلة " تصرفوا في الألفاظ بمقتضى عقولهم فأولوا وبدلوا " ( ) . وكفى بذلك دليلا على تسرب المرض الاعتزالي إلى المذهب الأشعري .
فالمعتزلة أنكروا عذاب القبر ( ) وبرهنوا لذلك بحجة عقلية جعلتهم يؤولون نصوص الكتاب والسنة فقالوا إننا نشق عن الميت بعد دفنه فلا نرى أثراً لأي تعذيب. وقد حكمت عقولنا بما رأت عيوننا. وبمقتضى تقديم الرازي للعقل يصيرون معذورين فيما تأولوه. وهذا يؤكد أن قانون الرازي يمثل منعطفاً اعتزالياً آخر.
فبأي ميزان حكم الرازي على أن الدليل العقلي (غير المعصوم) مقدم على الدليل الشرعي (المعصوم) ؟ وكيف حكمت عقولكم بوقوع العذاب للميت مع انعدام أثر التعذيب لمن عاين القبر؟ يلزمكم أن تقولوا بالعذاب النفساني لوقوع التعارض بين العقل والنقل بمقتضى قاعدة الرازي التي قرر فيها أنه إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل !
فما أفسد ميزان من جعل المعصوم ظنياً مؤخراً ، وغير المعصوم قطعياً مقدماً عليه . هذه دعوة إلى التخلي عن الكتاب والسنة بعد أن ضمن النبي ïپ¥ العصمة لمن تمسك بهما قائلا " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي " ولم يضمن العصمة لمن تمسك بعقله ، فإن كثيرا من الضالين عباقرة .
هؤلاء يزعمون أن العصمة حاصلة بما أوتوا من عقل .
هل وقف السلف موقفاً موافقاً لهذه القاعدة أم أن الشرع كان عندهم دائماً مقدم على عقولهم . اسمع وتدبر:
نموذج من استخدام الصحابة للعقل :
فإنه لما أنكر أعرابي أن يكون ابتاع النبي ïپ¥ منه فرسه وطلب شهوداً على ذلك فقدم خزيمة الأنصاري وقال : أنا أشهد أنك بايعته يا رسول الله ، فقال له النبي ïپ¥ بم تشهد ؟ قال بتصديقك يا رسول الله . فجعل النبي ïپ¥ شهادة خزيمة بشهادة رجلين " ( ) .
فهذه الحادثة تبين موقف العقل السليم من كلام الله ورسوله وأنه شاهد لهما بالصدق والكمال لا حاكما عليهما. وليس مدق التسليم للسمع ولا تعظيمه : تقديم العقل عليه وإلا كان ذلك قدحا في العقل نفسه ، حيث شهد بأن نصوص الشرع من عند الله وأن ما يأتي من عند الله لا يحصل فيه تناقض { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } .
فلا اعتبار لعقل لا يشهد بصدق النقل ، فالعقل ليس معصوماً والنقل معصوم والله تكفل بحفظ وحيه ولم يتكفل بحفظ عقول البشر من الزلل والخطأ .
فصفات الله صفات كمال ، والعقل دل على اتصاف الله بصفات الكمال ودل أيضاً على أن كل كمال اتصف به المخلوق وأمكن اتصاف الله به فالله أحق بهذا الكمال من المخلوق . والطعن بالأدلة النقلية طعن بالعقل الذي شهد بكمالها وعصمتها عن الزلل والخطأ لأنها من عند خالق العقل .
ومن وصية الله لعباده { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ } [ النساء 59 ] ، ولم يقل فرُدُّوه إلى عقولكم . فإن هذه العقول تتفاوت ، فمرة تثبت سبع صفات ثم تكتشف عقول المتأخرين ست صفات إضافية فيصير المجموع 13 ويكتشف آخرون سبعة أخرى فيصير المجموع 20 صفة ومن هذه العقول من يثبت صفة من الصفات فيأتي عقلٌ آخر ويجعل إثباتها كفراً . وقد تقدم تصريح العز بن عبد السلام بأن الأشاعرة مختلفون في كثير من صفات الله تعالى ( ) .
وهكذا فالعقول تتخبط ولا تستقر على شيء ، بينما أدلة الشرع ثابتة متناسقة لا تتغير. والدليل على ذلك أن ننظر إلى عبقرية رجل كابن سينا ، لم تستفد أوروبا من كتاب استفادتها من كتابه (القانون في الطب) غير أن علومه الدينية متخبطة ولم يزدد بعقله إلا زندقة وبعداً عن الهدى .
تقليد أعمى لا عقلانية
إن القوم مقلدة في الحقيقة وليس عقلانيين .
فأي عقل دل الأشاعرة على صحة اعتقاد رؤية بلا محل ؟
بل يلزم عقلا نفي رؤية الله عز وجل لأن الرؤية تكون في محل ومقابلة ، وأما رؤية من ليس فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا داخل ولا خارج محال عقلا ومردود شرعاً .
إذ أي عقل يقبل رؤية العدم ؟
فإما أن تنفوا أن الله في العلو فيلزمكم معه نفي رويته .
وإما أن تثبتوا علوه تعالى كضرورة من أجل إثبات رؤيته.
وإلا فنقول لكم ما قاله لكم المعتزلة " من سلّم أن الله ليس في جهة وادّعى مع ذلك أنه يُرى فقد أضحك الناسَ على عقله " ( ) .
مذهب أبى الحسن الأشعري في الصفات
وكان أبو الحسن الأشعري رحمه الله من المعتزلة ، غير أنه رجع عن ذلك إلى إثبات جميع ما وصف الله به نفسه ، وأعلن أن " مذهب أهل السنة والجماعة عدم التأويل، وأنهم يثبتون لله اليدين والعينين " ( ) والوجه والاستواء ولا يتأولون ذلك " ( ) .
- وقد سرد الذهبي عقيدة الأشعري الموافقة لأهل السنة وخروجه عن التأويل الذي كان عليه المعتزلة ( ) .
- غير أن المنتسبين إليه من بعده يتجاهلون ما انتهى إليه حال الأشعري رحمه الله من إثبات ما أثبته الله ورسوله. ويجهلون حقيقة عقيدة المعتزلة في كثير من كتبهم ومن هنا خفي على الأشاعرة المتأخرين التأويلات المتقدمة للمعتزلة فتبنَّواْ تأويلاتهم ودافعواعنها معتقدين أنها تأويلات أهل السنة بينما هي عين تأويلات المعتزلة .
وظن آخرون منهم أن المعتزلة لم يكونوا يؤولون الصفات وإنما كانوا ينفونها ويكذبونها. وهذا غير صحيح وإنما كانوا يقولون ما يقوله كثيرون اليوم: نؤمن بهذه الصفات لكننا نعتقد أن ظاهرها غير مراد ( ) .
بل نص أحمد على أن جهم بن صفوان كان " يتأول القرآن على غير تأويله " ( ) . فأثبت له تأويل الصفات لا جحودها .
وذكر المرتضى الزبيدي أن المعتزلة " تصرفوا في الألفاظ بمقتضى عقولهم فأولوا وبدلوا " ( )
ولو أن المعتزلة نفوا الصفات وردوها نصاً لما اختلف في كفرهم ( ) أحد وإنما كانوا يؤولون الصفات على النحو الذي نرى الأشاعرة أخذوه عنهم. فيؤولون اليد بالقدرة والاستواء بالاستيلاء والمجيء بمجيء الأمر والنزول بنزول الملك .
ولذلك نقل أبو الحسن الأشعري لنا تأويلاتهم كقولهم " نزول الله معناه نزول آياته أو نزول الملك بأمره ( ) . وهذا تأويل يصر الحبشي على أنه مذهب أهل السنة.
وفي هذا دليل على أن المعتزلة كانوا يعتمدون التأويل فانه لما ترك أبو الحسن الأشعري الاعتزال ترك معه التأويل . واعتبر تأويل المعتزلة إنكاراً لصفات الله . فأعرض عن طريقتهم وأعلن في كتابه الإبانة أنه على ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل ، هذا الكتاب الذي لا يزال يتجاهله من ينتسبون للأشعري إلى اليوم. ويتجاهلون الحال التي انتهى إليها من مخالفة أهل الكلام والتأويل ، وموافقة الإمام أحمد في السنة واثبات الصفات .
مراحل الأشعرية الفكرية
وقد نقل المرتضى الزبيدي عن ابن كثير بيان مراحل أبي الحسن الفكرية وهي على ثلاث مراحل :
• الأولى : حال الاعتزال التي رجع عنها .
• الثانية : إثبات الصفات العقلية السبعة : الحياة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام ، وتأويل الصفات الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق . وهذه الطريقة اتبع فيها عبد الله بن سعيد بن كلاب ( ) .
لقد كان الشافعي يعتبر التأويل على طريقة أهل الكلام تعطيلا ، إذ قال "إني قد اطلعت من أهل الكلام على التعطيل " ( ) .
وكان مذهبه إثبات الصفات وليس التأويل كما قال " نثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } هكذا رواه عنه الحافظ في الفتح ( ) .
وقال " السنّة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا أهل الحديث الذين رأيتهم عليها فأحلف عنهم مثل سفيان ومالك وغيرهما: الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأن الله على عرشه في سمائه ، يقرب من خلقه كيف يشاء، وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا كيف يشاء " ( ) . وقال بمثل هذه الكلمة ابن المبارك حيث سئل عن حديث النزول - كيف ينزل ؟ أجاب : " ينزل كيف يشاء " ( ) .
• روى الحافظ ابن حجر عن الشافعي أنه قال " لله أسماءٌ وصفات جاء بها كتابه ، وأخبر بها نبيه ïپ¥ الله عليه وسلم أمّتَه لا يسع أحداً ردها . فمن خالف في ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، فأما قبل ثبوت الحجة فمعذور بالجهل ( ) ، لأن عِلْمَ ذلك لا يُدرك بالعقل، ونثبت هذه الصفات وننفي عنها التشبيه ، كما نفاه عن نفسه فقال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ( ) . وهذا يبطل دعواهم " الصفات العقلية " التي تثبت بالعقل. فإن السمع هو الدليل والأصل على ما نثبته من الصفات لا العقل.
الحبشي يكذب على لسان الشافعي
غير أن الحبشي كذب على لسان الشافعي بما يخالف هذا النص. فبينما قال الشافعي قولا مطلقاً ما نصه " إن علم الصفات لا يدرك بالعقل " زعم الحبشي أن صفات الله عند الشافعي قسمان :
قسم يُعرف بالعقل كالصفات الثلاث عشرة كصفات القيام بالنفس وقيام الحوادث وجاحده يكفر بالله . والقسم الثاني لا يدرك بالعقل ( ) .
وقد قال أبو نصر السجزي " وأئمتنا كسفيان ومالك والحمّاديْن وابن عيينة الفضيل وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق متفقون على أن الله سبحانه فوق العرش وعلمه بكل مكان وأنه ينزل إلي السماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء " ( ) .
هذا موقف أهل الحديث الذين تخالفونهم : فاكذبوا ما شئتم وموهوا ما شئتم واختلقوا ما شئتم من الأعذار كالتنزيه وغيره . فإن أهل !الحديث أثبتوا هذه الصفات وصححوا أحاديثها بعد متابعتها ولم يؤولوها ووضعوها في كتب وأبواب التوحيد وكفى بذلك حجة عليكم .
مذهب عبد القادر الجيلاني في الصفات
وذكر الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله في كتابه الغنية ( ) أن الله " يقبض ويبسط ويفرح ويحب ويكره ويبغض ويرضى ويغضب ويسخط وله يدان وكلتا يديه يمين وأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه ، وأنه بجهة العلو مستو على العرش. محتو على الملك. وأن النبي ïپ¥ شهد بإسلام الجارية لما قال لها: أين الله فأشارت إلى السماء " ، وأن عرش الرحمن فوق الماء ، والله تعالى على العرش ودونه سبعون ألف حجاب من نور وظلمـة ، وأن للعـرش حداً يعلمه الله ( ) .
وأنه ينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل ، وأنه استواء الذات على العرش لا على معنى القعود والمماسة كما قالت المجسمة والكرّامية ، ولا على معنى العلو [ أي علو المنزلة ] ، والرفعة كما قالت الأشعرية ، ولا على معنى الاستيلاء كما قالت المعتزلة ( ) .
وأنه تعالى ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء لا بمعنى نزول الرحمة وثوابه على ما ادعت المعتزلة والأشعرية " ( ) . وإنما أخذ الجهمية التأويل عن الفلاسفة والباطنية، وتلقاه المعتزلة عن الجهمية.
وصدق رحمه الله فقد شهد بذلك ابن عساكر وغيره قال " وقد أخذ الجعد بن درهم ( ) بدعته عن بيان بن سمعان ، وأخذها بيانٌ عن طالوت بن أخت لبيد بن أعصم زوج ابنته ، وأخذها طالوت عن لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر النبي ïپ¥ وأخذها لبيد عن يهودي بالمدينة ( ) .
هذا هو سند المذهب الأشعري ، إنه يصل إلى الجهم عن طريق الجعد وواصل بن عطاء ، وليس يصل إلى أبي موسى الأشعري .
وقال الشهرستاني " كان واصل بن عطاء يَشرَع في نفي الصفات على قول ظاهر، وإنما شَرَعَت أصحـابُه فيـها بعد مطالعة كتب الفلاسفة " ( ) .
مذهب أبى الحسن الأشعري في الصفات
وكان أبو الحسن الأشعري رحمه الله من المعتزلة ، غير أنه رجع عن ذلك إلى إثبات جميع ما وصف الله به نفسه ، وأعلن أن " مذهب أهل السنة والجماعة عدم التأويل، وأنهم يثبتون لله اليدين والعينين " ( ) والوجه والاستواء ولا يتأولون ذلك " ( ) .
- وقد سرد الذهبي عقيدة الأشعري الموافقة لأهل السنة وخروجه عن التأويل الذي كان عليه المعتزلة ( ) .
- غير أن المنتسبين إليه من بعده يتجاهلون ما انتهى إليه حال الأشعري رحمه الله من إثبات ما أثبته الله ورسوله. ويجهلون حقيقة عقيدة المعتزلة في كثير من كتبهم ومن هنا خفي على الأشاعرة المتأخرين التأويلات المتقدمة للمعتزلة فتبنَّواْ تأويلاتهم ودافعواعنها معتقدين أنها تأويلات أهل السنة بينما هي عين تأويلات المعتزلة .
وظن آخرون منهم أن المعتزلة لم يكونوا يؤولون الصفات وإنما كانوا ينفونها ويكذبونها. وهذا غير صحيح وإنما كانوا يقولون ما يقوله كثيرون اليوم: نؤمن بهذه الصفات لكننا نعتقد أن ظاهرها غير مراد ( ) .
بل نص أحمد على أن جهم بن صفوان كان " يتأول القرآن على غير تأويله " ( ) . فأثبت له تأويل الصفات لا جحودها .
وذكر المرتضى الزبيدي أن المعتزلة " تصرفوا في الألفاظ بمقتضى عقولهم فأولوا وبدلوا " ( )
ولو أن المعتزلة نفوا الصفات وردوها نصاً لما اختلف في كفرهم ( ) أحد وإنما كانوا يؤولون الصفات على النحو الذي نرى الأشاعرة أخذوه عنهم. فيؤولون اليد بالقدرة والاستواء بالاستيلاء والمجيء بمجيء الأمر والنزول بنزول الملك .
ولذلك نقل أبو الحسن الأشعري لنا تأويلاتهم كقولهم " نزول الله معناه نزول آياته أو نزول الملك بأمره ( ) . وهذا تأويل يصر الحبشي على أنه مذهب أهل السنة.
وفي هذا دليل على أن المعتزلة كانوا يعتمدون التأويل فانه لما ترك أبو الحسن الأشعري الاعتزال ترك معه التأويل . واعتبر تأويل المعتزلة إنكاراً لصفات الله . فأعرض عن طريقتهم وأعلن في كتابه الإبانة أنه على ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل ، هذا الكتاب الذي لا يزال يتجاهله من ينتسبون للأشعري إلى اليوم. ويتجاهلون الحال التي انتهى إليها من مخالفة أهل الكلام والتأويل ، وموافقة الإمام أحمد في السنة واثبات الصفات .
مراحل الأشعرية الفكرية
وقد نقل المرتضى الزبيدي عن ابن كثير بيان مراحل أبي الحسن الفكرية وهي على ثلاث مراحل :
• الأولى : حال الاعتزال التي رجع عنها .
• الثانية : إثبات الصفات العقلية السبعة : الحياة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام ، وتأويل الصفات الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق . وهذه الطريقة اتبع فيها عبد الله بن سعيد بن كلاب ( ) .
• الثالثة : إثبات الصفات جميعها من غير تكييف ولا تشبيه ، جرياً على منهاج السلف ، وهذا ما يظهر في كتابه الإبانة ( ) .
غير أن أمر الأشاعرة قد استقر من بعده على المرحلة الثانية فقط .
اعتراف السبكي برجوع الأشعري إلى مذهب احمد
وقد أكد السبكي هذا الأمر وهو أن الشيخ الأشعري رجع إلى مذهب السلف وأن عقيدته هي عقيدة أحمد بلا شك ولا ارتياب ، وأن الأشعري صرح هو نفسه بذلك مراراً في تصانيفه " أن عقيدتي هي عقيدة الإمام المُبَجَّل ، أحمد بن حنبل " قال السبكي : هذه عبارة الشيخ أبي الحسن في غير موضع كلامه ( ) .
حول كتاب الإبانة للأشعري
وقد حاول البعض التشكيك في المرحلة الثالثة وأنكروا نسبة كتاب الإبانة إليه ، ولكن الدراسات الجادة التي قام بها العديد من الباحثين أكدت تمثيل هذا الكتاب للمرحلة الثالثة للأشعري ، مستبعدين أن يكون كتاب اللمع واستحسان الخوض في علم الكلام آخر كتبه ( ) .
وعمد الأحباش إلى التشكيك في صحة نسخة الإبانة التي بأيدينا ، وزعموا أن النسخ التي يعتمد عليها خصومهم " مدسوسة ولا يستطيعون أن يظهروا نسخة موثوقاً بها " ( ) .
وهل يملك الأحباش مخطوطة صحيحة سليمة من التحريف ؟
لو كانوا يملكون ذلك لأظهروه ولكنه ادعاء وتحكم .
ونحن نحتج عليهم بالفقرات التي نقل الحافظ ابن عساكر من كتاب الإبانة واستحسنه الكوثري وأقره في تحقيقه لرسالة التبيين للحافظ ابن عساكر.
توثيق الحافظ ابن عساكر والبيهقي كتاب الإبانة
- وخالفهم أعلم الناس بمذهب الأشعري وهو الحافظ ابن عساكر والحافظ البيهقي اللذان أثبتا ( ) صحة نسبته إليه .
فقد أكد ابن عساكر أن الأشاعرة القدامى لا يزالون يعتقدون ما في كتاب الإبانة أشد الاعتقاد ( ) .
قلت : إلا عند الأشاعرة المتأخرين .
قال الحافظ ابن عساكر " وأنشدني بعض أصحابنا [ في الثناء على الإبانة]:
لو لم يصنّف عمره غير الإبــانة واللمـع
لكفى ، فكيف وقـد تفنّن في العلوم بما جمـع
وحكى ابن عساكر عن أبي عثمان الصابوني النيسابوري قال : ما كان يخرج إلا وبيده كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري ويظهر الإعجاب به ( ) . وإنما يحكى ابن عساكر والصابوني ما انتهى إليه الأشعري من الاعتقاد على وجه التمدح والثناء على عقيدته .
- كذلك احتج ابن عذبة من الحنفية بالكتاب ( ) .
- وأثبته المرتضى الزبيدي في كتابه إتحاف السادة المتقين (2/4) .
- وكذلك أثبت الذهبي نسبة كتاب الإبانة للأشعري قائلا " وكتاب الإبانة من أشهر تصانيف أبي الحسن ، شهره الحافظ ابن عساكر واعتمد عليه ، ونسخه الإمام محيي الدين النووي بخطه " ( ) .
ولعل هذا ما اضطر الكوثري للاعتراف بصحة نسبته إليه غير أنه زعم في تعليقاته على تبيين كذب المفتري أن أبا الحسن كان يساير به الحنابلة ويستدرجهم ( ).
ولا نتوقع هذه التقية من الأشعري وهو الذي وقف وقفته الشجاعة في صحن المسجد وأعلن رجوعه عن الاعتزال ولا يزال التاريخ يسجل له هذا الموقف ، وهذا الاعتذار الكوثري ليس سوى طعنة في صدر الأشعري .
وقد احتج منكرو كتاب الإبانة بأن أبا بكر بن فورك ذكر مصنفات الأشعري ولم يذكر منها الإبانة ، لكن ابن عساكر استدرك على ابن فورك مصنفات أخرى للأشعري فاتته ولم يذكرها مثل رسالة الأشعري إلى أهل الثغر ورسالة الحث على البحث ( ) فلماذا لا تكون رسالة الإبانة من بينها ؟ . والمثبت مقدم على النافي .
على أن إغفال ابن فورك كتاب الإبانة لا يؤثر كثيراً فقد دوَّن الأشعري في (مقالات الإسلاميين) التزامه بمذهب السلف وأعلن إثبات الصفات كلها كالوجه واليدين والاستواء والنزول على الوجه اللائق بالله .
نقد القاعدة الكلية للرازي
ذهب الرازي الى تقديم الدليل العقلي على الأدلة الشرعية وحجته أن العقل أصلٌ في إثبات الشرع فإذا خالف الدليل الشرعي الدليلُ العقلي وجب تقديم الدليل العقلي عليه ووجب تأويل الدليل الشرعي بما يوافق الدليل العقلي ( ) ، وذهب الغزالي الى أن العقل حاكم لايكذَّب قط، وأن من كذَّب العقلَ فقد كذّّب الشرع. ولولا صدق العقل لما عُرِف النبُي من المتنبي ( ) .
أصابتهم عدوى المعتزلة
• وقد زعموا أن الاشاعرة قرروا مذهب أهل السنة بالأدلة العقلية : كذلكم قالت المعتزلة ما قبل .
وهو عودة بالناس إلى مذهب المعتزلة بعدما أبعدهم الأشعري عنه . فقد صرح القاضي عبد الجبار (رأس المعتزلة) أن " الأدلة أربعة : حجة العقل ، والكتاب ، والسنة ، والإجماع ، ومعرفة الله لا تُنال إلا بحجة العقل ( ) .
وذكر المرتضى الزبيدي أن المعتزلة " تصرفوا في الألفاظ بمقتضى عقولهم فأولوا وبدلوا " ( ) . وكفى بذلك دليلا على تسرب المرض الاعتزالي إلى المذهب الأشعري .
فالمعتزلة أنكروا عذاب القبر ( ) وبرهنوا لذلك بحجة عقلية جعلتهم يؤولون نصوص الكتاب والسنة فقالوا إننا نشق عن الميت بعد دفنه فلا نرى أثراً لأي تعذيب. وقد حكمت عقولنا بما رأت عيوننا. وبمقتضى تقديم الرازي للعقل يصيرون معذورين فيما تأولوه. وهذا يؤكد أن قانون الرازي يمثل منعطفاً اعتزالياً آخر.
فبأي ميزان حكم الرازي على أن الدليل العقلي (غير المعصوم) مقدم على الدليل الشرعي (المعصوم) ؟ وكيف حكمت عقولكم بوقوع العذاب للميت مع انعدام أثر التعذيب لمن عاين القبر؟ يلزمكم أن تقولوا بالعذاب النفساني لوقوع التعارض بين العقل والنقل بمقتضى قاعدة الرازي التي قرر فيها أنه إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل !
فما أفسد ميزان من جعل المعصوم ظنياً مؤخراً ، وغير المعصوم قطعياً مقدماً عليه . هذه دعوة إلى التخلي عن الكتاب والسنة بعد أن ضمن النبي ïپ¥ العصمة لمن تمسك بهما قائلا " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي " ولم يضمن العصمة لمن تمسك بعقله ، فإن كثيرا من الضالين عباقرة .
هؤلاء يزعمون أن العصمة حاصلة بما أوتوا من عقل .
هل وقف السلف موقفاً موافقاً لهذه القاعدة أم أن الشرع كان عندهم دائماً مقدم على عقولهم . اسمع وتدبر:
نموذج من استخدام الصحابة للعقل :
فإنه لما أنكر أعرابي أن يكون ابتاع النبي ïپ¥ منه فرسه وطلب شهوداً على ذلك فقدم خزيمة الأنصاري وقال : أنا أشهد أنك بايعته يا رسول الله ، فقال له النبي ïپ¥ بم تشهد ؟ قال بتصديقك يا رسول الله . فجعل النبي ïپ¥ شهادة خزيمة بشهادة رجلين " ( ) .
فهذه الحادثة تبين موقف العقل السليم من كلام الله ورسوله وأنه شاهد لهما بالصدق والكمال لا حاكما عليهما. وليس مدق التسليم للسمع ولا تعظيمه : تقديم العقل عليه وإلا كان ذلك قدحا في العقل نفسه ، حيث شهد بأن نصوص الشرع من عند الله وأن ما يأتي من عند الله لا يحصل فيه تناقض { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } .
فلا اعتبار لعقل لا يشهد بصدق النقل ، فالعقل ليس معصوماً والنقل معصوم والله تكفل بحفظ وحيه ولم يتكفل بحفظ عقول البشر من الزلل والخطأ .
فصفات الله صفات كمال ، والعقل دل على اتصاف الله بصفات الكمال ودل أيضاً على أن كل كمال اتصف به المخلوق وأمكن اتصاف الله به فالله أحق بهذا الكمال من المخلوق . والطعن بالأدلة النقلية طعن بالعقل الذي شهد بكمالها وعصمتها عن الزلل والخطأ لأنها من عند خالق العقل .
ومن وصية الله لعباده { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ } [ النساء 59 ] ، ولم يقل فرُدُّوه إلى عقولكم . فإن هذه العقول تتفاوت ، فمرة تثبت سبع صفات ثم تكتشف عقول المتأخرين ست صفات إضافية فيصير المجموع 13 ويكتشف آخرون سبعة أخرى فيصير المجموع 20 صفة ومن هذه العقول من يثبت صفة من الصفات فيأتي عقلٌ آخر ويجعل إثباتها كفراً . وقد تقدم تصريح العز بن عبد السلام بأن الأشاعرة مختلفون في كثير من صفات الله تعالى ( ) .
وهكذا فالعقول تتخبط ولا تستقر على شيء ، بينما أدلة الشرع ثابتة متناسقة لا تتغير. والدليل على ذلك أن ننظر إلى عبقرية رجل كابن سينا ، لم تستفد أوروبا من كتاب استفادتها من كتابه (القانون في الطب) غير أن علومه الدينية متخبطة ولم يزدد بعقله إلا زندقة وبعداً عن الهدى .
تقليد أعمى لا عقلانية
إن القوم مقلدة في الحقيقة وليس عقلانيين .
فأي عقل دل الأشاعرة على صحة اعتقاد رؤية بلا محل ؟
بل يلزم عقلا نفي رؤية الله عز وجل لأن الرؤية تكون في محل ومقابلة ، وأما رؤية من ليس فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا داخل ولا خارج محال عقلا ومردود شرعاً .
إذ أي عقل يقبل رؤية العدم ؟
فإما أن تنفوا أن الله في العلو فيلزمكم معه نفي رويته .
وإما أن تثبتوا علوه تعالى كضرورة من أجل إثبات رؤيته.
وإلا فنقول لكم ما قاله لكم المعتزلة " من سلّم أن الله ليس في جهة وادّعى مع ذلك أنه يُرى فقد أضحك الناسَ على عقله " ( ) .
مذهب أبى الحسن الأشعري في الصفات
وكان أبو الحسن الأشعري رحمه الله من المعتزلة ، غير أنه رجع عن ذلك إلى إثبات جميع ما وصف الله به نفسه ، وأعلن أن " مذهب أهل السنة والجماعة عدم التأويل، وأنهم يثبتون لله اليدين والعينين " ( ) والوجه والاستواء ولا يتأولون ذلك " ( ) .
- وقد سرد الذهبي عقيدة الأشعري الموافقة لأهل السنة وخروجه عن التأويل الذي كان عليه المعتزلة ( ) .
- غير أن المنتسبين إليه من بعده يتجاهلون ما انتهى إليه حال الأشعري رحمه الله من إثبات ما أثبته الله ورسوله. ويجهلون حقيقة عقيدة المعتزلة في كثير من كتبهم ومن هنا خفي على الأشاعرة المتأخرين التأويلات المتقدمة للمعتزلة فتبنَّواْ تأويلاتهم ودافعواعنها معتقدين أنها تأويلات أهل السنة بينما هي عين تأويلات المعتزلة .
وظن آخرون منهم أن المعتزلة لم يكونوا يؤولون الصفات وإنما كانوا ينفونها ويكذبونها. وهذا غير صحيح وإنما كانوا يقولون ما يقوله كثيرون اليوم: نؤمن بهذه الصفات لكننا نعتقد أن ظاهرها غير مراد ( ) .
بل نص أحمد على أن جهم بن صفوان كان " يتأول القرآن على غير تأويله " ( ) . فأثبت له تأويل الصفات لا جحودها .
وذكر المرتضى الزبيدي أن المعتزلة " تصرفوا في الألفاظ بمقتضى عقولهم فأولوا وبدلوا " ( )
ولو أن المعتزلة نفوا الصفات وردوها نصاً لما اختلف في كفرهم ( ) أحد وإنما كانوا يؤولون الصفات على النحو الذي نرى الأشاعرة أخذوه عنهم. فيؤولون اليد بالقدرة والاستواء بالاستيلاء والمجيء بمجيء الأمر والنزول بنزول الملك .
ولذلك نقل أبو الحسن الأشعري لنا تأويلاتهم كقولهم " نزول الله معناه نزول آياته أو نزول الملك بأمره ( ) . وهذا تأويل يصر الحبشي على أنه مذهب أهل السنة.
وفي هذا دليل على أن المعتزلة كانوا يعتمدون التأويل فانه لما ترك أبو الحسن الأشعري الاعتزال ترك معه التأويل . واعتبر تأويل المعتزلة إنكاراً لصفات الله . فأعرض عن طريقتهم وأعلن في كتابه الإبانة أنه على ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل ، هذا الكتاب الذي لا يزال يتجاهله من ينتسبون للأشعري إلى اليوم. ويتجاهلون الحال التي انتهى إليها من مخالفة أهل الكلام والتأويل ، وموافقة الإمام أحمد في السنة واثبات الصفات .
مراحل الأشعرية الفكرية
وقد نقل المرتضى الزبيدي عن ابن كثير بيان مراحل أبي الحسن الفكرية وهي على ثلاث مراحل :
• الأولى : حال الاعتزال التي رجع عنها .
• الثانية : إثبات الصفات العقلية السبعة : الحياة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام ، وتأويل الصفات الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق . وهذه الطريقة اتبع فيها عبد الله بن سعيد بن كلاب ( ) .