بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه

تعتبر عقيدة الأحباش خليطاً من الأفكار والمعتقادات السابقة حيث أخذوا بعضها من الأشاعرة والبعض الآخر من الخوارج المرجئة وأفكار الفرق الباطنية ، وأحياناً نجد الحبشي متناقضاً ومترددا وغير ثابت على رأي واحد .
يقول الحبشي مبيناً أن الاعتقاد في الإيمان لا يستلزم العمل لقوله : فمن لا يؤدي شيئاً من فرائض الله ، ولا يجتنب شيئاً من المحرمات ، ولكنه قال ولو مرة في العمر : " لا إلـه إلا الله " فهذا مسلم مؤمن ويقال أيضاً مؤمن مذنب وأن استحضار بقية الإسلام كالصلاة والصيام ليس بشرط في تحقيق الإيمان " موسوعة أهل السنة 2/ 1278"
اتبع الحبشي في الإيمان قول المرجئة الذين قالوا " هو اعتقاد ونطق فقط " وقد رد عليهم الإمام الشافعي وأحمد بأن الأعمال تدخل في الإيمان مستدلين بقوله تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة:5) قال الشافعي ليس عليهم أحج من هذه الآية " أنظر فتح الباري 1/48 ، )ورد عليهم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله من كتاب الله حيث قال تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}الأنفال:4)
وقال الإمام البخاري : " لقد لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في الإيمان قول وعمل يزيد وينقص " الفتح الباري : 1/47


ثانياً صفات الله تعالى : اتبع الحبشي في إثبات الصفات منهج الأشاعرة ، حيث ذكر في كتابه الصراط المستقيم أن الواجب معرفة ثلاث عشر صفة " إن الواجب العيني المفروض على كل مكلف أن يعرف من صفات الله ثلاث عشرة صفة ، الوجود- والقدم - المخالفة للحوادث ، والوحدانية - القيام بنفسه - البقاء - الإرادة - الحياة - العلم - الكلام - السمع - البصر- وانه يستحيل على الله ما ينافي هذه الصفات " كتاب الصراط المستقيم للحبشي ص 3." .
إن إتباع الحبشي لمنهج الأشاعرة في الصفات وتحديد هذه الصفات بثلاث عشرة صفة منهج مخالف لمذهب السلف ، الذي يقوم على إثبات ما أثبت الله لنفسه وما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تشبيه ولا تكييف ولا تحريف ولا تعطيل ، حيث يقول الإمام أحمد بن حنبل : " لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث . " مجموع الفتاوى 5/26 " .
وقال الإمام الشافعي : آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله ، وآمنت برسول الله ، وبما جاء به رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم " كتاب الإيمان ، محمد نعيم ياسين ، ص18" .
وقال الإمام ابن تيمية مبيناً منهج السلف : " وجماع القول في إثبات الصفات : هو القول بما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، ويصان ذلك عن التحريف والتمثيل، والتكييف والتعطيل؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فمن نفى صفاته كان معطلاً، ومن مثل صفاته بصفات مخلوقاته كان ممثلاً، والواجب إثبات الصفات ونفي مماثلتها لصفات المخلوقات، إثباتًا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل، كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء}، فهذا رد على الممثلة، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:11]، رد على المعطلة فالممثل يعبد صنمًا والمعطل يعبد عدمًا " مجموع الفتاوى 6/515 ، 5*26 " .
ومع إتباع الأحباش للأشاعرة في إثبات الصفات إلا إنهم شذوا في إثباتها كما وردت في القرآن الكريم أو السنة النبوية ، وهذا يوضحه موقفهم من صفة القوة
والكلام

يعتقد الأحباش بأن الله تعالى ليس على كل شيء قدير ، وذلك لأنهم ساروا على نهج المتكلمين والفلاسفة ، ولكن عندما يجدون النص الواضح المخالف لمعتقدهم يتجهون إلى التأويل المخالف للحق وذلك يمثله قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }(البقرة: من الآية 2.، نجدهم يقولون بأن هذه الآية " لا تعني أن الله على كل شيء قدير لأن " الكل " لا تفيد التعميم هنا ، فيصير قادراً على نفسه ، وإنما المعنى أن الله قادر على أكثر الأشياء وليس على كل شيء قدير لأن الله غير قادر على الظلم ؛ لأن الظلم ممتنع على الله "من كتاب الحبشي شذوذه وأخطاؤه ، ص 59- 6. " . إن اعتقاد الأحباش هذا يتعارض من نص القرآن الكريم الواضح الدال على قدرة الله المطلقة على كل شيء دون الدخول في متاهات الفلاسفة الضالة ، كما أنه يتعارض مع قوله تعالى في الحديث القدسي : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا ..." رواه مسلم " فتحريم الله تعالى الظلم على نفسه دليل قدرته عليه ، ولو كان غير قادر عليه لما كان هناك معنى للتحريم ويوضح هذا شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله : وهو أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه مثل: أن يترك حسنات المحسن فلا يجزيه بها ويعاقب البريء على ما لم يفعل من السيئات، ويعاقب هذا بذنب غيره، أو يحكم بين الناس بغير القسط، ونحو ذلك من الأفعال التي ينزه الرب عنها لقسطه وعدله وهو قادر عليها، وإنما استحق الحمد والثناء؛ لأنه ترك هذا الظلم وهو قادر عليه. وكما أن الله منزه عن صفات النقص والعيب فهو - أيضًا - منزه عن أفعال النقص والعيب " كتاب منهاج السنة النبوية 1/271 ، مجموعة الرسائل المنيرة 3/211 . وقال شارح الطحاوية معلقاً على الحديث :" فهذا يدل على أنه حرمه على نفسه ، كما أخبر أنه كتب على نفسه الرحمة ، وهذا يبطل احتجاجهم ، بأن الظلم لا يكون إلا من مأمور منهي ، والله ليس كذلك ، فيقال لهم : هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة ، وحرًَّم على نفسه الظلم ، وإنما كتب على نفسه وحرَّم على نفسه ما هو قادر عليه لا ما هو ممتنع عليه " شرح العقيدة الطحاوية ، ص 85 "


اولا - كلام الله : لقد أعلن الحبشي أن القرآن الكريم في الحقيقة كلام جبريل وليس كلام الله تعالى ، وذلك حين اعتبر أن لفظ القرآن الكريم منزل عبارة عن كلام الله حيث قال : " اللفظ المنزل الذي هو عبارة عن الكلام الذاتي - كتاب إظهار العقيدة السنية ، ص85 - ثم استدل على ذلك بقوله : " ويدل على هذا قوله تعالى : { إنه لقول رسول كريم } حيث أضافه إلى جبريل---- وقد ورد إسناد القراءة لله تعالى مراداً به قراءة جبريل ؛ لأنها بأمر الله تعالى ، قال الله تعالى : { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } ولا معنى لذلك إلا أن جبريل يقرأه بأمر الله تعالى له بذلك " - من كتاب إظهار العقيدة السنية للحبشي ص 85 - 86 "
كما صرح الحبشي من كتابه " الدليل القويم " : بأن القرآن بمعنى اللَّفظ المُنزل هو غير كلام الله - من كتاب الدليل القويم " ص 69" - وهذا تصريح واضح منه بأن القرآن ليس من كلام الله .

إن الأحباش وافقوا في قولهم هذا قول من قال : { إن هذا إلا قول البشر } حيث توعده الله بسقر عقاباً على قوله ، قال تعالى : { سَاُصليه سَقَر } .فكل من انكر ان القرآن عين كلام الله فله سقر كما للوليد الا ان يتوب والله تعالى يقول فأجره حتى يسمع كلام الله ولم يقل كلام النبي او جبريل عليهما الصلاة والسلام

وقد وضَّح الإمام الطحاوي عقيدة السلف في كلام الله تعالى بقوله : " وإن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولاً ، وأنزله على رسوله وحياً ، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً ، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ، ليس مخلوق ككلام البرية ، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر ، وقد ذمه الله وعابه واوعده بسقر ، كتاب شرح العقيدة الطحاوية ص : 179 .

وينكر الحبشي أن يكون كلام الله بحرف أو بصوت أو بلغة فيقول : ليس هو بحرف ولا صوت ولا لغة عربية ولا غيرها والحاصل أنه إن قصد بكلام الله اللفظ المُنزل الذي بعضه بلغة العرب ، وبعضه بالعبرانية وبعضه بالسريانية فهو حادث مخلوق لله ... ، وكل يُطلق عليه كلام الله ، أي أن صفة الكلام القائمة بذات الله يقال لها كلام الله ، واللفظ المُنزل الذي هو عبارة عنه يقال له كلام الله " من كتاب الصراط المستقيم للحبشي ص33 .

وهذا الكلام واضح البطلان ، لأن الكلام صفة لله تعالى يجب إثباتها لله تعالى دون تشبيه أو تكييف أو تعطيل أو تحريف ، لأنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء ، وهو يتكلم به بصوت يُسمع

فأما ما دل على ذلك من الكتاب :
فقوله تعالى : { وأنا أخترتك فاستمع لما يوحى } { طه : 13 } . وقول الله تعالى : { وكلم الله موسى تكليما } { النساء : 164 } . وقوله تعالى : { منهم من كلم الله } { البقرة : 253 } . وقوله سبحانه وتعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب … } الآية { الشورى : 51 } . وقوله تعالى : { وإذ نادى ربك موسى } { الشعراء : 10 } . (( فدل هذا على أن سمع كلام الله تعالى ، ولا يسمع إلا الصوت ، وربنا تعالى قد خاطبنا باللسان العربي الذي نفهمه ، وليس فيه سماع يحصل من غير صوت ))(1) .

? وأما ما دل على ذلك من السنة : فحديث عبدالله بن مسعود ? قال : إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع صوته أهل السماء ، فيخرون سجداً ، حتى إذا فزع عن قلوبهم ، قال : سكن عن قلوبهم ، ونادى أهل السماء : ماذا قال ربكم ؟ قال : الحق ، قال : كذا ، وكذا . رواه عبدالله بن الإمام أحمد في السنة ( 536 ) بسند جيد . وفي رواية : (( إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء له صلصلة كصلصلة الحديد على الصفا )) . أخرجه عبدالله في السنة ( 537 ) ، وابن خزيمة في التوحيد ( ص : 145 – 147 ) ، والدرامي في (( الرد على الجهمية )) ( ص : 91 ) . وسنده صحيح . ونقل عبدالله بن الإمام أحمد عن أبيه قوله : (( حديث ابن مسعود ? : إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت حجر السلسلة على الصفوان ، قال أبي : وهذا الجهمية تنكره )) . ومثله لا يقال بمجرد الرأى أو العقل ، فله على ذلك حكم الرفع ، كما قرر علماء الحديث ، بل وردت بعض روايات هذا الخبر مرفوعة ، إلا أنها شاذة ، فقد تفرد برفعها بلفظ مغاير عن العمش أبو معاوية الضرير محمد بن خازم ، عن النبي ? ، قال : (( إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا …. )) الحديث أخرجه أبو داود ( 4738 ) ،


? وقد أثبت الإمام أحمد الكلام بصوت لله عز وجل : فقال عبدالله بن الإمام أحمد – رحمهما الله – في السنة ( 533 ) : سألت أبي – رحمة الله – عن قوم يقولون : لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت ، فقال أبي : ، بلى ، إن ربك عز وجل تكلم بصوت ، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت )) . وهذا الخبر رواه النجاد في (( الرد على من يقول القرآن مخلوق )) ( ق : 87 / ب ) عن عبدالله به .

ثانيهما : تصحيحه لهذه الأخبار الواردة في إثبات الصوت ، حيث قال : (( هذه الأحاديث نرويها كما جاءت )) ، فدل بذلك على أنه يثبت الصفة كما جاءت ولا يتاولها كما أدعى هذا الأفاك الأثيم . وقال الإمام عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث التميمي – رئيس الحنابلة في عصره – المتوفي سنة 410هـ في كتابه (( اعتقاد الإمام احمد )) مخطوط – وهو مروي عنه بإسناد صحيح – ( ق : 52 / ب ) : ((وكان يقول – أي الإمام أحمد : - إن القرآن كيف يصرف غير مخلوق ، وأن الله تعالى تكلم بالصوت والحرف ، وكان يبطل الحكاية ويضل القائل بذلك )) . وفي هذا رد على ملا على القاري فيما نقله عنه السقاف في (( إلقام الحجر )) ( ص : 24 ) حيث قال : ( قال المحدث علي القاري في شرح الفقه الأكبر ( ص : 29 – 30 ) : ومبتدعه الحنابلة قالوا كلامه حروف وأصوات تقوم بذاته ، وهو قديم ) . فهذا الذي بدع به بعض الحنابلة من إثبات الصوت واحرف منقول باسانيد صحيحة عن الإمام احمد – رحمه الله - .

وممن أثبت الصوت لله عز وجل الإمام البخاري رحمه الله كما سوف ياتي ذكره .

وأصرح من خبر ابن مسعود : حديث عبدالله بن انيس ? قال : سمعت النبي ? يقول : (( يحشر الله العباد – أو الناس – عراة غرلاً بهماً )) ، قلنا : ما بهماً ؟ قال : (( ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه من بعد – أحسبه قال : كما يسمعه من قرب – أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من اهل الجنة يدخل الجنة …..الحديث )) . وهذا الخبر قد أعله السقاف في كتابه إلقام الحجر ( ص : 29 – 31 ) . وفي كلامه على إعلال هذا الحديث ما يدل على جهله بهذه الصناعة ، وقلة باعه فيها ، وعدم تجريه لأقوال العلماء ، هذا إذا حسناً فيه الظن ، وإلا فهو متجاهل ملبس ، يدلس الأقوال ويبتر منها مالا يوافق رأيه ، ليثبت بدعه . وسوف نتكلم بشيء من التفصيل على طرق هذا الحديث إن شاء الله تعالى .

أن نفي الكلام بحرف عن الرب عزّ وجل ليس قولاً لأهل السنة والجماعة كما ادعى السقاف ، وإنما هو قول الأشاعرة والماتريدية والكلابية ومن شابههم من أهل البدع . وأما أهل السنة والجماعة وعلى رأسهم إمامهم الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السلف – رضوان الله عليهم – فيثبتون الكلام بحرف للمولى عزّ وجل . قال الإمام عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث التميمى – رئيس الحنابلة في عصره – في كتابه (( اعتقاد الإمام أحمد )) - مخطوط – (ق: 52/ب) : (( وكان يقول – أي الإمام أحمد - : إن القرآن كيف يصرف غير مخلوق ، وإن الله تعالى تكلم بالصوت والحرف ، وكان يبطل الحكاية ويضلل القائل بذلك )). وصنَّف الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن منده الأصبهاني كتاباً في إثبات الحرف ، والرد على من ينفيه ، سامه : (( الرد على من يقول : {ألم} حرف لينفي الألف واللام والميم عن كلام الله عز وجل ))(8) .

وأما أدلة إثبات الحرف لله تعالى ، فهي :
1 – حديث عبدالله بن عباس ? قال : بينما جبريل قاعد عند النبي ? سمع نقيضاً من فوقه ، فرفع رأسه ، فقال : (( هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك ، فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض ، ولم ينزل قط إلا اليوم ، فسلم ، وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته )) .
أخرجه مسلم (1/554) ، والنسائي (2/138) من طريق : عمار بن رزيق ، عن عبد الله بن عيسى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس به .
2 – حديث عبدالله بن مسعود – ? - قال : (( تعلموا القرآن ، فإنه يُكتب بكل بحرف منه عشر حسنات ، ويكفر عن عشر سيئات ، أما إني لا أقول : { ألم } ولكن أقول : ألف عشر ، ولام عشر ، وميم عشر )) .
أخرجه ابن أبي شيبة (6/118) بسند صحيح ، واختلف في وقفه ورفعه ، والأصح الوقف ، وله حكم الرفع .
3 – قول ابن عباس – ? - : (( ما يمنع أحدكم إذا رجع من سوقه ، أو حاجته ، إلى أهله ، أن يقرأ القرآن فيكون له بكل حرف عشر حسنات )) .
أخرجه ابن المبارك في (( الزهد ))(807) بسند جيد (9) .

وأما السقاف : فيذهب إلى القرآن الذي نقرؤه مخلوق ، وهو معبِّر عن كلام الله الأزلى . قال في كتابه (( إلقام الحجر )): (( أخبر المولى تبارك وتعالى الخلق أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذه العبارات المخلوقة – { يقصد القرآن الكريم } - المعبرة عن كلامه الأزلى الأبدى الذي ليس بحرف ولا صوت ولا لغة ، كما أخبر أنهم عاجزون أن يخلقوا إنساناً بل بعوضه ….. وأن هذه الألفاظ المخلوقة باللغة العربية المنزلة على سيدنا رسول الله … ولو كانت قديمة لما كانت في كتاب حادث مخلوق ولما تصوّر مسها ولا كتابتها في اللوح المحفوظ الذي خلقه الله تعالى وأحدثه وأجرى القلم عليه بأشياء كثيرة ) .

قلت : هذا والله اعتقاد الجهمية ولكن بطريقة توهم القارئ بأنه مخالف له ، ولنا مع هذا الكلام وقفه . فإنه قد استدل على كون القرآن الذي نقرؤه ونحفظه ، ويسطر في المصاحف ، ويحفظه الصبيان في الكتاتيب مخلوق !! – والعياذ بالله – بأنه لو كان قديماً لم يسطر في كتاب حادث ، ولما تصور مس هذا الكتاب ، ولا كتابته في اللوح المحفوظ المخلوق ، وجوابنا عن هذا : بأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا في كتابه العزيز بتكليمه لموسى ، فقال { وكلم الله موسى تكليماً } { النساء : 164 } وقال له : { فاستمع لما يوحى } { طه : 13 } . (( فدل هذا على أنه سمع كلام الله تعالى ، ولا يسمع إلا الصوت ، وربنا تعالى قد خاطبنا باللسان العربي الذي نفهمه ، وليس فيه سماع يحصل من غير صوت ( 10 ) ، فهو كلام مسموع بالآذان وليس من قبيل الإلهامات . فهل سماع موسى عليه السلام بأذنه الحادثة المخلوقة يمنع منكون كلام اله الذي تكلم به إليه قديم غير حادث ؟! وقال تعالى لنبيه ? : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } {التوبة :6} . فوصف سبحانه وتعالى هذا القرآن الذي نتلوه بألسنتنا الحادثة ، وتحفظه قلوبنا المخلوقة بأنه كلام الله ، وأنه يا محمد إذا استجار بك أحد من المشركين فأجره حتى يسمع بأذنه – وهي مخلوقة – كلام الله سبحانه وتعالى الُمنزل إليك – غير المخلوق - ، وإن كنا أثبتنا الكمال المطلق لله سبحانه ، فلا يعزب عن قدرته أن يُسمع موسى المخلوق باذنه الحادثة كلام الله سبحانه الذي هو صفة من صفاته غير المخلوق ، وإلا لو نفينا ذلك ، لتناقض الإثبات مع النفي .

ولكن السقاف تأول هذه الآية ، فقال : ( وأما معنى قوله تعالى { فأجره حتى يسمع كلام الله }أي اتل عليه هذه الألفاظ التي خلقتها وعلمتك إياها ، والتي تعبر عن كلامي الأزلى ، والتي لم يصنفها أحد واتي تقرؤها بفمك الحادث ، وتقرير ذلك في كتاب خلق أفعال العباد للإمام البخاري – رحمه الله تعالى - ) .

قلت : وهذا صرف لظاهر الكلام عن حقيقته ، وهو التأويل المذموم الذي ذمه السلف ، والذي نُهينا عنه ، ثم تناقض هنا فقال في أول كلامه : (( أي اتل عليه هذه الألفاظ التي خلقتها )) ، ثم قال بعد ذلك : (( والتي لم يصنفها أحد )) . والأعجب من ذلك أن السقاف تمادى في تدليسه فأحال القارئ إلى كتاب (( خلق أفعال العباد )) للبخاري ، وكأن البخاري يقول بمثل قوله !! وهاهو إمام رضي من أئمة السلف – رضوان الله عليهم أجمعين – يثبت أن هذا القرآن المثبت في المصحف ، المتلو بالألسنة ، المحفوظ في الصدور هو من كلام الله سبحانه غير حادث . هذا الإمام هو : سفيان بن عيينة – رحمه الله - .

قال الترمذي في (( الجامع )) (2884) : حدثنا محمد بن إسماعيل – ( وهو البخاري ) – قال : حدثنا الحميدى ، حدثنا سفيان بن عيينة – في تفسير حديث عبد الله بن مسعود قال : ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي – قال سفيان : لأن آية الكرسي هو كلام الله ، وكلام الله أعظم من خلق الله من السماء و الأرض. وسند هذا الخبر صحيح . وفيه ما يدل على أن آية الكرسي من كلام الله – على الحقيقة – غير الحادث ، بل الذي هو صفة من صفاته .

وعلى قول السقاف ، فلا بد أن يقول أيضاً أن تلاوة جبريل للنبي ? مخلوقة ، فإن قال بذلك خالف ما عليه السلف ، وإن لم يقل لزمه التسليم بأن ما في المصحف من قرآن غير مخلوق . قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابورى في (( مسائله للإمام أحمد ))(1853) : ((وسمعت أبا عبدالله يقول : من زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي . وقال : أرايت جبريل عليه السلام ، حيث جاء إلى النبي ? فتلا عليه ، تلاوة جبريل للنبي ? ، أكان مخلوقاً ؟! ما هو مخلوق )) .

وقد أنكر العلماء – رحمهم الله أجمعين – من قال بمثل مقولة السقاف ، بل كفر بعضهم من اعتقدها أو دان بها ، وإليك جملة من اقوالهم – رحمهم الله تعالى .

قال الإمام احمد بن حنبل – رحمه الله - : (( القرآن علم من علم الله ، ومن زعم أن القرآن مخلوق ، فقد كفر بالله تعالى ))(11) . ونقل عبد الواحد بن عبد العزيز التميمى في (( اعتقاد الإمام أحمد )) عنه : (( وكان يبطل الحكاية ، ويضلل القائل بذلك ، وعلى مذهبه : أن من قال : إن القرآن عبارة عن كلام الله عز وجل فقد جهل وغلط ))(12) . والحكاية : هي ما ذهب إليه السقاف ، من أن كلام الله عز وجل معنى قائم بذاته ، وأن ما تتلوه الألسنة وتحفظه القلوب ، وما يسطر في الصحف عبارة عنه ، وحكاية له ، وهي دلالات ، والدلالات مخلوقة ، كذا زعموا !!

وقال الإمام البخاري – رحمه الله – (13) : سمعت عبيدالله بن سعيد ، يقول : سمعت يحيى بن سعيد ، يقول : ما زلت أسمع من أصحابنا يقولون : إن أفعال العباد مخلوقة . قال أبو عبدالله – ( هو البخاري ) - : حركاتهم ، وأصواتهم ، واكتسابهم ، وكتابتهم مخلوقة ، فأما القرآن المتلو المبين ، المثبت في المصحف ، المسطور ، المكتوب ، الموعي في القلوب ، فهو كلام الله ليس بخلق ، قال الله : { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } { العنكبوت : 49 } .

وقال الإمام الحافظ بن محمد بن الحسين الآجرى رحمه الله (14) : (( من قال : إن هذا القرآن الذي يقرؤه الناس ، وهو في المصاحف : حكاية لما في اللوح المحفوظ ، فهذا قول منكر تنكره العلماء ، يقال لقائل هذه المقالة : القرآن يكذبك ، ويرد قولك ، والسنة تكذبك وترد قولك )) . ثم قال (15) : (( حكمه : أن يهجر ، ولا يكلم ، ولا يصلى خلفه ، ويحذر منه )).

وقال الإمام المفسر الحافظ محمد بن جرير الطبري – رحمه الله – في ذكر اعتقاده المسمى بـ (( صريح السنة )) (16) : (( فأول ما نبدأ فيه بالقول من ذلك كلام الله عز وجل وتنزيله ، إذ كان من معاني توحيده : فالصواب من القول في ذلك عندنا : أنه كلام الله عز وجل غير مخلوق ، كيف كُتب ، وكيف تُلي ، وفي أي موضع قرئ ، في السماء وجد ، أو في الرض حيث حفظ ، في اللوح المحفوظ كان مكتوباً ، أو في ألواح صبيان الكتاتيب مرسوماً في حجر منقوش ، أو في ورق خُطّ ، في القلب حُفظ ، أو باللسان لفظ ، فمن قال غير ذلك ، أو ادعى أن قرآناً في الأرض أو في السماء سوى القرآن الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا ، أو اعتقد غير ذلك بقلبه أو أضمره في نفسه ، أو قال بلسانه دائناً به فهو كافر ، حلال الدم ، وبريء من الله والله بريء منه لقول الله جل ثناؤه : { بل هو قرىن مجيد في لوح محفوظ } ، وقال – وقوله الحق - : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } فأخبرنا جل ثناؤه أنه في اللوح المحفوظ مكتوب ، وأنه من لسان محمد ? مسموع ، وهو قرآن من محمد مسموع ، وفي اللوح المحفوظ مكتوب ، وكذلك في الصدور محفوظ ، وبألسن الشيوخ والشبان متلو )) .

وقال أبو القاسم بن منده – رحمه الله - : بعد روايته لحديث عوف بن مالك – رضي الله عنه – مرفوعاً : (( من قرأ حرفاً من القرآن كُتبت له حسنة ، ولا أقول { ألم ذلك الكتاب } ولكن الألف حرف ، واللام حرف ، والميم … )) . قال : (( والمبتدع يشير بهذه الحروف إلى قرآن سوى ذلك الكتاب ، فقد صار القرآن عنده قرآنين : مجازاً وحقيقته ، والمجاز عنده مخلوق ، وصاحب الحديث يعرف قرآناً غير هذا الذي يراه المبتدع مخلوقاً )) (17) .

وفيما ذكرناه كفاية للبيب في إثبات الكلام لله تعالى ، والرد على السقاف فيما نفاه من ذلك ، وقوله بالحكاية . أعاذنا الله وعامة المسلمين من الضلال بعد الإيمان .