بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله
صفات أولياء الله بُشرى تزفُّها إليك الملائكة إن كنت ممن لا يحزنون على ما فاتهم ولا يخافون مما سيأتي، أو ممن عرفوا الله فاستقاموا على طاعته، أو ممن يتقرّب إلى الله بالنوافل، أبشر أنت من أولياء الله تعارف المجتمع على أن الأولياء هم الدراويش والمشايخ، وهم قوم ماتوا ودفنوا في قبور تتبرّك بهم الناس أو المجانين في الطريق لا ليس هذا معنى الولي، إنما الأولياء لهم صفات وعلامات تُميِّزهم عن غيرهم سوف نتعرف عليها، وقبل أن نبدأ في ذكر هذه الصفات لابد أن نعلم أولاً من هو الولي:
- الولي هو النَّصير الذي ينصر الله تعالى، وينصر دينَه وشريعته. قال الحافظ ابن حجر: "المراد بولي الله العالِمُ بالله تعالى المواظب على طاعته المخلص في عبادته". قال شيخ الإسلام: "فكل من كان مؤمناً تقياً كان لله ولياً".
وقيل: "إنه هو القريب، فقلب المؤمن الولي لله تعالى يحيا بالله، ينشغل بطاعة الله. إن سمع شيئاً سمع آيات الله، وإن نطق نطقَ بالثناء على الله وحَمْدِهِ وشُكْرِه، إن تحرَّكَ تحرّكَ في الدعوة إلى الله، وفي خدمة المسلمين، ورعاية الناس والإحسان إليهم".
أقسام الولاية:
قال الشيخ بن عثيمين: "والولاية تنقسم إلى:
1- ولاية من الله للعبد إذ يقول الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة من الآية:257]، والولاية التي من الله للعبد تنقسم إلى:
أ- ولاية عامة.
ب- ولاية خاصة.
فالولاية العامة هي: الولاية على العباد بالتدبير والتصريف، وهذه تشمل المؤمن والكافر وجميع الخلق، فالله هو الذي يتولى عباده بالتدبير لشؤونهم وتصريفها ويستوي في ذلك مؤمن وكافر، فمن بيده مقاليد الأمور في هذا الكون إلا الله سبحانه وتعالى ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].
2- والولاية الخاصة: أن يتولى الله العبد بعنايته وتوفيقه وهدايته، فقد يكون هناك طريق خيرٍ وطريق شرّ، فيهدي الله العبد الصالح إلى طريق الخير ويُجنّد له الجنود لنُصرته وتأييده، وهذه خاصة بالمؤمنين، وهي درجة رفيعة يختص الله بها من يشاء ويحب من عباده، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63].
- وولاية من العبد لله: إذ يقول الله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]".
وفي تفسير هذه الآية: "إنه مَنْ وَثِقَ بِاَللَّهِ وَتَوَلَّى اللَّه وَرَسُوله وَالْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْل حَاله مِنْ أَوْلِيَاء اللَّه مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، لَهُمْ الْغَلَبَة وَالدَّوَائِر وَالدَّوْلَة عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ وَحَادَّهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ حِزْب اللَّه، ولأنهم قوم انتصروا لله على أنفسهم، فحق أن يكونوا من حزب الله وأولئك هم الغالبون.
وهناك على الجانب الآخر من قَبِلوا ولاية الشيطان أعاذنا الله وإياكم منه قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، حتى الجهاد هناك من يقاتل نصرة للشيطان وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، أولياءَ الشيطان: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ . إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:98-100]، وماذا يفعل الشيطان بأوليائه؟
قال تعالى: {إن الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ . إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:173-175]؛ يُخوِّف من يتّبعه ولا يُؤمِّنه أبداً يُخوِّفه على أولاده، فيجعله يجبُن عن الجهاد في سبيل الله ويبخل بماله أن ينفقه في سبيل الله ويُخوِّفه من الموت ومن لقاء الله، يُخوِّفه على المستقبل بصفةٍ عامة. أتتخذ من عادى أبيك من قبل وليٌ باتباعه في ما يُوسوس به، كيف ذلك وهو أوّل من يتبرأ منك يوم القيامة؛ إذ تقول آيات الله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16].
أما أولياء الله فهم الآمنون في الدنيا والآخرة إذ يقول المولى عز وجل: {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
وهذا هو جزاء من تولّى الشيطان فتبعه الخسران في الدنيا والآخرة؛ إذ يقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا . يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء:119-121].
فانتبهوا يا أولي الألباب، وليحذر كل مِنَّا أن يكون متّبع الله في العلانية وصديق للشيطان في سريرتك ولنتعرّف سوياً على صفات أولياء الله
صفات أولياء الله:
- أنهم أهل التقوى والأمن والبُشرى: قال سبحانه وتعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62-64].
فقد ذكر الله في هذه الآيات أن أولياء الله هم أهل الأمن والسكينة، وأنهم قد نالوا هذه الدرجة بتقواهم وخشيتهم لربهم، لذا فقد استحقوا البُشرى بالفوز والنجاة والفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في (تفسير القرآن العظيم) في تفسير الآية: "يُخبِر تعالى عن أوليائه وأحبائه، ويذكر أعمالهم وأوصافهم، وثوابهم فقال: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فيما يستقبلونه مما أمامهم من المخاوف والأهوال، {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما أسلفوا، لأنهم لم يسلفوا إلا صالح الأعمال، وإذا كانوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ثبُت لهم الأمن والسعادة، والخير الكثير الذي لا يعلمه إلا الله تعالى؛ لأن الله تعالى أعطاهم صكَّ الأمان، فهم آمنون من العذاب؛ لأنهم حفظوا الله تعالى في دنياهم، فحفظهم في الدنيا والآخرة.
وإذ عرّفنا التقوى فهي: أن لا يجدك حيث نهاك وألا يفتقدك حيث أمرك، وهي وصية جميع الرسل لأقوامهم؛ إذ يقول المولى عز وجل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ . إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:60-61]، وأنها اللباس الذي يستر عوراتنا الداخلية من حقد وحسد وأمراض قلوب أخرى إذ يقول المولى عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف من الآية:26].
وهي سبب النجاة من النار إذ يقول الله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اِتَّقَوْا وَنَذَر الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72]، هذه التقوى التي جعلت أبو بكر الصديق يتقيأ ما أكله عندما أخبره غلامه أنها كانت من كهانةٍ تكهّن بها لشخص، وهي التي جعلت عمر بن عبد العزيز أن يشمّ العطر الذي جاء لبيت مال المسلمين؛ لأن النفع إنما يكون بالرائحة فكره أن ينتفع بها دون المسلمين، فلنتقِ الله ما استطعنا حتى نكون من أولياء الله، وفي تفسير: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ عن أبو ذر الغفاري قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : "أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال: «تلك عاجل بشرى المؤمن»، وفي رواية: "ويٌحبّه الناس عليه"، وفي رواية: "ويَحمده الناس" (أخرجه مسلم [2642]).
أما البشارة في الدنيا، فهي: الثناء الحَسن، والمودة في قلوب المؤمنين، والرؤيا الصالحة كما يقول المولى عز وجل في الحديث القدسي قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله إذا أحبّ عبداً دعا جبريل عليه السلام فقال: إني أحب فلاناً فأحبه»، قال: «فيُحبّه جبريل، ثم يُنادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبُّوه فيُحبّه أهل السماء» قال: «ثم يوضع له القبول في الأرض»، وما يراه العبد من لطف الله به وتيسيره لأحسن الأعمال والأخلاق، وصرفه عن مساوئ الأخلاق.
وأما البشرى في الآخرة فهي بالجنة والرضوان من المولى عز وجل، والبُشرى لهم عند الموت، يقول المولى عز وجل: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت من الآية:30]، تُبشِّرهم الملائكة في لحظة الاحتضار بالجنة، وليس هذا فقط وإنما هم لأنهم لا يخافوا في الدنيا فاستحقوا أن يؤمنهم ربهم يوم القيامة من الفزع الأكبر؛ إذ يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ . لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ . لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنباء:101-103]، هكذا أولياء الله في منأً عن النار لا يسمعون صوتها فضلاً عن أنهم لا يرونها".
والآن اسأل نفسك إذا كنت ممن لا يخاف من المستقبل ولا يحزن على الماضي، فأبشر أنت من أهل الأمن والتقوى في الحياة الدنيا.
2- أنهم أهل التقرب إلى الله بما يحب: عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عبدي بشيء أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عبدي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شيء أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» (أخرجه البخاري).
بالمحافظة على الفريضة والتزوُّد بالنوافل من صيامٍ وقراءةِ قرآنٍ وقيامِ ليلٍ وصدقاتٍ تتقرّب بها إلى المولى عز وجل ويقترّب هو منك بالحفظ فيحفظك بقرآنك من النظرة الحرام ويحفظك بالمداومة على المسجد من السير إلى الحرام، ويحفظك بالصيام من أكل مالٍ حرام وهكذا كلما اقتربت أصبحت ولي لله وتجده يكره أن يُسئ إليك ويُعيذك من كل ما تخافه فأنت من الآمنين في الحياة الدنيا والآن اسأل نفسك هل أنت ممن يتقرّب إلى الله بالنوافل؟ ابشر أنت ولي لله أنهم هم الذين إذا رُؤوا ذُكِر الله: قال سبحانه وتعالى: {...سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ...} [الفتح من الآية:29]، يبدوا على وجوههم أثر الطاعة، وإن للطاعة نوراً وإشراقاً وحلاوةً ولذةً تبدو على أهل الطاعات.
يقول بن عباس: "إن للحسنة ضياءً في الوجه ونوراً في القلب وقوةً في البدن وسعةً في الرزق ومحبةً في قلوب الخلق بأنهم من خيار الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ الأَنْصَارِيَّةِ قالت: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى، قال: «فَخِيَارُكُمُ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ الله تعالى» (أخرجه أحمد)، هل رأيت يوماً رجل على وجه النور ذكّرك بصلاتك الفائتة أو بدرسِ علمٍ قد تركته من فترةٍ طويلةٍ وانشغلت؟ أين هؤلاء الناس الآن؟ سُئل أحد الصالحين: "ما بال المتهجدين أحسن الناس وجهاً؟"، فقال لهم: "أولئك قومٌ خلَوا بالحبيب فألبَسَهم من نوره".
كانوا طِوال الليل مع الله سبحانه وتعالى في حالة ذكرٍ، وسجودٍ، وقيامٍ، وركوعٍ، وتلاوةٍ، ودعاءٍ واستغفار، فألبسهم الله تعالى من نور عبادته، وأذاقهم من حلاوة طاعته، فظهر ذلك على وجوههم نوراً وسِيْماً وعلامةً يعرفهم بها الناس، فإذا رأوهم ذكروا الله تعالى.
والآن اسأل نفسك: هل أنت ممن إذا رُؤوا ذكر الله؟ أبشر أنت ولي لله إنهم قوم تحابوا في الله: يقول الله عز وجل: «إن من عبادي لعباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء»، قيل: من هم يا رسول الله لعلّنا نحبهم؟ قال: «هم قوم تحابوا بروح الله على غير أموالٍ ولا أنساب، وجوههم نورٌ على منابرٍ من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ثم تلا هذه الآية: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}» (رواه أبو داود).
إن هذه الصفة التي حدّدها النبي صلى الله عليه وسلم للأولياء هي صفة عظيمة، فهم يجتمعون على طاعة الله، ويتفرقون على طاعته، ويتعاونون على البِرّ والتقوى، روحهم روحٌ إيمانية، مجالسهم مجالس ذكر ووعظ وتلاوة للقرآن.
وإنهم قوم ذاقوا طعم الإيمان؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنس بن مالك: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان... وأن يُحبّ المرء لا يُحبّه إلا لله...» (من حديثٍ أخرجه البخاري).
من خصائصهم:
- أن الله سبحانه وتعالى يُجري على أيديهم الكرامات -الخوارق للعادة- تأييداً وتكريماً لهم.
فها هي مريم عليها السلام أكرمها الله سبحانه "بالرزق الطيب بأنواع الطعام والشراب، ووصوله إلى محرابها، وكذا ما أيدها الله به من الحمل من غير زوج، وظهور المساعدات الربانية عند الولادة، والرُّطب الجني من النخلة اليابسة، والنهر الصافي، وكذا نُطق عيسى في المهد أمام قومها".
كلها من المعجزات والكرامات التي يعطيها الله سبحانه وتعالى لكل من تقرّب إليه بالطاعات، وهناك مثالٍ آخر لأصحاب الكهف أكرمهم الله بكرامات كثيرة: "من نومهم المدة الطويلة ثلاثمائة وتسع سنين، وحفظ أجسامهم من التغيير وتقلبيهم في نومهم، وصرف الشمس عنهم، وقيامهم من نومهم بعد تلك المدة".
كلها أمور تنطق أن لله جنود السموات والأرض يسخرها لمن يشاء من عباده، ولكن اقترب وكن ايجابي في مواجهة الباطل وليس من الأنبياء والصديقين فقط إنما من السلف التابعين عندما يتيقن المسلم الله يرزقه من حيث لا يحتسب في أي زمانٍ ومكان.
تُروى كرامة لأبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى -وهو من سادة التابعين أيضاً- قالت له زوجته مرة: "ليس عندنا دقيق، فقال لها: هل عندكِ شيء؟ قالت: ليس عندي إلا درهم بعتُ به غَزْلاً، قال: أعطِنيه وهاتي الجِراب، فدخل السوق، فأتاه سائل، وألحّ عليه في السؤال، فأعطاه الدرهم، وعاد إلى بيته وقد ملأ الجرابَ نشارة خشب مع تراب، وأتى وقلبه مرعوبٌ من زوجته، وضع الجراب في البيت ومضى، فلما ذهب فتحتْه، فإذا به دقيقٌ أبيض، فعجنت الدقيق وخبزت، وجاء أبو مسلم الخولاني إلى بيته ليلاً، فقدّمتْ له الخبز، فقال لها: من أين لنا هذا؟ فقالت: من الدقيق الذي اشتريتَه اليوم، فأكل أبو مسلم الخولاني من الخبز الذي أصله نشارة خشب وتراب، وبكى"؛ هذه أيضاً نقلها الإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء)، وهكذا يبدو لنا كرامة الأولياء التي يؤيّدُ الله تعالى بها أولياءه.
والآن اسأل نفسك كم مرة سخّر الله لك جنود يتولوا أمرك؟! إنهم مجابي الدعوة: ألم يقل رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال في الحديث القدسي: «وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ»، يا له من كرم رباني الذي يمنحه سبحانه وتعالى لأوليائه، وخاصةً أنه يُعطيهم درجةً عظيمة، ألا وهي: إجابة الدعاء.
من ذلك مثلاً ما كان يُروى عن سيدنا سعد بن أبي وقّاص رضي الله تعالى عنه، وهو أحد المبشَّرين بالجنة، فقد كان معروفاً بين الناس أنه مُجابُ الدعوة؛ إن دعا لشخصٍ أصابته تلك الدعوة، وإن دعا على شخص ظالم أو مشرك أو معتد أصابته الدعوة، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا لسعد بن أبي وقاص فقال: «اللهم أجبْ دعوته» (رواه الحاكم في المستدرك)، فكانت دعوته مستجابة.
وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كم من ضعيفٍ متضعّف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك» (رواه الحاكم في المستدرك)، ثم إن البراء لقي زحفاً من المشركين وقد أوجع المشركون في المسلمين، فقالوا له: "يا براء إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أقسمتَ على ربك لأبرك، فاقسم على ربك"، فقال: "أقسمتُ عليك يا ربّ لما منحتنا أكتافهم"، فمُنِحوا أكتافهم، ثم التقوا على قنطرة السوس فأوجعوا في المسلمين، فقالوا: "أقسم يا براء على ربك عز وجل"، قال: "أُقسِم عليك يا ربّ لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك صلى الله عليه وسلم" فمُنِحو أكتافهم، وقُتِل البراء شهيداً.
هناك قصة أوردها الإمام ابن السُّبكي في كتابه (طبقات الشافعية)، وهي التي سمّاها (كرامة المحاميد) يقول: "كان ثلاثةٌ من العلماء في رحلة، وهم: محمد بن جرير الطبري وهو من الأعلام، ومحمد بن خُزيمة وهو من المُحَدِّثين، ومحمد بن نصر المِرْوَزيّ وهو من الفقهاء، كانوا في رحلة فأرمَلوا -جاعوا-، ولم يبقى عندهم ما يَقوتهم وأضرَّ بهم الجوع، فاجتمعوا ليلةً في منزلٍ كانوا يأتون إليه، فاتّفق رأيُهم على أن يَسْتَهِموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن خزيمة، فقال لأصحابه: "أمهِلوني حتى أتوضّاَ وأُصَلِّيَ صلاةً الاستخارة". فذهب يتوضّاً ودخل يُصلّي، فإذا هم بالشموع ورجلٍ من قِبَلِ الوالي يطرقون عليهم الباب، ففتحوا الباب، فقال الرجل: "أيكم محمد بن نصر المِروزي؟"، فقال: أنا، فأعطاه صُرّةً فيها خمسون ديناراً، ثم قال: "أيكم محمد بن جرير؟" قال: "أنا"، فأعطاه صُرّةً مثلَ أخيه، ثم قال: "أيكم محمد بن خزيمة؟" قال: "أنا"، فأعطاه صُرّةً مثلَ أخَويه، ثم قال لهم: "إن الأمير كان قائلاً بالمساء -نائماً نومَ القيلولة-، فرأى في المنام من يقول له: "إن المحاميدَ قد طَوَوا كَشْحَهُم -بطونهم جِياعا-"، فأَنْفَذَ إليكم هذه الصُّرَر، وأقسمَ عليكم إذا نَفِدَتْ فابعثوا إليه أحدَكم".
فإذا أردت أن تكون من مستجابي الدعوة نفّذ وصية الرسول الكريم عندما قال لسعد بن معاذ: «يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة» (أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط)، تحرّى المال الحلال وأوقات إجابة الدعاء في جوف الليل وبين الأذان والإقامة وبعد كل طاعة لله واستحضر قلبك فلا يكون الدعاء باللسان فقط تكن مستجاب الدعوة بإذن الله.
والآن اسأل نفسك هل أنت من مستجابي الدعاء؟ أبشر أنت ولي الله إنهم عرفوا الله فاستقاموا على منهجه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30-32].
ومن تفسير هذه الآية: ثم استقاموا على أن الله ربهم وحده، أو على إخلاص الدين والعمل إلى الموت أو في قول آخر ثم استقاموا سِرّاً كما استقاموا جهراً، الاستقامة سبب في تيسير أمور الحياة كما قال الله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا . لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن من الآيتين:16-17]؛ فيشربون الماء عذباً زلال، ولا يجهدون أنفسهم في شيء، ولا يحملون هم شيء وهي كلمة إذا اتخذتها طريق لا تحتاج بعدها أن تسال أحد عن شيءٍ في الإسلام، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: "قلتُ يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك"، قال: «قل آمنت بالله ثم استقم» (رواه مسلم [38]).
وإليك أحوال أهل الاستقامة: ها هو الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله يقول عن نفسه: "ما تكلمتُ كلمةً، ولا فعلتُ فعلاً، إلا وأعددتُ له جواباً بين يدي الله عز وجل" (طبقات الشافعية [9/212]).
ويقول أحد السلف: "منذ أربعين سنة ما تكلمتُ كلمةً ندمتُ عليها".
يا الله ما هذه الاستقامة لذلك استحقوا أن يكونوا من أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، ولكي تكون من أهل الاستقامة عليك أن تتمسك بكتاب الله وسنة رسوله، وأن تتمسك بالصحبة الصالحة التي تشدّ من أزرك إلى الله، وكثرة ذكر الله على كل حال، تُصبح ولياً لله باستقامتك على الطريق، يُحارِب الله من يُؤذيهم ويَحميهم كما جاء في الحديث القدسي إن الله قال: «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب».
تخيّل المولى عز وجل يُدافع عنهم بنفسه، ولله المثل الأعلى، أنت عندما تختلف مع أحد الأشخاص وتُوكِّل محامياً ليأتي لك بحقك، فهذا بشر، ولكن تخيّل أن من يأتي لك بالحق، ويُدافع عنك هو الله عز وجل هو من يُحارب أعدائنا أليس هذا ما حدث في كل غزوات النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين واليهود، فغزوة بدرٍ كمثال أنزل الله ملائكة تُحارِب معهم وتُدافع عنهم، وفي غزوة الأحزاب أرسل الله عز وجل ريحاً اقتلعت الخيام من جذورها وانتهت الحرب ولم يُقتَل فيها مسلم. وهكذا في كل غزوة يُؤيدهم ويُدافع عنهم، فلِمَ لا نكون ممن يُدافع عنهم المولى عز وجل ويحاجّ عنهم فتجد الناس تذكر بالخير في موقفٍ أنت تحتاج من يُدافع عنك. إنهم أهل توفيق إذ يقول المولى عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4].
الله سبحانه وتعالى يتقرّب منهم بالتوفيق لمحبته لهم وييسر لهم الأسباب التي تقرِّبهم إلى الجنة -يُبعدهم الله عن المعاصي كل ما يتقرّبون إلى الله؛ لأنهم يتقربون إلى الله بالطاعات موفقٌ من الله تعالى- في كل خطوة، وإليك المثال الآتي:
- فهذا هو خالد بن الوليد قبل الإسلام في غزوة الأحزاب حين حاول اختراق الخندق فلم تفلح المحاولات، وتصدى أُسيد بن حضير في كتيبة من مائتي مسلم لفرقة فرسان خالد بن الوليد واستطاع أن يردهم أُسيد، ومن معه منهزمين، ولم يوفقوا في اختراق الخندق كان وقتها خالد قائد لجيش الباطل، فلم يُوفّق من الله، أما بعد أن دخل في الإسلام أصبح سيف الله المسلول على أعدائه اشتهر بحُسن تخطيطه العسكري وبراعته في قيادة جيوش المسلمين في حروب الردة وفتح العراق والشام، في عهد خليفتي الرسول عليه الصلاة والسلام أبي بكر وعمر رضي الله عنهم فهو لم يُهزَم في أكثر من مائة معركة أمام قواتٍ متفوقة عدديًا من الإمبراطورية الرومية البيزنطية والإمبراطورية الساسانية الفارسية وحلفائهم، وهكذا عندما يقترّب العبد من الله يكون مُوفّق في كل خطواته ومتميز بين أقرانه فها هو خالد قبل وبعد الإسلام ولكن الذي تغير قلبه بعد أن دخله الإسلام الدين الحق.
هذه هي صفات أولياء الله كما جاءت في الكتاب والسنة، وفي النهاية لكي تُصبح ولياً لله أن تُوليه في كل أمور حياتك، ولا تُشرك به أحد، كما قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة من الآية:5]، ومن إخلاصك له أن تتخذه سبحانه وتعالى حكماً إذ يقول الله تعالى على لسان نبيه: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً} [الأنعام من الآية:114]، وأن تُحبّ من يُحبّ الله، وتُعادي من عادى الله، فالمؤمنون أذلةً على المؤمنين أعزّةً على الكافرين كما تُطلِعنا الآيات قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:64].
اللهم اجعلنا من أولياءك الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.
منقول طريق الإسلام
ثم قال: '' ثم ذكر وصف الذين يحبهم الله ويحبونه '' قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ))[المائدة:54] فذكر الله صفات هؤلاء وهي:
أولاً: أنهم يحبهم الله ويحبون الله.
ثم أتى بالوصف الثاني لهؤلاء المحبين ''فقال: (( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ))[المائدة:54] يعني: أنهم يعاملون المؤمنين بالذلة واللين وخفض الجناح (أعزة على الكافرين) يعني: أنهم يعاملون الكافرين بالعزة والشدة والغلظة، فلما أحبوا الله أحبوا أولياءه الذين يحبونه، فعاملوهم بالمحبة والرأفة والرحمة، وأبغضوا أعداءه الذين يعادونه؛ فعاملوهم بالشدة والغلظة كما قال تعالى: ((أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ))[الفتح:29] (( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ))[المائدة:54] '' والوصف الآخر هو أنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم.
ولو تأملنا هذه الآية لوجدنا أنها بينت آيات الولاية، فإنه أول ما ابتدأ هذا المقطع والموضوع من الآيات، ابتدأ بقول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ))[المائدة:51] ثم جاءت آية، ثم هذه الآية، ثم بعد أن أكمل هذه الآيات ذكر آية الولاية، وذكر أولياء الله، وأنهم حزب الله فقال: ((فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ))[المائدة:56].
ثم حذر بعدها فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ))[المائدة:57] إذاً: قبلها آية التحذير، وبعدها آية التحذير من اتخاذ الكفار أولياء، فبين التحذيرين من موالاة الكفار.
تأتي صفة المؤمنين الذين يستبدل بهم الله تعالى من يترك دينه، ويعرض عنه، ويرتد، ويتخلى عن القيام بحمل هذه الدعوة، والوفاء بعهد الله، وميثاقه في نصرة هذا الدين، وحمل ميراث النبوة، ورفع لواء سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذروة ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل.
عاقبة الأمة التي تختلف فيها هذه الصفات
فإما أن تكون الأمة المؤمنة التي أمر الله بها في قوله: ((وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ))[آل عمران:104] ترفع لواء الجهاد في سبيل الله وتنصر الحق موجودة أو لا توجد، أو ترتد كما ارتدت طائفة كانت تدعي ذلك، فإن الله تعالى لن يضيع دينه، وسوف يأتي بقوم آخرين، كما قال تعالى: ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ))[محمد:38] فيأتي الله تبارك وتعالى بقوم هذه صفاتهم.
وهذا دليل على أن الأمة التي تتخلف فيها هذه الصفات، هي أمة متروكة مخذولة ليست من أولياء الله، بل يتخلى الله عنها ويعاقبها بما يشاء، ويسلط عليها أعداءها، ويسلط عليها الفرقة فيما بينها فيشتت جمعها، ويذلها بمن يشاء من عباده المؤمنين أو الكافرين، فيبتليهم بالخوف، ويبتليهم بالجوع، وبما ذكر من المصائب والعذاب الذي حلَّ بالأمم السابقة، أو كما يشاء، ويأتي بالبديل وهم القوم الذين هذه صفاتهم.
صفة الذلة على المؤمنين
لما كان هذا الموضوع -موضوع الولاية- بهذه الأهمية، والتحذير عن موالاة الكفار بهذه المثابة وبهذه المنزلة، ذكر من صفات المؤمنين الذين يأتي بهم الله تعالى عوضاً عمن ارتد عن دينه، فذكر من صفاتهم أنهم أذلة على المؤمنين، كما علل الشيخ رحمه الله بأن هؤلاء يحبون الله، ويحبون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحبون الدين، فمن كان من أهل الدين والإيمان، من أهل محبة الله، من عباد الله الصالحين، ومن أهل اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنهم أذلة معه يعاملونه باللين والرحمة والشفقة وخفض الجناح؛ لأنهم ينظرون إلى دينه، وإلى محبوبه، وإلى غايته وهمه ومراده وهو الله واتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيعاملونه بمقتضى ذلك، فهو أخوهم وحبيبهم وخليلهم وقريبهم، حتى لو أخطأ عليهم فإنهم يعفون عنه ويتجاوزن، ولا يغلظون عليه لقوة صلته بالله ومحبته له، ومن أحب الله حقاً فإنه لا بد أن يحب كل من أحب الله من الأحياء أو من الأموات.
حتى لو أنك فتحت كتاباً من كتب التاريخ -أي كتاب- فوجدت سيرة رجل عالم عابد داعٍ إلى الله، آمرٍ بالمعروف ناهٍ عن المنكر أحببته وليس بينك وبينه أي صلة، وقد يكون من بلاد الهند، أو الترك، أو أطراف الدنيا، لكن لما وجدت سيرته بهذه الحال، فإنك تحبه، وتترحم عليه، وتترضى عنه، وتسأل الله تعالى أن يكثر من أمثاله في هذه الأمة.
وكذلك لو لم يكن هناك أي رابطة إلا أن الإنسان المؤمن يقرأ عن الماضين أو المعاصرين في أقاصي الدنيا، أن رجلاً منهم هذا حاله وشأنه من البعد عن الله أو محادة الله ورسوله وارتكاب ما حرم الله؛ فإنه يبغضه.
إذاً: هذا أمر يكون في قلب كل مؤمن، ودرجته ومقداره تكون بمقدار إيمان الإنسان ومحبته لله، فكلما عظمت محبة الله تعالى في قلب العبد المؤمن عظمت محبة أولياء الله وأحباب الله، فيكون خافضاً للجناح ذليلاً أمامهم، ولاحظوا كلمة (ذِلة) والذل هل هو صفة محبوبة عند الإنسان أو مكروهة؟
إنها مكروهة فلا يوجد أحد يريدها، أو يتمناها، ولا يصف بها إخوانه، ولا يصف بها أحداً ممن يحب، ومع ذلك جاءت هذه الصفة في وصف هؤلاء، ولم يقل رحماء، وقد قال في الآية الأخرى عندما وصف الصحابة فيما بينهم: ((رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ))[الفتح:29] لكن عندما ذكر شروط هؤلاء القوم، جاء بوصف أبلغ من مجرد الرحمة وهو الذلة؛ لأنك قد ترحم إنسان لكن أن تكون ذليلاً له فهذه مرحلة أعظم من ذلك، فهذا دليل على أن هذا الشرط مهم، ودقيق، وضروري، ولا بد منه لمن يريد أن يكون من هؤلاء القوم.
وعليه فإذا وجدت إنساناً غليظاً على المؤمنين، شديداً على الصالحين، عنيفاً على المتقين، بأي سبب؛ حتى لو يرى أنهم ظلموه في دنياه، أو خالفوه في رأي، أو فتيا؛ فاعلم أنه فقد صفة أساسية من هذه الصفات، ولا يمكن أن توجد الولاية أو المحبة لله عز وجل إلا مع وجودها، ولا بد من ترك ما يضادها.
العزة على الكافرين
إذا كان الإنسان ذليلاً للمومنين، وفي المقابل مع الكافرين عزيزاً غليظاً عليهم، فقد حقق الشرطين، وهذا لا يتعارض مع العدل، ولا يعني الغلظة على الكافر أنه ظالم للكافر بل هو العدل، ولذلك نحن عندما نجاهدهم فإننا نجاهدهم لأن الجهاد عدل، ونجاهدهم ونغلظ عليهم كما أمر الله تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ))[التحريم:9]، وقال: ((وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً))[التوبة:123].
فهذه الغلظة من العدل، وليس فيها اعتداء، بل هي حق لا تعني الظلم، ولا تعني البغي، حتى ونحن نجاهدهم فإننا لا نقتل إلا من أمرنا الله بقتله، ولا نقتل من نهانا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتله، ففي كل أمورنا نحن مقيدون بالعدل وبالقسط وبالحق.
إذاً: هذا لا يتعارض مع العدل، والغلظة أن يرى عدو الله تعالى منك ما يغيظه ويكدر أمره، إما بكلمة غليظة، ولا نعني بكلمة غليظة أن الإنسان يسب أو يشتم وإنما بالقوة في الحق والموقف، وإما عملاً يسيء إليه، كأن تهدم ما يبني هذا الكافر، وتحبط عمله، وتجتهد في رد كيده، وإفشال سعيه.
وأما إن كان أعلى من ذلك كمن يريد بالإسلام والمسلمين حرباً، فتحاربه وتقاتله، وتقتله إذا لم يكف شره إلا بذلك، وإذا لم يخضع لحكم الله، ويدفع الجزية؛ فإنه يقاتل حتى يقتل.
الخلل في تحقيق هاتين الصفتين
هاتان الصفتان لا بد أن تكونا مقترنتان، ولذلك كان أكبر خطأ يخطئ فيه كثير من الناس أنهم يغلظون على المؤمنين، من أغلظ على المؤمنين؛ فإنه يؤدي به الأمر إلى أن يتساهل مع الكافرين، وهذا أمر يجده كل إنسان من نفسه، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل في نفس الإنسان هذان العاملان:
أحدهما: الحب ومقتضاه: اللين، والرأفه، والرحمة، والذلة.
والآخر: البغض ومقتضاه: العنف، والقسوة، والشدة، والمقاتلة....إلخ.
فلو أن الإنسان أخطأ في أحدهما، فإنه يخطئ في الآخر لا محالة، فتجد بعض من يلين القول مع الكفار يغلظ على المسلم، فإذا تعامل مع الكفار، ووادهم، وأحبهم، وخالطهم بحيث إذا جاء إنسان وتكلم في الكفار، وحذَّر منهم، وبيَّن أنهم أعداء الله؛ أغلظ وأنكر عليه.
وكذلك لو أنه أغلظ على إخوانه المؤمنين وكان شديداً عليهم، فإن هذا قسط من عداوته للكافرين صرفه وحوله إلى إخوانه المؤمنين.
فتجد من شغله الله بالطعن والعيب والعداوة للمؤمنين لا يجد وقتاً ولا تجده يفرغ للطعن والحرب والعداوة لأعداء الله الكافرين، ولذلك يجب على المؤمن أن يحفظ هذا الميزان الدقيق وأن يجعل نفسه كما أمر الله تعالى.
فقوله تعالى ((أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ))[المائدة:54] يجب أن نأخذ هذه الكلمة بكل ما تحمله من معنى، وليس في ذلك غضاضة، فإن ذل المسلم لأخيه المسلم عزٌ له عند الله عز وجل، وهذا يورثه الدرجة العليا، وهي: أن يكون ممن يصطفيهم الله عز وجل، فأنت لا تنظر إلى أن أخاك المسلم أخطأ عليك، أو أخطأ في اجتهاد ترى أنه خالفك فيه، بل انظر إليه هل هو ممن يحب الله ورسوله فتجتمعان في محبة الله أم لا؟
ومن عادة الناس في أمور دنياهم أنهم إذا كان أحد منهم يحب أحداً فإنه يستشفع إليه بمن يحب، حتى ولو كان بينه وبين الرجل أي مشكلة فيعفو عنه لأنه تشفع له من يحبه ذلك الرجل.
محبة الله ورسوله فوق كل محبة
وهل هناك من يُحَب أعظم من الله عز وجل، فكل محبوب في هذه الدنيا تحبه فيجب أن يكون الله أحب إليك منه، لماذا؟
لأنك إن أحببت الوالد، فمن الذي خلق الوالد والوالدة؟
ومن الذي سخرهما لك؟
ومن الذي حفظهما لك حتى ربياك؟
ومن الذي أودع في قلبيهما الرأفة والحنان والشفقة بك؟
إنه الله.
لو أحببت الزوجة، فمن الذي خلقها؟
ومن الذي أعطاها الصفات التي أحببتها من أجلها في خَلْقِها أو في خُلُقِها؟
ومن الذي سخرها لك؟
إنه الله.
وقد تحب شيخك، أو معلمك، أو أستاذك، فمن الذي أعطاه العلم؟
ومن الذي سخره ليعلمك؟
ومن الذي عقد بينك وبينه هذه المحبة؟
إنه الله.
إذاً: كل من تحبه في هذه الدنيا، وتقدِّره، وتعظمه، فالفضل أولاً وآخراً لله تعالى، فوجب أن تحب الله أكثر من محبتك لهؤلاء جميعاً، ولهذا أشد محبة يجب أن يحبها الإنسان هي محبة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما قال عمر رضي الله عنه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { والله يا رسول الله! إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي -هل أقره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
لا- قال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من كل شيء حتى من نفسك، قال: الآن يا رسول الله! أنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي } وهذه حقيقة الإيمان، لأن من كان يريد أن يكون في مثل درجة عمر، فلا بد أن يصل به الحال إلى هذا المستوى، ألَّا يحب وألَّا يؤثر على محبة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي شيء؛ حتى نفسه التي بين جنبيه، لأن هذه النفس إنما جاءها الخير والصلاح والهدى من غيرها، وإلا فمن أين جاءنا الخير والصلاح والهدى؟
من أين الوسيلة التي نصل بها إلى النعيم الأبدي الخالد عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟
إن ذلك كان من طريق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
من لوازم محبة الله سبحانه وتعالى
يجب أن يكون الله عز وجل أحب إلينا من أنفسنا؛ إن أردنا أن نكون من أهل الدرجة العليا، وهكذا هي محبة الله تعالى، والذلة للمؤمنين والغلظة على الكافرين شرط في حصول ذلك، كما ذكر الشيخ رحمه الله تعالى، ولذلك عقب على الغلظة بالجهاد كما قال تعالى: ((يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ))[المائدة:54].
يقول: '' فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب ''.
إذا كنا نحب الله، فكيف نرضى ونسكت عمن يقول: إن لله تبارك وتعالى ولد؟
كما قال ذلك اليهود والنصارى، وكيف نرضى عن قول اليهود كما حكى الله عنهم: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا))[المائدة:64] وعندما يقول اليهود: ((إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ))[آل عمران:181] وعندما يكذِّبون رسل الله، وعندما يدعي النصارى أن لله ولداً، تعالى الله وتنزه عن هذا القول المنكر المفترى العظيم، الذي تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدَّا، فهكذا يقول النصارى واليهود.
والمشركون يعبدون مع الله حجارة وأصناماً، ويظنون أنها تقربهم من الله، وأنها واسطة بينهم وبين الله، فحق الله الذي خلقهم ورزقهم يصرفونه إلىهذه الحجارة وهذه الأوثان والأشجار والقبور، وغير ذلك، وهذا أمر عظيم، فمن عرف الله، وأحب الله، فإنه يجب عليه أن يتقرب إلى الله بقتال هؤلاء -أعداء الله- الذين تركوا عبادته والإخلاص له الذي أمرهم به، كما قال تعالى: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5] فتركوا ذلك وذهبوا إلى عبادة غير الله، والافتراء على الله، وادَّعوا لله تعالى ما ليس له.
وأقول: -ولله المثل الأعلى- هل يعقل أن تحب أحداً من الناس وتقول: أنا أحبه غاية المحبة، ولا تعادي من يفتري عليه أعظم الافتراء، ويبهته أعظم البهتان؟ مستحيل، حتى إن الواحد من الناس يقال له: ألم يكن فلاناً حبيبك، فيقول: نعم، هو حبيبي وأخي، لكن لما رأيته أبغض فلاناً، وافترى عليه، وكذا وكذا كرهته، فلسان حاله يقول: ليس بيني وبينه أي شيء، لكنه أبغض من أُحب، وكَذَب على من أحب، واتهم من أحب، وأبطل حق من أحبه محبة عظيمة؛ فكانت العاقبة أن أقطع ما بيني وبينه.
إذاً: هكذا المؤمنون لو أحبوا الله تعالى حق المحبة؛ لعادوا الكافرين أشد العداوة، وأحبوا المؤمنين أشد المحبة، ومنتهى العداوة أن يجاهدوا باليد بعد المجاهدة بالبيان، يجاهدون بالسنان مع إقامة الحجة عليهم بالدعوة والبرهان، وينتقلون معهم من حال المجادلة إلى حال المجالدة، وهذا لا بد منه، ولذلك تأتي هذه الصفة كأنها صفة لازمة.
فإنك لو تأملت السياق: (( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ))[المائدة:54] فهل المحبة صفة لازمة أو عارضة للمؤمن؟
لا شك أنها لازمة، وكذلك قوله: ((أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ))[المائدة:54] هل هي لازمة أم عارضة؟
أيضاً لازمة وثابتة، إذاً يجاهدون في سبيل الله لازمة، لماذا؟
لأنه من المستحيل أن تكون بهذه الدرجة، وأن تدعو إلى الله، ولا تجاهد في سبيل الله؛ فلابد من المجاهدة.
هذه الأمة في مجموعها لا بد لها أن تجاهد؛ لأن من سنة الله تعالى أنه ما قام أحد بأمر هذا الدين إلا عودي، وهذا ما علمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ورقة بن نوفل، فأول ما نزل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحي، لم يكن قد قرأ عن أخبار الأنبياء من قبل، ولا علم ولا عرف ما ابتلوا به، فأتت به خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، وكان رجلاً كبيراً قد أسنَّ، فذكرت له ذلك، فقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك فأنصرك نصراً مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي ومات، فتعجب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما سمع ذلك فقال: {أو مخرجي هم} لماذا يخرجونني؟
((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ))[العلق:1] هل فيها شيء يتطلب الإخراج أو الأذى؟
فقال له ورقة {ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي} وهو لا يعلم الغيب، ولكنه يعلم أنها قاعدة وسنة ماضية للرسل من قبل؛ لأنه يقرأ لأهل الكتاب أنه ما جاء نبي من الأنبياء ودعا إلى الله إلا عودي وحورب وأوذي؛ فمنهم من قتل، ومنهم من طرد، أو أوذي، أو حبس، أو... إلى آخره.
فلابد من نوع من الأذى والابتلاء يصيب الداعية إلى الله، ولهذا يقول الله تعالى لعبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ))[فصلت:43] فليس فيه جديد ((كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ))[الذاريات:52] نفس العبارة ((أَتَوَاصَوْا بِهِ))[الذاريات:53] هل كتب قوم نوح وثيقة وقالوا: يا عاد. إن بعث إليكم رسول يقول لكم اعبدوا الله فقولوا له كما قلنا؟
وهل كتبت عاد إلى ثمود إذا جاءكم وبعث فيكم رجل ودعاكم إلى مثل ما دعانا إليه هود فقولوا له كما قلنا؟
أبداً. لم يتواصوا به، إنما هي سنة واحدة، الطغيان واحد، والإعراض واحد، والرد واحد؛ لأنه كما قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيرا))[الفرقان:31]، إذاً: ما دام الأمر كذلك فكل من تصدَّى لهذا الدين لا بد أن يجاهد.
صفات أولياء الله بُشرى تزفُّها إليك الملائكة إن كنت ممن لا يحزنون على ما فاتهم ولا يخافون مما سيأتي، أو ممن عرفوا الله فاستقاموا على طاعته، أو ممن يتقرّب إلى الله بالنوافل، أبشر أنت من أولياء الله تعارف المجتمع على أن الأولياء هم الدراويش والمشايخ، وهم قوم ماتوا ودفنوا في قبور تتبرّك بهم الناس أو المجانين في الطريق لا ليس هذا معنى الولي، إنما الأولياء لهم صفات وعلامات تُميِّزهم عن غيرهم سوف نتعرف عليها، وقبل أن نبدأ في ذكر هذه الصفات لابد أن نعلم أولاً من هو الولي:
- الولي هو النَّصير الذي ينصر الله تعالى، وينصر دينَه وشريعته. قال الحافظ ابن حجر: "المراد بولي الله العالِمُ بالله تعالى المواظب على طاعته المخلص في عبادته". قال شيخ الإسلام: "فكل من كان مؤمناً تقياً كان لله ولياً".
وقيل: "إنه هو القريب، فقلب المؤمن الولي لله تعالى يحيا بالله، ينشغل بطاعة الله. إن سمع شيئاً سمع آيات الله، وإن نطق نطقَ بالثناء على الله وحَمْدِهِ وشُكْرِه، إن تحرَّكَ تحرّكَ في الدعوة إلى الله، وفي خدمة المسلمين، ورعاية الناس والإحسان إليهم".
أقسام الولاية:
قال الشيخ بن عثيمين: "والولاية تنقسم إلى:
1- ولاية من الله للعبد إذ يقول الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة من الآية:257]، والولاية التي من الله للعبد تنقسم إلى:
أ- ولاية عامة.
ب- ولاية خاصة.
فالولاية العامة هي: الولاية على العباد بالتدبير والتصريف، وهذه تشمل المؤمن والكافر وجميع الخلق، فالله هو الذي يتولى عباده بالتدبير لشؤونهم وتصريفها ويستوي في ذلك مؤمن وكافر، فمن بيده مقاليد الأمور في هذا الكون إلا الله سبحانه وتعالى ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].
2- والولاية الخاصة: أن يتولى الله العبد بعنايته وتوفيقه وهدايته، فقد يكون هناك طريق خيرٍ وطريق شرّ، فيهدي الله العبد الصالح إلى طريق الخير ويُجنّد له الجنود لنُصرته وتأييده، وهذه خاصة بالمؤمنين، وهي درجة رفيعة يختص الله بها من يشاء ويحب من عباده، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63].
- وولاية من العبد لله: إذ يقول الله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]".
وفي تفسير هذه الآية: "إنه مَنْ وَثِقَ بِاَللَّهِ وَتَوَلَّى اللَّه وَرَسُوله وَالْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْل حَاله مِنْ أَوْلِيَاء اللَّه مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، لَهُمْ الْغَلَبَة وَالدَّوَائِر وَالدَّوْلَة عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ وَحَادَّهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ حِزْب اللَّه، ولأنهم قوم انتصروا لله على أنفسهم، فحق أن يكونوا من حزب الله وأولئك هم الغالبون.
وهناك على الجانب الآخر من قَبِلوا ولاية الشيطان أعاذنا الله وإياكم منه قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، حتى الجهاد هناك من يقاتل نصرة للشيطان وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، أولياءَ الشيطان: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ . إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:98-100]، وماذا يفعل الشيطان بأوليائه؟
قال تعالى: {إن الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ . إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:173-175]؛ يُخوِّف من يتّبعه ولا يُؤمِّنه أبداً يُخوِّفه على أولاده، فيجعله يجبُن عن الجهاد في سبيل الله ويبخل بماله أن ينفقه في سبيل الله ويُخوِّفه من الموت ومن لقاء الله، يُخوِّفه على المستقبل بصفةٍ عامة. أتتخذ من عادى أبيك من قبل وليٌ باتباعه في ما يُوسوس به، كيف ذلك وهو أوّل من يتبرأ منك يوم القيامة؛ إذ تقول آيات الله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16].
أما أولياء الله فهم الآمنون في الدنيا والآخرة إذ يقول المولى عز وجل: {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
وهذا هو جزاء من تولّى الشيطان فتبعه الخسران في الدنيا والآخرة؛ إذ يقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا . يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء:119-121].
فانتبهوا يا أولي الألباب، وليحذر كل مِنَّا أن يكون متّبع الله في العلانية وصديق للشيطان في سريرتك ولنتعرّف سوياً على صفات أولياء الله
صفات أولياء الله:
- أنهم أهل التقوى والأمن والبُشرى: قال سبحانه وتعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62-64].
فقد ذكر الله في هذه الآيات أن أولياء الله هم أهل الأمن والسكينة، وأنهم قد نالوا هذه الدرجة بتقواهم وخشيتهم لربهم، لذا فقد استحقوا البُشرى بالفوز والنجاة والفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في (تفسير القرآن العظيم) في تفسير الآية: "يُخبِر تعالى عن أوليائه وأحبائه، ويذكر أعمالهم وأوصافهم، وثوابهم فقال: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فيما يستقبلونه مما أمامهم من المخاوف والأهوال، {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما أسلفوا، لأنهم لم يسلفوا إلا صالح الأعمال، وإذا كانوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ثبُت لهم الأمن والسعادة، والخير الكثير الذي لا يعلمه إلا الله تعالى؛ لأن الله تعالى أعطاهم صكَّ الأمان، فهم آمنون من العذاب؛ لأنهم حفظوا الله تعالى في دنياهم، فحفظهم في الدنيا والآخرة.
وإذ عرّفنا التقوى فهي: أن لا يجدك حيث نهاك وألا يفتقدك حيث أمرك، وهي وصية جميع الرسل لأقوامهم؛ إذ يقول المولى عز وجل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ . إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:60-61]، وأنها اللباس الذي يستر عوراتنا الداخلية من حقد وحسد وأمراض قلوب أخرى إذ يقول المولى عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف من الآية:26].
وهي سبب النجاة من النار إذ يقول الله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اِتَّقَوْا وَنَذَر الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72]، هذه التقوى التي جعلت أبو بكر الصديق يتقيأ ما أكله عندما أخبره غلامه أنها كانت من كهانةٍ تكهّن بها لشخص، وهي التي جعلت عمر بن عبد العزيز أن يشمّ العطر الذي جاء لبيت مال المسلمين؛ لأن النفع إنما يكون بالرائحة فكره أن ينتفع بها دون المسلمين، فلنتقِ الله ما استطعنا حتى نكون من أولياء الله، وفي تفسير: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ عن أبو ذر الغفاري قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : "أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال: «تلك عاجل بشرى المؤمن»، وفي رواية: "ويٌحبّه الناس عليه"، وفي رواية: "ويَحمده الناس" (أخرجه مسلم [2642]).
أما البشارة في الدنيا، فهي: الثناء الحَسن، والمودة في قلوب المؤمنين، والرؤيا الصالحة كما يقول المولى عز وجل في الحديث القدسي قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله إذا أحبّ عبداً دعا جبريل عليه السلام فقال: إني أحب فلاناً فأحبه»، قال: «فيُحبّه جبريل، ثم يُنادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبُّوه فيُحبّه أهل السماء» قال: «ثم يوضع له القبول في الأرض»، وما يراه العبد من لطف الله به وتيسيره لأحسن الأعمال والأخلاق، وصرفه عن مساوئ الأخلاق.
وأما البشرى في الآخرة فهي بالجنة والرضوان من المولى عز وجل، والبُشرى لهم عند الموت، يقول المولى عز وجل: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت من الآية:30]، تُبشِّرهم الملائكة في لحظة الاحتضار بالجنة، وليس هذا فقط وإنما هم لأنهم لا يخافوا في الدنيا فاستحقوا أن يؤمنهم ربهم يوم القيامة من الفزع الأكبر؛ إذ يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ . لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ . لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنباء:101-103]، هكذا أولياء الله في منأً عن النار لا يسمعون صوتها فضلاً عن أنهم لا يرونها".
والآن اسأل نفسك إذا كنت ممن لا يخاف من المستقبل ولا يحزن على الماضي، فأبشر أنت من أهل الأمن والتقوى في الحياة الدنيا.
2- أنهم أهل التقرب إلى الله بما يحب: عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عبدي بشيء أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عبدي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شيء أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» (أخرجه البخاري).
بالمحافظة على الفريضة والتزوُّد بالنوافل من صيامٍ وقراءةِ قرآنٍ وقيامِ ليلٍ وصدقاتٍ تتقرّب بها إلى المولى عز وجل ويقترّب هو منك بالحفظ فيحفظك بقرآنك من النظرة الحرام ويحفظك بالمداومة على المسجد من السير إلى الحرام، ويحفظك بالصيام من أكل مالٍ حرام وهكذا كلما اقتربت أصبحت ولي لله وتجده يكره أن يُسئ إليك ويُعيذك من كل ما تخافه فأنت من الآمنين في الحياة الدنيا والآن اسأل نفسك هل أنت ممن يتقرّب إلى الله بالنوافل؟ ابشر أنت ولي لله أنهم هم الذين إذا رُؤوا ذُكِر الله: قال سبحانه وتعالى: {...سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ...} [الفتح من الآية:29]، يبدوا على وجوههم أثر الطاعة، وإن للطاعة نوراً وإشراقاً وحلاوةً ولذةً تبدو على أهل الطاعات.
يقول بن عباس: "إن للحسنة ضياءً في الوجه ونوراً في القلب وقوةً في البدن وسعةً في الرزق ومحبةً في قلوب الخلق بأنهم من خيار الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ الأَنْصَارِيَّةِ قالت: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى، قال: «فَخِيَارُكُمُ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ الله تعالى» (أخرجه أحمد)، هل رأيت يوماً رجل على وجه النور ذكّرك بصلاتك الفائتة أو بدرسِ علمٍ قد تركته من فترةٍ طويلةٍ وانشغلت؟ أين هؤلاء الناس الآن؟ سُئل أحد الصالحين: "ما بال المتهجدين أحسن الناس وجهاً؟"، فقال لهم: "أولئك قومٌ خلَوا بالحبيب فألبَسَهم من نوره".
كانوا طِوال الليل مع الله سبحانه وتعالى في حالة ذكرٍ، وسجودٍ، وقيامٍ، وركوعٍ، وتلاوةٍ، ودعاءٍ واستغفار، فألبسهم الله تعالى من نور عبادته، وأذاقهم من حلاوة طاعته، فظهر ذلك على وجوههم نوراً وسِيْماً وعلامةً يعرفهم بها الناس، فإذا رأوهم ذكروا الله تعالى.
والآن اسأل نفسك: هل أنت ممن إذا رُؤوا ذكر الله؟ أبشر أنت ولي لله إنهم قوم تحابوا في الله: يقول الله عز وجل: «إن من عبادي لعباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء»، قيل: من هم يا رسول الله لعلّنا نحبهم؟ قال: «هم قوم تحابوا بروح الله على غير أموالٍ ولا أنساب، وجوههم نورٌ على منابرٍ من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ثم تلا هذه الآية: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}» (رواه أبو داود).
إن هذه الصفة التي حدّدها النبي صلى الله عليه وسلم للأولياء هي صفة عظيمة، فهم يجتمعون على طاعة الله، ويتفرقون على طاعته، ويتعاونون على البِرّ والتقوى، روحهم روحٌ إيمانية، مجالسهم مجالس ذكر ووعظ وتلاوة للقرآن.
وإنهم قوم ذاقوا طعم الإيمان؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنس بن مالك: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان... وأن يُحبّ المرء لا يُحبّه إلا لله...» (من حديثٍ أخرجه البخاري).
من خصائصهم:
- أن الله سبحانه وتعالى يُجري على أيديهم الكرامات -الخوارق للعادة- تأييداً وتكريماً لهم.
فها هي مريم عليها السلام أكرمها الله سبحانه "بالرزق الطيب بأنواع الطعام والشراب، ووصوله إلى محرابها، وكذا ما أيدها الله به من الحمل من غير زوج، وظهور المساعدات الربانية عند الولادة، والرُّطب الجني من النخلة اليابسة، والنهر الصافي، وكذا نُطق عيسى في المهد أمام قومها".
كلها من المعجزات والكرامات التي يعطيها الله سبحانه وتعالى لكل من تقرّب إليه بالطاعات، وهناك مثالٍ آخر لأصحاب الكهف أكرمهم الله بكرامات كثيرة: "من نومهم المدة الطويلة ثلاثمائة وتسع سنين، وحفظ أجسامهم من التغيير وتقلبيهم في نومهم، وصرف الشمس عنهم، وقيامهم من نومهم بعد تلك المدة".
كلها أمور تنطق أن لله جنود السموات والأرض يسخرها لمن يشاء من عباده، ولكن اقترب وكن ايجابي في مواجهة الباطل وليس من الأنبياء والصديقين فقط إنما من السلف التابعين عندما يتيقن المسلم الله يرزقه من حيث لا يحتسب في أي زمانٍ ومكان.
تُروى كرامة لأبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى -وهو من سادة التابعين أيضاً- قالت له زوجته مرة: "ليس عندنا دقيق، فقال لها: هل عندكِ شيء؟ قالت: ليس عندي إلا درهم بعتُ به غَزْلاً، قال: أعطِنيه وهاتي الجِراب، فدخل السوق، فأتاه سائل، وألحّ عليه في السؤال، فأعطاه الدرهم، وعاد إلى بيته وقد ملأ الجرابَ نشارة خشب مع تراب، وأتى وقلبه مرعوبٌ من زوجته، وضع الجراب في البيت ومضى، فلما ذهب فتحتْه، فإذا به دقيقٌ أبيض، فعجنت الدقيق وخبزت، وجاء أبو مسلم الخولاني إلى بيته ليلاً، فقدّمتْ له الخبز، فقال لها: من أين لنا هذا؟ فقالت: من الدقيق الذي اشتريتَه اليوم، فأكل أبو مسلم الخولاني من الخبز الذي أصله نشارة خشب وتراب، وبكى"؛ هذه أيضاً نقلها الإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء)، وهكذا يبدو لنا كرامة الأولياء التي يؤيّدُ الله تعالى بها أولياءه.
والآن اسأل نفسك كم مرة سخّر الله لك جنود يتولوا أمرك؟! إنهم مجابي الدعوة: ألم يقل رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال في الحديث القدسي: «وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ»، يا له من كرم رباني الذي يمنحه سبحانه وتعالى لأوليائه، وخاصةً أنه يُعطيهم درجةً عظيمة، ألا وهي: إجابة الدعاء.
من ذلك مثلاً ما كان يُروى عن سيدنا سعد بن أبي وقّاص رضي الله تعالى عنه، وهو أحد المبشَّرين بالجنة، فقد كان معروفاً بين الناس أنه مُجابُ الدعوة؛ إن دعا لشخصٍ أصابته تلك الدعوة، وإن دعا على شخص ظالم أو مشرك أو معتد أصابته الدعوة، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا لسعد بن أبي وقاص فقال: «اللهم أجبْ دعوته» (رواه الحاكم في المستدرك)، فكانت دعوته مستجابة.
وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كم من ضعيفٍ متضعّف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك» (رواه الحاكم في المستدرك)، ثم إن البراء لقي زحفاً من المشركين وقد أوجع المشركون في المسلمين، فقالوا له: "يا براء إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أقسمتَ على ربك لأبرك، فاقسم على ربك"، فقال: "أقسمتُ عليك يا ربّ لما منحتنا أكتافهم"، فمُنِحوا أكتافهم، ثم التقوا على قنطرة السوس فأوجعوا في المسلمين، فقالوا: "أقسم يا براء على ربك عز وجل"، قال: "أُقسِم عليك يا ربّ لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك صلى الله عليه وسلم" فمُنِحو أكتافهم، وقُتِل البراء شهيداً.
هناك قصة أوردها الإمام ابن السُّبكي في كتابه (طبقات الشافعية)، وهي التي سمّاها (كرامة المحاميد) يقول: "كان ثلاثةٌ من العلماء في رحلة، وهم: محمد بن جرير الطبري وهو من الأعلام، ومحمد بن خُزيمة وهو من المُحَدِّثين، ومحمد بن نصر المِرْوَزيّ وهو من الفقهاء، كانوا في رحلة فأرمَلوا -جاعوا-، ولم يبقى عندهم ما يَقوتهم وأضرَّ بهم الجوع، فاجتمعوا ليلةً في منزلٍ كانوا يأتون إليه، فاتّفق رأيُهم على أن يَسْتَهِموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن خزيمة، فقال لأصحابه: "أمهِلوني حتى أتوضّاَ وأُصَلِّيَ صلاةً الاستخارة". فذهب يتوضّاً ودخل يُصلّي، فإذا هم بالشموع ورجلٍ من قِبَلِ الوالي يطرقون عليهم الباب، ففتحوا الباب، فقال الرجل: "أيكم محمد بن نصر المِروزي؟"، فقال: أنا، فأعطاه صُرّةً فيها خمسون ديناراً، ثم قال: "أيكم محمد بن جرير؟" قال: "أنا"، فأعطاه صُرّةً مثلَ أخيه، ثم قال: "أيكم محمد بن خزيمة؟" قال: "أنا"، فأعطاه صُرّةً مثلَ أخَويه، ثم قال لهم: "إن الأمير كان قائلاً بالمساء -نائماً نومَ القيلولة-، فرأى في المنام من يقول له: "إن المحاميدَ قد طَوَوا كَشْحَهُم -بطونهم جِياعا-"، فأَنْفَذَ إليكم هذه الصُّرَر، وأقسمَ عليكم إذا نَفِدَتْ فابعثوا إليه أحدَكم".
فإذا أردت أن تكون من مستجابي الدعوة نفّذ وصية الرسول الكريم عندما قال لسعد بن معاذ: «يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة» (أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط)، تحرّى المال الحلال وأوقات إجابة الدعاء في جوف الليل وبين الأذان والإقامة وبعد كل طاعة لله واستحضر قلبك فلا يكون الدعاء باللسان فقط تكن مستجاب الدعوة بإذن الله.
والآن اسأل نفسك هل أنت من مستجابي الدعاء؟ أبشر أنت ولي الله إنهم عرفوا الله فاستقاموا على منهجه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30-32].
ومن تفسير هذه الآية: ثم استقاموا على أن الله ربهم وحده، أو على إخلاص الدين والعمل إلى الموت أو في قول آخر ثم استقاموا سِرّاً كما استقاموا جهراً، الاستقامة سبب في تيسير أمور الحياة كما قال الله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا . لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن من الآيتين:16-17]؛ فيشربون الماء عذباً زلال، ولا يجهدون أنفسهم في شيء، ولا يحملون هم شيء وهي كلمة إذا اتخذتها طريق لا تحتاج بعدها أن تسال أحد عن شيءٍ في الإسلام، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: "قلتُ يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك"، قال: «قل آمنت بالله ثم استقم» (رواه مسلم [38]).
وإليك أحوال أهل الاستقامة: ها هو الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله يقول عن نفسه: "ما تكلمتُ كلمةً، ولا فعلتُ فعلاً، إلا وأعددتُ له جواباً بين يدي الله عز وجل" (طبقات الشافعية [9/212]).
ويقول أحد السلف: "منذ أربعين سنة ما تكلمتُ كلمةً ندمتُ عليها".
يا الله ما هذه الاستقامة لذلك استحقوا أن يكونوا من أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، ولكي تكون من أهل الاستقامة عليك أن تتمسك بكتاب الله وسنة رسوله، وأن تتمسك بالصحبة الصالحة التي تشدّ من أزرك إلى الله، وكثرة ذكر الله على كل حال، تُصبح ولياً لله باستقامتك على الطريق، يُحارِب الله من يُؤذيهم ويَحميهم كما جاء في الحديث القدسي إن الله قال: «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب».
تخيّل المولى عز وجل يُدافع عنهم بنفسه، ولله المثل الأعلى، أنت عندما تختلف مع أحد الأشخاص وتُوكِّل محامياً ليأتي لك بحقك، فهذا بشر، ولكن تخيّل أن من يأتي لك بالحق، ويُدافع عنك هو الله عز وجل هو من يُحارب أعدائنا أليس هذا ما حدث في كل غزوات النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين واليهود، فغزوة بدرٍ كمثال أنزل الله ملائكة تُحارِب معهم وتُدافع عنهم، وفي غزوة الأحزاب أرسل الله عز وجل ريحاً اقتلعت الخيام من جذورها وانتهت الحرب ولم يُقتَل فيها مسلم. وهكذا في كل غزوة يُؤيدهم ويُدافع عنهم، فلِمَ لا نكون ممن يُدافع عنهم المولى عز وجل ويحاجّ عنهم فتجد الناس تذكر بالخير في موقفٍ أنت تحتاج من يُدافع عنك. إنهم أهل توفيق إذ يقول المولى عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4].
الله سبحانه وتعالى يتقرّب منهم بالتوفيق لمحبته لهم وييسر لهم الأسباب التي تقرِّبهم إلى الجنة -يُبعدهم الله عن المعاصي كل ما يتقرّبون إلى الله؛ لأنهم يتقربون إلى الله بالطاعات موفقٌ من الله تعالى- في كل خطوة، وإليك المثال الآتي:
- فهذا هو خالد بن الوليد قبل الإسلام في غزوة الأحزاب حين حاول اختراق الخندق فلم تفلح المحاولات، وتصدى أُسيد بن حضير في كتيبة من مائتي مسلم لفرقة فرسان خالد بن الوليد واستطاع أن يردهم أُسيد، ومن معه منهزمين، ولم يوفقوا في اختراق الخندق كان وقتها خالد قائد لجيش الباطل، فلم يُوفّق من الله، أما بعد أن دخل في الإسلام أصبح سيف الله المسلول على أعدائه اشتهر بحُسن تخطيطه العسكري وبراعته في قيادة جيوش المسلمين في حروب الردة وفتح العراق والشام، في عهد خليفتي الرسول عليه الصلاة والسلام أبي بكر وعمر رضي الله عنهم فهو لم يُهزَم في أكثر من مائة معركة أمام قواتٍ متفوقة عدديًا من الإمبراطورية الرومية البيزنطية والإمبراطورية الساسانية الفارسية وحلفائهم، وهكذا عندما يقترّب العبد من الله يكون مُوفّق في كل خطواته ومتميز بين أقرانه فها هو خالد قبل وبعد الإسلام ولكن الذي تغير قلبه بعد أن دخله الإسلام الدين الحق.
هذه هي صفات أولياء الله كما جاءت في الكتاب والسنة، وفي النهاية لكي تُصبح ولياً لله أن تُوليه في كل أمور حياتك، ولا تُشرك به أحد، كما قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة من الآية:5]، ومن إخلاصك له أن تتخذه سبحانه وتعالى حكماً إذ يقول الله تعالى على لسان نبيه: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً} [الأنعام من الآية:114]، وأن تُحبّ من يُحبّ الله، وتُعادي من عادى الله، فالمؤمنون أذلةً على المؤمنين أعزّةً على الكافرين كما تُطلِعنا الآيات قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:64].
اللهم اجعلنا من أولياءك الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.
منقول طريق الإسلام
ثم قال: '' ثم ذكر وصف الذين يحبهم الله ويحبونه '' قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ))[المائدة:54] فذكر الله صفات هؤلاء وهي:
أولاً: أنهم يحبهم الله ويحبون الله.
ثم أتى بالوصف الثاني لهؤلاء المحبين ''فقال: (( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ))[المائدة:54] يعني: أنهم يعاملون المؤمنين بالذلة واللين وخفض الجناح (أعزة على الكافرين) يعني: أنهم يعاملون الكافرين بالعزة والشدة والغلظة، فلما أحبوا الله أحبوا أولياءه الذين يحبونه، فعاملوهم بالمحبة والرأفة والرحمة، وأبغضوا أعداءه الذين يعادونه؛ فعاملوهم بالشدة والغلظة كما قال تعالى: ((أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ))[الفتح:29] (( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ))[المائدة:54] '' والوصف الآخر هو أنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم.
ولو تأملنا هذه الآية لوجدنا أنها بينت آيات الولاية، فإنه أول ما ابتدأ هذا المقطع والموضوع من الآيات، ابتدأ بقول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ))[المائدة:51] ثم جاءت آية، ثم هذه الآية، ثم بعد أن أكمل هذه الآيات ذكر آية الولاية، وذكر أولياء الله، وأنهم حزب الله فقال: ((فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ))[المائدة:56].
ثم حذر بعدها فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ))[المائدة:57] إذاً: قبلها آية التحذير، وبعدها آية التحذير من اتخاذ الكفار أولياء، فبين التحذيرين من موالاة الكفار.
تأتي صفة المؤمنين الذين يستبدل بهم الله تعالى من يترك دينه، ويعرض عنه، ويرتد، ويتخلى عن القيام بحمل هذه الدعوة، والوفاء بعهد الله، وميثاقه في نصرة هذا الدين، وحمل ميراث النبوة، ورفع لواء سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذروة ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل.
عاقبة الأمة التي تختلف فيها هذه الصفات
فإما أن تكون الأمة المؤمنة التي أمر الله بها في قوله: ((وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ))[آل عمران:104] ترفع لواء الجهاد في سبيل الله وتنصر الحق موجودة أو لا توجد، أو ترتد كما ارتدت طائفة كانت تدعي ذلك، فإن الله تعالى لن يضيع دينه، وسوف يأتي بقوم آخرين، كما قال تعالى: ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ))[محمد:38] فيأتي الله تبارك وتعالى بقوم هذه صفاتهم.
وهذا دليل على أن الأمة التي تتخلف فيها هذه الصفات، هي أمة متروكة مخذولة ليست من أولياء الله، بل يتخلى الله عنها ويعاقبها بما يشاء، ويسلط عليها أعداءها، ويسلط عليها الفرقة فيما بينها فيشتت جمعها، ويذلها بمن يشاء من عباده المؤمنين أو الكافرين، فيبتليهم بالخوف، ويبتليهم بالجوع، وبما ذكر من المصائب والعذاب الذي حلَّ بالأمم السابقة، أو كما يشاء، ويأتي بالبديل وهم القوم الذين هذه صفاتهم.
صفة الذلة على المؤمنين
لما كان هذا الموضوع -موضوع الولاية- بهذه الأهمية، والتحذير عن موالاة الكفار بهذه المثابة وبهذه المنزلة، ذكر من صفات المؤمنين الذين يأتي بهم الله تعالى عوضاً عمن ارتد عن دينه، فذكر من صفاتهم أنهم أذلة على المؤمنين، كما علل الشيخ رحمه الله بأن هؤلاء يحبون الله، ويحبون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحبون الدين، فمن كان من أهل الدين والإيمان، من أهل محبة الله، من عباد الله الصالحين، ومن أهل اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنهم أذلة معه يعاملونه باللين والرحمة والشفقة وخفض الجناح؛ لأنهم ينظرون إلى دينه، وإلى محبوبه، وإلى غايته وهمه ومراده وهو الله واتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيعاملونه بمقتضى ذلك، فهو أخوهم وحبيبهم وخليلهم وقريبهم، حتى لو أخطأ عليهم فإنهم يعفون عنه ويتجاوزن، ولا يغلظون عليه لقوة صلته بالله ومحبته له، ومن أحب الله حقاً فإنه لا بد أن يحب كل من أحب الله من الأحياء أو من الأموات.
حتى لو أنك فتحت كتاباً من كتب التاريخ -أي كتاب- فوجدت سيرة رجل عالم عابد داعٍ إلى الله، آمرٍ بالمعروف ناهٍ عن المنكر أحببته وليس بينك وبينه أي صلة، وقد يكون من بلاد الهند، أو الترك، أو أطراف الدنيا، لكن لما وجدت سيرته بهذه الحال، فإنك تحبه، وتترحم عليه، وتترضى عنه، وتسأل الله تعالى أن يكثر من أمثاله في هذه الأمة.
وكذلك لو لم يكن هناك أي رابطة إلا أن الإنسان المؤمن يقرأ عن الماضين أو المعاصرين في أقاصي الدنيا، أن رجلاً منهم هذا حاله وشأنه من البعد عن الله أو محادة الله ورسوله وارتكاب ما حرم الله؛ فإنه يبغضه.
إذاً: هذا أمر يكون في قلب كل مؤمن، ودرجته ومقداره تكون بمقدار إيمان الإنسان ومحبته لله، فكلما عظمت محبة الله تعالى في قلب العبد المؤمن عظمت محبة أولياء الله وأحباب الله، فيكون خافضاً للجناح ذليلاً أمامهم، ولاحظوا كلمة (ذِلة) والذل هل هو صفة محبوبة عند الإنسان أو مكروهة؟
إنها مكروهة فلا يوجد أحد يريدها، أو يتمناها، ولا يصف بها إخوانه، ولا يصف بها أحداً ممن يحب، ومع ذلك جاءت هذه الصفة في وصف هؤلاء، ولم يقل رحماء، وقد قال في الآية الأخرى عندما وصف الصحابة فيما بينهم: ((رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ))[الفتح:29] لكن عندما ذكر شروط هؤلاء القوم، جاء بوصف أبلغ من مجرد الرحمة وهو الذلة؛ لأنك قد ترحم إنسان لكن أن تكون ذليلاً له فهذه مرحلة أعظم من ذلك، فهذا دليل على أن هذا الشرط مهم، ودقيق، وضروري، ولا بد منه لمن يريد أن يكون من هؤلاء القوم.
وعليه فإذا وجدت إنساناً غليظاً على المؤمنين، شديداً على الصالحين، عنيفاً على المتقين، بأي سبب؛ حتى لو يرى أنهم ظلموه في دنياه، أو خالفوه في رأي، أو فتيا؛ فاعلم أنه فقد صفة أساسية من هذه الصفات، ولا يمكن أن توجد الولاية أو المحبة لله عز وجل إلا مع وجودها، ولا بد من ترك ما يضادها.
العزة على الكافرين
إذا كان الإنسان ذليلاً للمومنين، وفي المقابل مع الكافرين عزيزاً غليظاً عليهم، فقد حقق الشرطين، وهذا لا يتعارض مع العدل، ولا يعني الغلظة على الكافر أنه ظالم للكافر بل هو العدل، ولذلك نحن عندما نجاهدهم فإننا نجاهدهم لأن الجهاد عدل، ونجاهدهم ونغلظ عليهم كما أمر الله تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ))[التحريم:9]، وقال: ((وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً))[التوبة:123].
فهذه الغلظة من العدل، وليس فيها اعتداء، بل هي حق لا تعني الظلم، ولا تعني البغي، حتى ونحن نجاهدهم فإننا لا نقتل إلا من أمرنا الله بقتله، ولا نقتل من نهانا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتله، ففي كل أمورنا نحن مقيدون بالعدل وبالقسط وبالحق.
إذاً: هذا لا يتعارض مع العدل، والغلظة أن يرى عدو الله تعالى منك ما يغيظه ويكدر أمره، إما بكلمة غليظة، ولا نعني بكلمة غليظة أن الإنسان يسب أو يشتم وإنما بالقوة في الحق والموقف، وإما عملاً يسيء إليه، كأن تهدم ما يبني هذا الكافر، وتحبط عمله، وتجتهد في رد كيده، وإفشال سعيه.
وأما إن كان أعلى من ذلك كمن يريد بالإسلام والمسلمين حرباً، فتحاربه وتقاتله، وتقتله إذا لم يكف شره إلا بذلك، وإذا لم يخضع لحكم الله، ويدفع الجزية؛ فإنه يقاتل حتى يقتل.
الخلل في تحقيق هاتين الصفتين
هاتان الصفتان لا بد أن تكونا مقترنتان، ولذلك كان أكبر خطأ يخطئ فيه كثير من الناس أنهم يغلظون على المؤمنين، من أغلظ على المؤمنين؛ فإنه يؤدي به الأمر إلى أن يتساهل مع الكافرين، وهذا أمر يجده كل إنسان من نفسه، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل في نفس الإنسان هذان العاملان:
أحدهما: الحب ومقتضاه: اللين، والرأفه، والرحمة، والذلة.
والآخر: البغض ومقتضاه: العنف، والقسوة، والشدة، والمقاتلة....إلخ.
فلو أن الإنسان أخطأ في أحدهما، فإنه يخطئ في الآخر لا محالة، فتجد بعض من يلين القول مع الكفار يغلظ على المسلم، فإذا تعامل مع الكفار، ووادهم، وأحبهم، وخالطهم بحيث إذا جاء إنسان وتكلم في الكفار، وحذَّر منهم، وبيَّن أنهم أعداء الله؛ أغلظ وأنكر عليه.
وكذلك لو أنه أغلظ على إخوانه المؤمنين وكان شديداً عليهم، فإن هذا قسط من عداوته للكافرين صرفه وحوله إلى إخوانه المؤمنين.
فتجد من شغله الله بالطعن والعيب والعداوة للمؤمنين لا يجد وقتاً ولا تجده يفرغ للطعن والحرب والعداوة لأعداء الله الكافرين، ولذلك يجب على المؤمن أن يحفظ هذا الميزان الدقيق وأن يجعل نفسه كما أمر الله تعالى.
فقوله تعالى ((أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ))[المائدة:54] يجب أن نأخذ هذه الكلمة بكل ما تحمله من معنى، وليس في ذلك غضاضة، فإن ذل المسلم لأخيه المسلم عزٌ له عند الله عز وجل، وهذا يورثه الدرجة العليا، وهي: أن يكون ممن يصطفيهم الله عز وجل، فأنت لا تنظر إلى أن أخاك المسلم أخطأ عليك، أو أخطأ في اجتهاد ترى أنه خالفك فيه، بل انظر إليه هل هو ممن يحب الله ورسوله فتجتمعان في محبة الله أم لا؟
ومن عادة الناس في أمور دنياهم أنهم إذا كان أحد منهم يحب أحداً فإنه يستشفع إليه بمن يحب، حتى ولو كان بينه وبين الرجل أي مشكلة فيعفو عنه لأنه تشفع له من يحبه ذلك الرجل.
محبة الله ورسوله فوق كل محبة
وهل هناك من يُحَب أعظم من الله عز وجل، فكل محبوب في هذه الدنيا تحبه فيجب أن يكون الله أحب إليك منه، لماذا؟
لأنك إن أحببت الوالد، فمن الذي خلق الوالد والوالدة؟
ومن الذي سخرهما لك؟
ومن الذي حفظهما لك حتى ربياك؟
ومن الذي أودع في قلبيهما الرأفة والحنان والشفقة بك؟
إنه الله.
لو أحببت الزوجة، فمن الذي خلقها؟
ومن الذي أعطاها الصفات التي أحببتها من أجلها في خَلْقِها أو في خُلُقِها؟
ومن الذي سخرها لك؟
إنه الله.
وقد تحب شيخك، أو معلمك، أو أستاذك، فمن الذي أعطاه العلم؟
ومن الذي سخره ليعلمك؟
ومن الذي عقد بينك وبينه هذه المحبة؟
إنه الله.
إذاً: كل من تحبه في هذه الدنيا، وتقدِّره، وتعظمه، فالفضل أولاً وآخراً لله تعالى، فوجب أن تحب الله أكثر من محبتك لهؤلاء جميعاً، ولهذا أشد محبة يجب أن يحبها الإنسان هي محبة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما قال عمر رضي الله عنه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { والله يا رسول الله! إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي -هل أقره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
لا- قال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من كل شيء حتى من نفسك، قال: الآن يا رسول الله! أنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي } وهذه حقيقة الإيمان، لأن من كان يريد أن يكون في مثل درجة عمر، فلا بد أن يصل به الحال إلى هذا المستوى، ألَّا يحب وألَّا يؤثر على محبة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي شيء؛ حتى نفسه التي بين جنبيه، لأن هذه النفس إنما جاءها الخير والصلاح والهدى من غيرها، وإلا فمن أين جاءنا الخير والصلاح والهدى؟
من أين الوسيلة التي نصل بها إلى النعيم الأبدي الخالد عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟
إن ذلك كان من طريق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
من لوازم محبة الله سبحانه وتعالى
يجب أن يكون الله عز وجل أحب إلينا من أنفسنا؛ إن أردنا أن نكون من أهل الدرجة العليا، وهكذا هي محبة الله تعالى، والذلة للمؤمنين والغلظة على الكافرين شرط في حصول ذلك، كما ذكر الشيخ رحمه الله تعالى، ولذلك عقب على الغلظة بالجهاد كما قال تعالى: ((يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ))[المائدة:54].
يقول: '' فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب ''.
إذا كنا نحب الله، فكيف نرضى ونسكت عمن يقول: إن لله تبارك وتعالى ولد؟
كما قال ذلك اليهود والنصارى، وكيف نرضى عن قول اليهود كما حكى الله عنهم: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا))[المائدة:64] وعندما يقول اليهود: ((إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ))[آل عمران:181] وعندما يكذِّبون رسل الله، وعندما يدعي النصارى أن لله ولداً، تعالى الله وتنزه عن هذا القول المنكر المفترى العظيم، الذي تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدَّا، فهكذا يقول النصارى واليهود.
والمشركون يعبدون مع الله حجارة وأصناماً، ويظنون أنها تقربهم من الله، وأنها واسطة بينهم وبين الله، فحق الله الذي خلقهم ورزقهم يصرفونه إلىهذه الحجارة وهذه الأوثان والأشجار والقبور، وغير ذلك، وهذا أمر عظيم، فمن عرف الله، وأحب الله، فإنه يجب عليه أن يتقرب إلى الله بقتال هؤلاء -أعداء الله- الذين تركوا عبادته والإخلاص له الذي أمرهم به، كما قال تعالى: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5] فتركوا ذلك وذهبوا إلى عبادة غير الله، والافتراء على الله، وادَّعوا لله تعالى ما ليس له.
وأقول: -ولله المثل الأعلى- هل يعقل أن تحب أحداً من الناس وتقول: أنا أحبه غاية المحبة، ولا تعادي من يفتري عليه أعظم الافتراء، ويبهته أعظم البهتان؟ مستحيل، حتى إن الواحد من الناس يقال له: ألم يكن فلاناً حبيبك، فيقول: نعم، هو حبيبي وأخي، لكن لما رأيته أبغض فلاناً، وافترى عليه، وكذا وكذا كرهته، فلسان حاله يقول: ليس بيني وبينه أي شيء، لكنه أبغض من أُحب، وكَذَب على من أحب، واتهم من أحب، وأبطل حق من أحبه محبة عظيمة؛ فكانت العاقبة أن أقطع ما بيني وبينه.
إذاً: هكذا المؤمنون لو أحبوا الله تعالى حق المحبة؛ لعادوا الكافرين أشد العداوة، وأحبوا المؤمنين أشد المحبة، ومنتهى العداوة أن يجاهدوا باليد بعد المجاهدة بالبيان، يجاهدون بالسنان مع إقامة الحجة عليهم بالدعوة والبرهان، وينتقلون معهم من حال المجادلة إلى حال المجالدة، وهذا لا بد منه، ولذلك تأتي هذه الصفة كأنها صفة لازمة.
فإنك لو تأملت السياق: (( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ))[المائدة:54] فهل المحبة صفة لازمة أو عارضة للمؤمن؟
لا شك أنها لازمة، وكذلك قوله: ((أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ))[المائدة:54] هل هي لازمة أم عارضة؟
أيضاً لازمة وثابتة، إذاً يجاهدون في سبيل الله لازمة، لماذا؟
لأنه من المستحيل أن تكون بهذه الدرجة، وأن تدعو إلى الله، ولا تجاهد في سبيل الله؛ فلابد من المجاهدة.
هذه الأمة في مجموعها لا بد لها أن تجاهد؛ لأن من سنة الله تعالى أنه ما قام أحد بأمر هذا الدين إلا عودي، وهذا ما علمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ورقة بن نوفل، فأول ما نزل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحي، لم يكن قد قرأ عن أخبار الأنبياء من قبل، ولا علم ولا عرف ما ابتلوا به، فأتت به خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، وكان رجلاً كبيراً قد أسنَّ، فذكرت له ذلك، فقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك فأنصرك نصراً مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي ومات، فتعجب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما سمع ذلك فقال: {أو مخرجي هم} لماذا يخرجونني؟
((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ))[العلق:1] هل فيها شيء يتطلب الإخراج أو الأذى؟
فقال له ورقة {ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي} وهو لا يعلم الغيب، ولكنه يعلم أنها قاعدة وسنة ماضية للرسل من قبل؛ لأنه يقرأ لأهل الكتاب أنه ما جاء نبي من الأنبياء ودعا إلى الله إلا عودي وحورب وأوذي؛ فمنهم من قتل، ومنهم من طرد، أو أوذي، أو حبس، أو... إلى آخره.
فلابد من نوع من الأذى والابتلاء يصيب الداعية إلى الله، ولهذا يقول الله تعالى لعبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ))[فصلت:43] فليس فيه جديد ((كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ))[الذاريات:52] نفس العبارة ((أَتَوَاصَوْا بِهِ))[الذاريات:53] هل كتب قوم نوح وثيقة وقالوا: يا عاد. إن بعث إليكم رسول يقول لكم اعبدوا الله فقولوا له كما قلنا؟
وهل كتبت عاد إلى ثمود إذا جاءكم وبعث فيكم رجل ودعاكم إلى مثل ما دعانا إليه هود فقولوا له كما قلنا؟
أبداً. لم يتواصوا به، إنما هي سنة واحدة، الطغيان واحد، والإعراض واحد، والرد واحد؛ لأنه كما قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيرا))[الفرقان:31]، إذاً: ما دام الأمر كذلك فكل من تصدَّى لهذا الدين لا بد أن يجاهد.