فتاوي الشيخ العثيمين رحمه الله

سئل فضيلة الشيخ: عن الولاء والبراء؟

فأجاب -رحمه الله- بقوله : البراء والولاء لله سبحانه، أن يتبرأ الإنسان من كل ما تبرأ الله منه، كما قال سبحانه وتعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا } وهذا مع القوم المشركين، كما قال سبحانه: { وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ }، فيجب على كل مؤمن أن يتبرأ من كل مشرك وكافر، فهذا في الأشخاص.

وكذلك يجب على المسلم أن يتبرأ من كل عمل لا يرضي الله ورسوله وإن لم يكن كفرا، كالفسوق والعصيان، كما قال سبحانه: { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } .

وإذا كان مؤمن عنده إيمان، وعنده معصية، فنواليه على إيمانه، ونكرهه على معاصيه، وهذا يجري في حياتنا، فقد تأخذ الدواء كريه الطعم، وأنت كاره لطعمه، وأنت مع ذلك راغب فيه؛ لأن فيه شفاء من المرض.

وبعض الناس يكره المؤمن العاصي أكثر مما يكره الكافر، وهذا من

(3/11)


--------------------------------------------------------------------------------

العجب، وهو قلب للحقائق، فالكافر عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، ويجب علينا أن نكرهه من كل قلوبنا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } وهؤلاء الكفار لن يرضوا منك إلا اتباع ملتهم وبيع دينك { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } ، { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا } ، وهذا في كل أنواع الكفر: الجحود والإنكار، والتكذيب، والشرك، والإلحاد.
أما الأعمال فنتبرأ من كل عمل محرم، ولا يجوز لنا أن نألف الأعمال المحرمة، ولا أن نأخذ بها، والمؤمن العاصي نتبرأ من عمله بالمعصية، ولكننا نواليه، ونحبه على ما معه من الإيمان.
(383) وسئل أيضا عن حكم موالاة الكفار؟
فأجاب بقوله : موالاة الكفار بالموادة والمناصرة واتخاذهم بطانة حرام منهي عنها بنص القرآن الكريم، قال الله تعالى: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }

(3/12)


--------------------------------------------------------------------------------

، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } ، وأخبر أنه إذا لم يكن المؤمنون بعضهم أولياء بعض، والذين كفروا بعضهم أولياء بعض، ويتميز هؤلاء عن هؤلاء، فإنها تكون فتنة في الأرض، وفساد كبير.
ولا ينبغي أبدا أن يثق المؤمن بغير المؤمن، مهما أظهر من المودة، وأبدى من النصح، فإن الله تعالى يقول عنهم: { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } ، ويقول سبحانه لنبيه: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } ، والواجب على المؤمن أن يعتمد على الله في تنفيذ شرعه، وألا تأخذه فيه لومة لائم، وألا يخاف من أعدائه، فقد قال الله تعالى: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }

(3/13)


--------------------------------------------------------------------------------

، وقال تعالى: { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } .
وقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ، والله الموفق.
(384) وسئل -حفظه الله-: عن حكم مودة الكفار، وتفضيلهم على المسلمين؟
فأجاب بقوله : لا شك أن الذي يواد الكفار أكثر من المسلمين قد فعل محرما عظيما، فإنه يجب أن يحب المسلمين، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، أما أن يود أعداء الله أكثر من المسلمين، فهذا خطر عظيم، وحرام عليه، بل لا يجوز أن يودهم، ولو أقل من المسلمين لقوله تعالى: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ }

(3/14)


--------------------------------------------------------------------------------

وكذلك أيضا من أثنى عليهم ومدحهم وفضلهم على المسلمين في العمل وغيره، فإنه قد فعل إثما، وأساء الظن بإخوانه المسلمين، وأحسن بمن ليسوا أهلا لإحسان الظن، والواجب على المؤمن أن يقدم المسلمين على غيرهم في جميع الشئون في الأعمال وفي غيرها، وإذا حصل من المسلمين تقصير، فالواجب عليه أن ينصحهم، وأن يحذرهم، وأن يبين لهم مغبة الظلم؛ لعل الله أن يهديهم على يده.
(385) سئل فضيلة الشيخ: عن الموالاة والمعاداة ؟ وعن حكم هجر المسلم؟
فأجاب بقوله : إن الموالاة والمعاداة يجب أن تكون لله عز وجل، فإن من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فقد سلك الطريق التي بها تنال ولاية الله عز وجل، أما من كانت ولايته ومعاداته وحبه وبغضه للهوى، أو للتقليد الأعمى، فقد حرم خيرا كثيرا، وربما يقع في أمر كبير، فقد يعادي وليا من أولياء الله عز وجل، فيكون حربا لله تعالى، كما في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: « قال الله عز وجل: من عادى لي وليا فقد آذنته في الحرب » ..." الحديث.
وربما يحب ويوالي عدوا من أولياء الله عز وجل، فيقع في أمر كبير وخطر عظيم كما قال الله تعالى: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } .

(3/15)


--------------------------------------------------------------------------------

وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ }، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } .

وهجر المسلم في الأصل حرام، بل من كبائر الذنوب إذا زاد على ثلاثة أيام، فقد صح عن النبي - أنه قال: « لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة، يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام » . متفق عليه، وروى أبو داود والنسائي بإسناده قال المنذري : إنه على شرط البخاري وسلم: « فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار » .

ومن المعلوم أن المسلم لا يخرج عن الإسلام بالمعاصي وإن عظمت، ما لم تكن كفرا، وعلى هذا فلا يحل هجر أصحاب المعاصي، إلا أن يكون في هجرهم مصلحة بإقلاعهم عنها، وردع غيرهم عنها؛ لأن المسلم العاصي ولو كانت معصيته كبيرة أخ لك؛ فيدخل في قوله -: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث..." ومن الأدلة على أن العاصي أخ للمطيع، وإن عظمت معصيته قوله تعالى فيمن قتل مؤمنا عمدا: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } . فجعل الله القاتل عمدا أخا للمقتول، مع أن القتل -قتل المؤمن عمدا- من أعظم الكبائر، وقوله تعالى في الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } . إلى قوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } . فلم يخرج الله الطائفتين المقتتلتين من الإيمان، ولا من الأخوة الإيمانية.

فإن كان في الهجر مصلحة، أو زوال مفسدة، بحيث يكون رادعا لغير

(3/16)


--------------------------------------------------------------------------------

العاصي عن المعصية أو موجبا، لإقلاع العاصي عن معصيته كان الهجر حينئذ جائزا، بل مطلوبا طلبا لازما، أو مرغبا فيه، حسب عظم المعصية التي هجر من أجلها، ودليل ذلك قصة كعب بن مالك وصاحبيه -رضي الله عنهم- وهم الثلاثة الذين خلفوا؛ فقد أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهجرهم، ونهى عن تكليمهم، فاجتنبهم الناس، حتى إن كعبا -رضي الله عنه-دخل على ابن عمه أبي قتادة -رضي الله عنه- وهو أحب الناس إليه، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، فصار بهذا الهجر من المصلحة العظيمة لهؤلاء الثلاثة من الرجوع إلى الله -عز وجل-، والتوبة النصوح والابتلاء العظيم، ولغيرهم من المسلمين ما ترجحت به مصلحة الهجر على مصلحة الوصل.
أما اليوم، فإن كثيرا من أهل المعاصي لا يزيدهم الهجر إلا مكابرة وتماديا في معصيتهم، ونفورا وتنفيرا عن أهل العلم والإيمان؛ فلا يكون في هجرهم فائدة لهم ولا لغيرهم.
وعلى هذا فنقول: إن الهجر دواء يستعمل حيث كان فيه الشفاء، وأما إذا لم يكن فيه شفاء أو كان فيه إشفاء، وهو الهلاك فلا يستعمل.
فأحوال الهجر ثلاث:
إما أن تترجح مصلحته فيكون مطلوبا.
وإما أن تترجح مفسدته فينهى عنه بلا شك.
وإما أن لا يترجح هذا ولا هذا، فالأقرب النهي عنه؛ لعموم قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة » .
أما الكفار المرتدون فيجب هجرهم والبعد عنهم، وأن لا يجالسوا ولا يواكلوا، إذا قام الإنسان بنصحهم ودعوتهم إلى الرجوع إلى الإسلام فأبوا،

(3/17)


--------------------------------------------------------------------------------

وذلك لأن المرتد لا يقر على ردته، بل يدعى إلى الرجوع إلى ما خرج منه، فإن أبى وجب قتله، وإذا قتل على ردته، فإنه لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين، وإنما يرمى بثيابه، ورجس دمه في حفرة بعيدا عن المقابر الإسلامية في مكان غير مملوك.

وأما الكفار غير المرتدين فلهم حق القرابة إن كانوا من ذوي القربى، كما قال تعالى: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ }، وقال في الأبوين الكافرين المشركين: { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } .

(386) سئل فضيلة الشيخ: عما زعمه أحد الوعاظ في مسجد من مساجد أوربا، من أنه لا يجوز تكفير اليهود والنصارى؟

فأجاب بقوله : أقول: إن هذا القول الصادر عن هذا الرجل ضلال، وقد يكون كفرا، وذلك لأن اليهود والنصارى كفرهم الله -عز وجل- في كتابه، قال الله تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }، فدل ذلك على أنهم مشركون، وبين الله تعالى في آيات أخرى ما هو صريح بكفرهم:

{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } .

(3/18)


--------------------------------------------------------------------------------

{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } .
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } .
والآيات في هذا كثيرة، والأحاديث، فمن أنكر كفر اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكذبوه، فقد كذب الله -عز وجل- وتكذيب الله كفر، ومن شك في كفرهم فلا شك في كفره هو.
ويا سبحان الله كيف يرضى هذا الرجل أن يقول: إنه لا يجوز إطلاق الكفر على هؤلاء، وهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة؟ وقد كفرهم خالقهم -عز وجل-، وكيف لا يرضى أن يكفر هؤلاء وهم يقولون: إن المسيح ابن الله، ويقولون: يد الله مغلولة، ويقولون: إن الله فقير ونحن أغنياء؟ !
كيف لا يرضى أن يكفر هؤلاء، وأن يطلق كلمة الكفر عليهم، وهم يصفون ربهم بهذه الأوصاف السيئة التي كلها عيب وشتم وسب؟ !
وإني أدعو هذا الرجل، أدعوه أن يتوب إلى الله -عز وجل- وأن يقرأ قول الله تعالى: { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } وألا يداهن هؤلاء في كفرهم، وأن يبين لكل أحد أن هؤلاء كفار، وأنهم من أصحاب النار، قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « والذي نفسي بيده، لا يسمع بي يهودي »

(3/19)


--------------------------------------------------------------------------------

« ولا نصراني من هذه الأمة -أي أمة الدعوة- ثم لا يتبع ما جئت به، أو قال: "لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار » .
فعلى هذا القائل أن يتوب إلى ربه من هذا القول العظيم الفرية، وأن يعلن إعلانا صريحا بأن هؤلاء كفرة، وأنهم من أصحاب النار، وأن الواجب عليهم أن يتبعوا النبي الأمي محمدا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وهو بشارة عيسى ابن مريم، عليه الصلاة والسلام.
فقد قال عيسى ابن مريم ما حكاه ربه عنه: { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } .
لما جاءهم من...؟ من الذي جاءهم...؟ المبشر به أحمد، لما جاءهم بالبينات قالوا: هذا سحر مبين، وبهذا نرد دعوى أولئك النصارى الذين قالوا: إن الذي بشر به عيسى هو أحمد لا محمد، فنقول: إن الله قال: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } . ولم يأتكم بعد عيسى إلا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومحمد هو أحمد، لكن الله ألهم عيسى أن يسمي محمدا بأحمد؛ لأن أحمد اسم تفضيل من الحمد، فهو أحمد الناس لله، وهو أحمد الخلق

(3/20)


--------------------------------------------------------------------------------

في الأوصاف كاملة، فهو عليه الصلاة والسلام أحمد الناس لله، جعلا لصيغة التفضيل من باب اسم الفاعل، وهو أحمد الناس، بمعنى أحق الناس أن يحمد، جعلا لصيغة التفضيل من باب اسم المفعول، فهو حامد ومحمود على أكمل صيغة الحمد الدال عليها أحمد .
وإني أقول: إن كل من زعم أن في الأرض دينا يقبله الله سوى دين الإسلام، فإنه كافر لا شك في كفره؛ لأن الله -عز وجل- يقول في كتابه: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ويقول -عز وجل-: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } .
وعلى هذا -وأكررها مرة ثالثة- على هذا القائل أن يتوب إلى الله -عز وجل- وأن يبين للناس جميعا أن هؤلاء اليهود والنصارى كفار؛ لأن الحجة قد قامت عليهم وبلغتهم الرسالة، ولكنهم كفروا عنادا.
ولقد كان اليهود يوصفون بأنهم مغضوب عليهم؛ لأنهم علموا الحق وخالفوه، وكان النصارى يوصفون بأنهم ضالون؛ لأنهم أرادوا الحق فضلوا عنه، أما الآن فقد علم الجميع الحق وعرفوه، ولكنهم خالفوه وبذلك استحقوا جميعا أن يكونوا مغضوبا عليهم، وإني أدعو هؤلاء اليهود والنصارى إلى أن يؤمنوا بالله ورسله جميعا وأن يتبعوا محمدا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن هذا هو الذي أمروا به في كتبهم كما قال الله تعالى:

(3/21)


--------------------------------------------------------------------------------

{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } .
وليأخذوا من الأجر بنصيبين، كما قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد، وصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، » . الحديث.
ثم إني اطلعت بعد هذا على كلام لصاحب الإقناع في باب حكم المرتد قال فيه -بعد كلام سبق-: "أولم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم فهو كافر".
ونقل عن شيخ الإسلام قوله:
"من اعتقد أن الكنائس بيوت الله، وأن الله يعبد فيها، وأن ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله وطاعة له ولرسوله، أو أنه يحب ذلك أو يرضاه

(3/22)


--------------------------------------------------------------------------------

أو أعانهم على فتحها، وإقامة دينهم، وأن ذلك قربة أو طاعة فهو كافر".
وقال أيضا في موضع آخر:
" من اعتقد أن زيارة أهل الذمة في كنائسهم قربة إلى الله فهو مرتد".
وهذا يؤيد ما ذكرناه في صدر الجواب، وهذا أمر لا إشكال فيه. والله المستعان.