خطبة عن أركان الايمان
الخطبة الأولى
وبعد: إخوة الإيمان، نتكلم ـ بإذن الله وعونه ـ عن الطاعات كما وعدنا، وأساس الطاعات وأهمها الذي لا قيمة للطاعات الأخرى بدونه الإيمان.
نتحدث اليوم عن الإيمان معناه وأركانه، ونتكلم في الخطب القادمة ـ بإذن الله ـ عن بعض جوانبه، ثم نتكلم عن مجموعة من الطاعات والخصال الإيمانية، أسأل الله أن يعيننا في الكلام عن هذا الأمر العظيم، وأن يغفر لنا أي خطأ أو تقصير.
فأركان الإيمان هي أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، هذا هو الإيمان كما بينه رسول الله ، وهذه هي أركانه.
أما معنى الإيمان كلفظ فهو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان ـ أي: القلب ـ والعمل بالأركان، يزيد هذا الإيمان بالطاعة، وينقص بالمعصية، فلا بد لكي يكون الإيمان فاعلا من اجتماع الإقرار باللسان ـ أي: أن تقرر حقائق الإيمان بلسانك ـ والتصديق بالقلب وإتباع ذلك بالعمل، وليس صحيحا ما يقوله كثير من الناس الذين يتركون ما فرض الله عليهم من أعمال ثم يقولون: الإيمان في القلب، فما قيمة إيمان لا يحرك صاحبه إلى الامتثال وإلى الطاعة والأعمال الصالحة.
إن الله تعالى قرن الإيمان في غالب الآيات التي ذكر فيها بالأعمال الصالحة كأمرين متلازمين، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف:107]، وقوله: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:1-3]، فلا بد أن نعي هذه الحقيقة حتى نكون مؤمنين حقا.
الركن الأول من أركان الإيمان: الإيمان بالله، والإيمان بالله معناه الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأنه الذي يستحق وحده أن يفرد بالعبادة من صلاة وصوم ودعاء ورجاء وخوف وذل وخضوع، وأنه المتصف بصفات الكمال كلها المنزه عن كل نقص، فالإيمان بالله سبحانه يتضمن توحيده في ثلاثة أمور: في ربوبيته وفي ألوهيته وفي أسمائه وصفاته، ومعنى توحيده في هذه الأمور اعتقاد تفرده سبحانه بالربوبية والخلق والتدبير وغيرها من أمور الربوبية، فهو القائل سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21، 22]. ومعنى توحيده أيضا اعتقاد تفرده بالألوهية والعبادة، يقول سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، ويقول سبحانه: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ [يونس:106]. ومن توحيده أيضا اعتقاد تفرده في صفات الكمال وأسماء الجلال، يقول سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، ويقول سبحانه عن نفسه: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65].
هذه إخوة الإيمان ركائز الإيمان بالله جل وعلا، فلا يكون العبد مؤمنا بالله حتى يعتقد أن الله رب كل شيء ولا رب غيره، وإله كل شيء المعبود حقا ولا إله غيره، وأنه الكامل في صفاته وأسمائه ولا كامل غيره.
الركن الثاني من أركان الإيمان: الإيمان بالملائكة الكرام، والملائكة عالم غيبي مخلوقون عابدون لله تعالى، وليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، خلقهم الله تعالى من نور، ومنحهم الانقياد التام لأمره والقوة على تنفيذه، قال تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:19، 20]، وهم عدد كثير لا يحصيهم إلا الله تعالى، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة المعراج أن النبي رفع له البيت المعمور في السماء يصلي إليه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه إلى آخر ما عليهم.
والملائكة مخلوقات عظيمة الخلق، فقد رأى النبي جبريل على صورته وله ستمائة جناح قد سد الأفق، وقد يتحول الملك بأمر الله تعالى إلى هيئة رجل كما حصل لجبريل حين أرسله تعالى إلى مريم فتمثل لها بشرا سويا، وحين جاء إلى النبي وهو جالس في أصحابه بصفة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة، فجلس إلى النبي فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخديه، وسأل النبي عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأماراتها، فأجابه النبي ، فانطلق ثم قال النبي: ((هذا جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم)) أخرجه مسلم.
ومن الملائكة جبريل الأمين على وحي الله تعالى، يرسله إلى الأنبياء والرسل، وميكائيل الموكل بالقطر أي: المطر والنبات، وإسرافيل الموكل بالنفخ في الصور عند قيام الساعة وبعث الخلق، وملك الموت الموكل بقبض الأرواح عند الموت، ومالك الموكل بالنار، هؤلاء ملائكة نعرفهم بأسمائهم، ومن الملائكة من نعرفهم بوظائفهم، مثل الملائكة السياحين في الأرض الذين يلتمسون حلق الذكر والعلم، والملائكة الموكلين بالجنة والنار، وقد ذكرنا منهم مالكا خازن النار، والملائكة الذين يكتبون أعمال الناس، والملائكة الذين يتعاقبون على بني آدم في الليل والنهار، والملائكة الركع السجد في السماء، والملكين اللذين يسألان الإنسان في قبره عن ربه ودينه ونبيه، وفي بعض الأحاديث عند الترمذي وغيره أن اسمهما المنكر والنكير إلى غير ذلك من ملائكة كرام.
أما الركن الثالث من أركان الإيمان ـ أيها المسلمون ـ فالإيمان بالكتب التي أنزلها الله تعالى على رسله رحمة للخلق وهداية لهم، ليصلوا بهذه الكتب إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة. فعلينا الإيمان بما علمنا اسمه من هذه الكتب باسمه، كالقرآن الذي نزل على رسول الله ، والتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، والإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام، والزبور الذي أوتيه داود عليه السلام، وصحف إبراهيم وموسى عليهما السلام، وما لم نعلم اسمه من كتب الله فنؤمن به إجمالا.
أما الركن الرابع فهو الإيمان بالرسل عليهم صلوات الله وسلامه، حيث لم تخل أمة من رسول يبعثه الله بشريعة مستقلة إلى قومه أو نبي يوحى إليه بشريعة من قبله ليجددها، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24].
فعلينا الإيمان بمن سمى الله تعالى في كتابه من رسله، والإيمان بأن الله تعالى أرسل رسلا سواهم لا يعلم أسماءهم وعددهم إلا الله الذي أرسلهم، فعلينا الإيمان بهم جملة، يقول تعالى: وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164]، وعلينا الإيمان أيضا بأنهم بينوا ما أرسلهم الله به بيانا لا يسع أحدا ممن أرسلوا إليه جهله ولا يحل خلافه، قال تعالى: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل:35].
وأما أولو العزم من الرسل فعن ابن عباس أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه، وهم المذكورون في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7].
وأفضل الرسل إمام المرسلين وخاتمهم صاحب الشفاعة العظمى نبينا محمد ، يقول كما في الترمذي من حديث أبي سعيد: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر)).
الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر، اليوم الذي يُبعث الناس فيه للحساب والجزاء، وسمي باليوم الآخر لأنه لا يوم بعده حيث يستقر أهل الجنة في منازلهم وأهل النار في منازلهم، ذكر الله تعالى هذا اليوم في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقال سبحانه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا [النساء:136]، وقال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [النساء:87]، وقد قال الكافرون مستبعدين للبعث: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء:49]، أي: كيف نبعث ونخلق مرة أخرى بعد أن نصبح عظاما ورفاتا؟! فرد عليهم الله سبحانه من نفس منطقهم أن بعثهم وخلقهم بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا أيسر من خلقهم أول مرة من العدم، يقول سبحانه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78، 79].
الركن الأخير من أركان الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره من الله سبحانه والرضا به، والقدر تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته، وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، فكل شيء بقضاء وقدر، يقول تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، ويقول: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، فلا يكون إلا ما شاء سبحانه وتعالى وقدره بعلمه، فهو العليم الحكيم.
فاتقوا الله عباد الله، وحققوا الإيمان في قلوبكم، واعلموا أن هذه الأركان وغيرها من أصول عقيدتكم مبثوثة في كتاب ربكم سبحانه وسنة نبيكم ، فاعتصموا بهما تفلحوا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام، تكلمنا عن أركان الإيمان الأساسية في عقيدتنا الإسلامية، وما نريد أن نوجه الاهتمام إليه أن هذه الأركان ليست للعلم النظري والاستظهار اللفظي بحيث إذا سألك أحد عن أركان الإيمان سردتها له، بل هذه الأركان يجب أن يتيقنها الإنسان، ويجب أن يعيها، ويجب أن يغرسها في قرارة نفسه، ويضعها نصب عينيه، ويطبع حياته على أساسها، ويخضع نفسه للشرع، ولا يُخضع الشرع لهواه، ويمتثل كلام الله وكلام رسوله .
فمعرفتنا بأركان الإيمان تقتضي عملا وخوفا وصدقا في التوجه إلى الله، فما فائدة أن تعرف أن الله مولاك ومصورك ورازقك وأنه يراك ويسمعك وأنه أقرب إليك من حبل الوريد ثم أنت تعصيه بالليل والنهار وتجاهر بالمعصية؟! هل هذا مقتضى الإيمان بالله؟! وما فائدة أن تعرف أن لله ملائكة كراما وأن منهم من وكلهم الله بكتابة أعمال الناس وكسبهم يلازمونك طيلة حياتك ثم أنت لا تتورع عن إيذائهم بالخبائث وترتكب في السر والعلانية الموبقات التي تسجل عليك وتراها في كتابك يوم الحشر؟! وما معنى أن تؤمن باليوم الآخر وبأن الناس سيقفون بين يدي الله رب العالمين ليقتص للمظلوم من الظالم وليوفي كل نفس ما كسبت وليعطي كل ذي حق حقه ثم أنت تظلم الناس وتغشهم وتسرق أموالهم وتسبهم وتؤذي جيرانك إلى غير ذلك من معاص؟! وما فائدة أن تؤمن بالقضاء والقدر ثم أنت تجزع إذا أصابك مكروه وتعترض على حكم الله وقضائه؟!
فالمقصود ـ بارك الله فيكم ـ أن لا نأخذ هذه الحقائق السامية على أنها معلومات تحفظ وتردد فقط، ولكنها عقيدة، كل من ادعى الإسلام ملزم بأن يحيا على ضوئها ولا يحيد عنها قيد أنملة حتى يلقى الله سبحانه وهو راض عنه، فإذا تشرب القلب هذه العقيدة فلا بد أن تظهر آثارها في أخلاق المسلم وسلوكه مع ربه ومع الناس والعكس بالعكس؛ فإن المسلم إذا تخلق بالأخلاق الحسنة وجاهد نفسه في تحقيقها فإنه يحقق الإيمان أو يزيد فيه، يقول في الحديث الحسن الذي أخرجه أحمد والترمذي عن أبي هريرة: ((اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)).
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...
الخطبة الأولى
وبعد: إخوة الإيمان، نتكلم ـ بإذن الله وعونه ـ عن الطاعات كما وعدنا، وأساس الطاعات وأهمها الذي لا قيمة للطاعات الأخرى بدونه الإيمان.
نتحدث اليوم عن الإيمان معناه وأركانه، ونتكلم في الخطب القادمة ـ بإذن الله ـ عن بعض جوانبه، ثم نتكلم عن مجموعة من الطاعات والخصال الإيمانية، أسأل الله أن يعيننا في الكلام عن هذا الأمر العظيم، وأن يغفر لنا أي خطأ أو تقصير.
فأركان الإيمان هي أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، هذا هو الإيمان كما بينه رسول الله ، وهذه هي أركانه.
أما معنى الإيمان كلفظ فهو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان ـ أي: القلب ـ والعمل بالأركان، يزيد هذا الإيمان بالطاعة، وينقص بالمعصية، فلا بد لكي يكون الإيمان فاعلا من اجتماع الإقرار باللسان ـ أي: أن تقرر حقائق الإيمان بلسانك ـ والتصديق بالقلب وإتباع ذلك بالعمل، وليس صحيحا ما يقوله كثير من الناس الذين يتركون ما فرض الله عليهم من أعمال ثم يقولون: الإيمان في القلب، فما قيمة إيمان لا يحرك صاحبه إلى الامتثال وإلى الطاعة والأعمال الصالحة.
إن الله تعالى قرن الإيمان في غالب الآيات التي ذكر فيها بالأعمال الصالحة كأمرين متلازمين، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف:107]، وقوله: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:1-3]، فلا بد أن نعي هذه الحقيقة حتى نكون مؤمنين حقا.
الركن الأول من أركان الإيمان: الإيمان بالله، والإيمان بالله معناه الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأنه الذي يستحق وحده أن يفرد بالعبادة من صلاة وصوم ودعاء ورجاء وخوف وذل وخضوع، وأنه المتصف بصفات الكمال كلها المنزه عن كل نقص، فالإيمان بالله سبحانه يتضمن توحيده في ثلاثة أمور: في ربوبيته وفي ألوهيته وفي أسمائه وصفاته، ومعنى توحيده في هذه الأمور اعتقاد تفرده سبحانه بالربوبية والخلق والتدبير وغيرها من أمور الربوبية، فهو القائل سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21، 22]. ومعنى توحيده أيضا اعتقاد تفرده بالألوهية والعبادة، يقول سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، ويقول سبحانه: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ [يونس:106]. ومن توحيده أيضا اعتقاد تفرده في صفات الكمال وأسماء الجلال، يقول سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، ويقول سبحانه عن نفسه: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65].
هذه إخوة الإيمان ركائز الإيمان بالله جل وعلا، فلا يكون العبد مؤمنا بالله حتى يعتقد أن الله رب كل شيء ولا رب غيره، وإله كل شيء المعبود حقا ولا إله غيره، وأنه الكامل في صفاته وأسمائه ولا كامل غيره.
الركن الثاني من أركان الإيمان: الإيمان بالملائكة الكرام، والملائكة عالم غيبي مخلوقون عابدون لله تعالى، وليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، خلقهم الله تعالى من نور، ومنحهم الانقياد التام لأمره والقوة على تنفيذه، قال تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:19، 20]، وهم عدد كثير لا يحصيهم إلا الله تعالى، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة المعراج أن النبي رفع له البيت المعمور في السماء يصلي إليه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه إلى آخر ما عليهم.
والملائكة مخلوقات عظيمة الخلق، فقد رأى النبي جبريل على صورته وله ستمائة جناح قد سد الأفق، وقد يتحول الملك بأمر الله تعالى إلى هيئة رجل كما حصل لجبريل حين أرسله تعالى إلى مريم فتمثل لها بشرا سويا، وحين جاء إلى النبي وهو جالس في أصحابه بصفة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة، فجلس إلى النبي فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخديه، وسأل النبي عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأماراتها، فأجابه النبي ، فانطلق ثم قال النبي: ((هذا جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم)) أخرجه مسلم.
ومن الملائكة جبريل الأمين على وحي الله تعالى، يرسله إلى الأنبياء والرسل، وميكائيل الموكل بالقطر أي: المطر والنبات، وإسرافيل الموكل بالنفخ في الصور عند قيام الساعة وبعث الخلق، وملك الموت الموكل بقبض الأرواح عند الموت، ومالك الموكل بالنار، هؤلاء ملائكة نعرفهم بأسمائهم، ومن الملائكة من نعرفهم بوظائفهم، مثل الملائكة السياحين في الأرض الذين يلتمسون حلق الذكر والعلم، والملائكة الموكلين بالجنة والنار، وقد ذكرنا منهم مالكا خازن النار، والملائكة الذين يكتبون أعمال الناس، والملائكة الذين يتعاقبون على بني آدم في الليل والنهار، والملائكة الركع السجد في السماء، والملكين اللذين يسألان الإنسان في قبره عن ربه ودينه ونبيه، وفي بعض الأحاديث عند الترمذي وغيره أن اسمهما المنكر والنكير إلى غير ذلك من ملائكة كرام.
أما الركن الثالث من أركان الإيمان ـ أيها المسلمون ـ فالإيمان بالكتب التي أنزلها الله تعالى على رسله رحمة للخلق وهداية لهم، ليصلوا بهذه الكتب إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة. فعلينا الإيمان بما علمنا اسمه من هذه الكتب باسمه، كالقرآن الذي نزل على رسول الله ، والتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، والإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام، والزبور الذي أوتيه داود عليه السلام، وصحف إبراهيم وموسى عليهما السلام، وما لم نعلم اسمه من كتب الله فنؤمن به إجمالا.
أما الركن الرابع فهو الإيمان بالرسل عليهم صلوات الله وسلامه، حيث لم تخل أمة من رسول يبعثه الله بشريعة مستقلة إلى قومه أو نبي يوحى إليه بشريعة من قبله ليجددها، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24].
فعلينا الإيمان بمن سمى الله تعالى في كتابه من رسله، والإيمان بأن الله تعالى أرسل رسلا سواهم لا يعلم أسماءهم وعددهم إلا الله الذي أرسلهم، فعلينا الإيمان بهم جملة، يقول تعالى: وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164]، وعلينا الإيمان أيضا بأنهم بينوا ما أرسلهم الله به بيانا لا يسع أحدا ممن أرسلوا إليه جهله ولا يحل خلافه، قال تعالى: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل:35].
وأما أولو العزم من الرسل فعن ابن عباس أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه، وهم المذكورون في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7].
وأفضل الرسل إمام المرسلين وخاتمهم صاحب الشفاعة العظمى نبينا محمد ، يقول كما في الترمذي من حديث أبي سعيد: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر)).
الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر، اليوم الذي يُبعث الناس فيه للحساب والجزاء، وسمي باليوم الآخر لأنه لا يوم بعده حيث يستقر أهل الجنة في منازلهم وأهل النار في منازلهم، ذكر الله تعالى هذا اليوم في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقال سبحانه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا [النساء:136]، وقال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [النساء:87]، وقد قال الكافرون مستبعدين للبعث: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء:49]، أي: كيف نبعث ونخلق مرة أخرى بعد أن نصبح عظاما ورفاتا؟! فرد عليهم الله سبحانه من نفس منطقهم أن بعثهم وخلقهم بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا أيسر من خلقهم أول مرة من العدم، يقول سبحانه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78، 79].
الركن الأخير من أركان الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره من الله سبحانه والرضا به، والقدر تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته، وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، فكل شيء بقضاء وقدر، يقول تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، ويقول: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، فلا يكون إلا ما شاء سبحانه وتعالى وقدره بعلمه، فهو العليم الحكيم.
فاتقوا الله عباد الله، وحققوا الإيمان في قلوبكم، واعلموا أن هذه الأركان وغيرها من أصول عقيدتكم مبثوثة في كتاب ربكم سبحانه وسنة نبيكم ، فاعتصموا بهما تفلحوا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام، تكلمنا عن أركان الإيمان الأساسية في عقيدتنا الإسلامية، وما نريد أن نوجه الاهتمام إليه أن هذه الأركان ليست للعلم النظري والاستظهار اللفظي بحيث إذا سألك أحد عن أركان الإيمان سردتها له، بل هذه الأركان يجب أن يتيقنها الإنسان، ويجب أن يعيها، ويجب أن يغرسها في قرارة نفسه، ويضعها نصب عينيه، ويطبع حياته على أساسها، ويخضع نفسه للشرع، ولا يُخضع الشرع لهواه، ويمتثل كلام الله وكلام رسوله .
فمعرفتنا بأركان الإيمان تقتضي عملا وخوفا وصدقا في التوجه إلى الله، فما فائدة أن تعرف أن الله مولاك ومصورك ورازقك وأنه يراك ويسمعك وأنه أقرب إليك من حبل الوريد ثم أنت تعصيه بالليل والنهار وتجاهر بالمعصية؟! هل هذا مقتضى الإيمان بالله؟! وما فائدة أن تعرف أن لله ملائكة كراما وأن منهم من وكلهم الله بكتابة أعمال الناس وكسبهم يلازمونك طيلة حياتك ثم أنت لا تتورع عن إيذائهم بالخبائث وترتكب في السر والعلانية الموبقات التي تسجل عليك وتراها في كتابك يوم الحشر؟! وما معنى أن تؤمن باليوم الآخر وبأن الناس سيقفون بين يدي الله رب العالمين ليقتص للمظلوم من الظالم وليوفي كل نفس ما كسبت وليعطي كل ذي حق حقه ثم أنت تظلم الناس وتغشهم وتسرق أموالهم وتسبهم وتؤذي جيرانك إلى غير ذلك من معاص؟! وما فائدة أن تؤمن بالقضاء والقدر ثم أنت تجزع إذا أصابك مكروه وتعترض على حكم الله وقضائه؟!
فالمقصود ـ بارك الله فيكم ـ أن لا نأخذ هذه الحقائق السامية على أنها معلومات تحفظ وتردد فقط، ولكنها عقيدة، كل من ادعى الإسلام ملزم بأن يحيا على ضوئها ولا يحيد عنها قيد أنملة حتى يلقى الله سبحانه وهو راض عنه، فإذا تشرب القلب هذه العقيدة فلا بد أن تظهر آثارها في أخلاق المسلم وسلوكه مع ربه ومع الناس والعكس بالعكس؛ فإن المسلم إذا تخلق بالأخلاق الحسنة وجاهد نفسه في تحقيقها فإنه يحقق الإيمان أو يزيد فيه، يقول في الحديث الحسن الذي أخرجه أحمد والترمذي عن أبي هريرة: ((اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)).
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...