« مرة أخرى بعد سنوات فى مضارب غفار ، وقد مضت أحداث بدر وأحد والأحزاب .. يبدو أبو ذر قلقًا حائرًا لا يستقر على حال .. لا يكاد يهـدأ له بال ..
يمضى أيامه فى الصلاة والعبادة والتهجد والدعوة إلى دين الله .. ولكنه مشدود بحنين وعطش لا يرتوى إلى صحبة النبى ..
يعزم أمره على معاودة الرحيل إلى يثرب ليكون إلى جوار الرسول .. يدخل عليه شقيقه أنيس .. »
أنيس : ( مبتدرًا ) .. إلام العزم يا أبا ذر ؟!
أبو ذر : قد طال شوقى إلى جوار النبى .. وقد فاتتنى على ما تعلم خطوب وأحداث جسام كنت أحب أن أكون فيها فى إهابه ..
فاتتنى بدر ، وأحد ، والأحزاب ، وأحسب أنه قد آن الأوان لألتزم جواره ولا أفارقه ..
أنيس : ولكن ليس لنا عزوة ولا قرابة هناك ؟!
أبو ذر : حسبى بعزوة الإسلام والقرب من رسول الله .
أنيس : عزمت عليك أن تتدبر الوسيلة .. لا بيوت لنا هناك ولا مكان .. فأين تقيم ؟!
أبو ذر : أما سمعت عن أهل الصُفة ؟
أنيس : تقصد من يجاورون فى المسجد بالمدينة ؟!
أبو ذر : أجل .. إنهم يلزمون المسجد ، يقومون فيه نهارهم وليلهم يتعبدون ، حتى إذا ما أرخى الليل سدوله باتوا فيه إلى جوار بيت النبى ..
وحسبها يا أنيس جيرة .. قد طال والله حنينى وشوقى الى رسول الله .
* * *
« المسجد النبوى بالمدينة المنورة .. الرسول جالس فى أصحابه يدخل أبو ذر ، مشدودا إلى النبى ، فيندفع شوقاً إلى مجلسه ، ولكنه لا يكاد يجلس إلاّ ويبادره المصطفى ـ عليه السلام .. »
النبى : ( سائلاً أبا ذر ) أصليت ؟!
أبو ذر : ( وقد ارتج عليه ) لا .
النبى : يا أبا ذر ، إن للمسجد تحية ، وإن تحيته ركعتان ، فقم فاركعهما .
« ينهض أبو ذر ، وينتحى جانبا يصلى .. فإذا فرغ من صلاته عاد الى مجلس النبى .. »

النبى : ( حانيا ) يا أبا ذر .. استعذ بالله من شياطين الإنس والجن .
أبو ذر : وهل للإنس من شياطين ؟!
النبى : نعـم .. يـا أبا ذر ، ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ .. قل لا حول ولا قوة إلا بالله .
أبو ذر : ( سائلاً ) ـ يا رسول الله فما الصلاة ؟
النبى : خير موضوع ، فمن شاء أكثر ، ومن شاء أقل ..
أبو ذر : فما الصيام ؟
النبى : فرض مجزئ ..
أبو ذر : فما الصدقة ؟
النبى : أضعاف مضاعفة ، وعند الله مزيد ..
أبو ذر : فأى ما أنزل الله عليك أعظم ؟
النبى : الله لا إله إلا هو الحى القيوم .

* * *
« المسجـد النبوى وقـد أرخى الليل سدوله .. أبو ذر ينام بالمسجد مع نفر من أهل الصفة الذين يلازمون المسجد وينامون فيه »
* * *
« الرسول يخرج ليلاً من بيته إلى المسجد .. يصادفه أبو هريرة فيأمره النبى بأن يدعو إليه أصحابه .. أبو هريرة يطوف بهم فيوقظهم فرداً فرداً ..
حتى إذا اكتملوا استأذنوا على النبى فأذن لهم فدخلوا عليه ..أمام الرسول صحفة فيها صنيع من شعير .. الرسول يضع يده عليها ويقول حانياً إلى أصحابه من أهل الصُفّة .. »
النبى : ( لأصحابه ) خذوا باسم الله .. الذى نفس محمد بيده ما أمسى فى آل محمد طعام ليس شيئاً ترونه ..
« أهـل الصُفّة يقبلون على الطعام والرسول يحادثهم ويرفق بهم ، حتى إذا ما انتهوا انصرفوا إلى المسجد ليناموا ..
أبو ذر يغط فى نوم عميق ، ولكن أذنيه تسمعـان حفيفـًا خفيفًا ، يستيقظ فينظر فيرى النبى يتجه من داره إلى قبلة المسجد ، فيقف قائماً يصلى
بينما أبو ذر يتابعه بقلب واجف وجلال وخشوع أَخذا عليه كل نفسه .. يسمع النبى يدعو ربه فى تبتل ويقرأ .. »

النبى : ( يتلو ) « إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ »
« أبو ذر ينتظر حتى يفرغ النبى من صلاته وتهجده ، فيقترب منه سائلاً فى شوق وحياء .. »
أبو ذر : يـا رسول الله ، ما زلت تقرأ هذه الآيـة حتى أمسيت تركـع وتسجد بها !
النبى : فإنى يا أبا ذر سألت الله الشفاعة فأعطانيها ، وهى نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله عز وجل أحدًا ..
* * *

« المسجد النبوى .. النبى ـ عليه السلام ـ يدخل يتفقد أبا ذر .. فيجده نائما .. فيكزه النبى وكزة خفيفة فى رفق .. فينهض أبو ذر .. »
النبى : ( مداعبًا فى رفق ) ألا أراك إلاّ نائمًا ؟
أبو ذر : فأين أنام يا رسول الله ؟ .. وهل لى من بيت غيره ؟
« أبو ذر يجلس إلى النبى »
النبى : كيف أنت إذا أخرجوك منه ؟
أبو ذر : ألحق بالشام ، فإن الشام أرض الهجرة ، وأرض المحشر ، وأرض الأنبياء ، فأكون رجلاً من أهلها .
النبى : كيف أنت إذا أخرجوك من الشام ؟
أبو ذر : أرجع إليه فيكون بيتى ومنزلى .
النبى : فكيف أنت إذا أخرجوك منه الثانية ؟
أبو ذر : آخذ إذاً سيفى فأقاتل حتى أموت .
النبى : ( وقد عبس لقالته ) أدلك على خير من ذلك ؟
أبو ذر : بأبى وأمى يا رسول الله .
النبى : تنقاد لهم حيث قادوك ، حتى تلقانى وأنت على ذلك .
* * *
" النبى عليه السلام يمر بالمدينة .. يشهد أبا ذر يتشاجر مع رجل فيعايره بأمه الأعجمية .. "
الرسول : ( لأبى ذر ) هل ساببته ؟!
أبو ذر : ( مطرقاً ) نعم فعلت ..
الرسول : ( سائلاً ) ذكرت أمه ؟!
أبو ذر : يا رسول الله ، .. من ساب الرجال ذُكر أبوه وأمه !
الرسول : ( مؤنبًا ) إنك امرؤ فيك جاهلية .. إخوانكم ـ جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه ، وليلبسه من ثيابه ، ولا يكلفه ما يغلبه ..
( ناصحًا ) انظر ، فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود ، إلاّ أن تفضله بتقوى الله ..
« أبو ذر يطرق خجلاً ـ ويبادر إلى الرجل معتذرًا إليه .. يتصافحان ويتصافيان .. وينصرف الرسول ـ عليه السلام ـ راضيًا »
* * *
« أبو ذر جالس إلى الرسول بالمسجد .. »
أبو ذر : يا رسول الله ، إنك أمرتنى بالصلاة .. فما الصلاة ؟
النبى : خير موضوع استكثر أو استقل ..
أبو ذر : يا رسول الله فأى الأعمال أفضل ؟
النبى : إيمان بالله عز وجل ، وجهاد فى سبيله ..
أبو ذر : يا رسول الله فأى المؤمنين أكملهم إيمانًا ؟
النبى : أحسنهم خلقًا..
أبو ذر : يا رسول الله فأى المؤمنين أسلم ؟
النبى : من سلم الناس من لسانه ويده ..
أبو ذر : يا رسول الله فأى الهجرة أفضل ؟
النبى : من هجر السيئات ..
أبو ذر : يا رسول الله فأى الصلاة أفضل ؟
النبى : طول القنوت ..
أبو ذر : يا رسول الله فما الصيام ؟
النبى : فرض مجزئ ، وعند الله أضعاف كثيرة ..
أبو ذر : يا رسول الله فأى الصدقة أفضل ؟
النبى : جهد من مقل يسر الى فقير ..
أبو ذر : يا رسول الله فأى آية مما أنزل الله عز وجل ؟
النبى : آية الكرسى .. يا أبا ذر ما السموات السبع مع الكرسى إلا كحلقة ملقاة
بأرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسى كفضل الفلاة على الحلقة
أبو ذر : يا رسول الله أوصنى .
النبى : أوصيك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله .
أبو ذر : يا رسول الله زدنى ..
النبى : عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك فى الأرض ، وذكر لك فى السماء ..
أبو ذر : يا رسول الله زدنى .
النبى : عليك بالصمـت إلاّ مـن خير ، فإنه مطردة للشيطان عنك ، وعون لك على أمر دينك ..
أبو ذر : يا رسول الله زدنى .
النبى : حب المساكين وجالسهم ..
أبو ذر : يا رسول الله زدنى .
النبى : انظـر إلـى مـن تحتـك ولا تنظـر الى من فوقـك فإنه أجدر أن لا تزدرى نعمة الله عندك ..
أبو ذر : زدنى يا رسول الله ..
النبى : صل قرابتك وإن قطعوك ..
أبو ذر : يا رسول الله زدنى ..
النبى : لا تخف فى الله لومة لائم ..
أبو ذر : يا رسول الله زدنى ..
النبى : قل الحق وإن كان مرًا ..
أبو ذر : يا رسول الله زدنى ..
النبى : يردك عن الناس ما تعرف مـن نفسك ، ولا تجد عليهم فيما تأتى ، وكفى به عيبا أن تعرف من الناس ما تجهل من نفسك أو تجد عليهم فيما تأتى ..
( وهو يضرب بيده على صدر أبى ذر ) يا أبا ذر لا عقل كالتدبير ، ولا ورع كالكف ، ولا حسب كحسن الخلق ..
* * *
« بعد زمن .. فى حرة المدينة عشاء .. يبدو جبل أُحُدْ فى الأفق .. النبى ـ عليه السلام ـ يسير ، وفى صحبته أبو ذر »
الرسول : ( وهو ينظر الى جبل أحد ) يا أبا ذر ..
أبو ذر : لبيك يا رسول الله ..
الرسول : ( يشير إلى جبل أحد ) ما أحب أن أُحُدًا ذاك عندى ذهب ، أمسى ثالثة عندى منه دينار إلاّ ديناراً أرصده لدين ، إلاّ أن أقول به فى عباد الله هكذا .. وهكذا .. وهكذا ..

« الرسول يحثو بين يديه ثم عن يمينه ثم عن شماله ويمضى ماشياً وأبو ذر الى جواره متأملاً فى صمت .. »
الرسول : ( بعد برهة ) يا أبا ذر ..
أبو ذر : لبيك يا رسول الله ..
الرسول : ان الأكثرين هم الأقلّون يوم القيامة .. إلاّ من أعطاه الله خيرًا ففتح فيه يمينه وشماله بين يديه ووراءه وعمل فيه خيرًا ..
* * *

« المدينة المنورة .. ذو القعدة من السنة السادسة للهجرة .. المسلمون يتهيأون للخروج إلى مكة المكرمة ..
محرمين حاجين قاصدين الحج إلى بيت الله الحرام الذى جعله الله تعالى مثابةً للناس وأمناً .. فى صدر أبى ذر أسئلة حبيسة عن ملاحظات لا يفهمها ولا يسيغها ..
كيف يذهب المسلمون بلا سلاح ولا عتاد إلى مكة حيث طواغيت قريش الذين عذبوا المسلمين وحاصروهم فى شعابها وأجبروهم إجباراً على ترك ديارهم
وذويهم وأموالهم والهجرة فارين بدينهم وحيواتهم إلى يثرب ..
يسائل أبو ذر نفسه ، كيف يذهب المسلمون بلا سلاح إلى عُقر دار أهل الكفر والطاغوت معرضين أنفسهم للهلاك ..
حقيقة إن القرآن نزل فى السنة الأولى للهجرة يحرم القتال فى البيت الحرام .. وفى الشهر الحرام ..
« يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ » ( البقرة 217 ) ..
ولكن ماذا لو لم يلتزم طواغيت قريش وقاتلوهم وصدوهم صداً عن المسجد الحرام .. أبو ذر يحتبس تساؤلاته
ويمضى شاخصاً ببصره وقلبه إلى أذان الرسول فى الناس بالحج ، وخروجهم محرمين بلا سلاح يتقدمهم النبى بناقته القصواء .. ومعهم من الهدى سبعون بدنة ..
وعند قرية عُسْفان على مرحلتين من مكة .. وقد أناخ المسلمون رواحلهم طلبًا للراحة .. يقدم بشر بن سفيان من بنى كعب ، فيسأله النبى عن أخبار قريش .. »
بشر بن سفيان : ( للنبى ) يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل .. قد لبسوا جلد النمور ، وقد نزلوا بذى ُطوى
يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدًا ، وهذا خالد بن الوليد وعكرمة بن أبى جهل فى خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم ..
النبى : يا ويح قريش !.. لقد أكلتهم الحرب !.. ماذا عليهم لو خلوا بينى وبين سائر العرب ؟ فإن هم أصابونى كان ذلك الذى أرادوا ، وإن أظهرنى الله عليهم دخلوا فى الإسلام وافرين
وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة . فما تظن قريش ؟ ... فو الله لا أزال أجاهد على الذى بعثنى الله به حتى يُظهره الله ، أو تنفرد هذه السالفة»
النبى : ( موجهًا حديثه إلى أصحابه ) مَنْ رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التى هم بها ؟!
« يتقدم إلى رسول الله رجل من قبيلة أسلم .. »
الأسلمى : أنا يا رسول الله ..
* * *
« بالصحراء .. الأسلمى يمضى فيسلك بالمسلمين طريقًا وعرًا بين شعاب مُضنية يجد المسلمون فى سلوكها مشقة بالغة ، حتى تفضى بهم إلى سهل عند منقطع الوادى ..
يسلكون فيه ذات اليمين حتى خرجوا على ثنية المُرار مهبط الحديبية من أسفل مكة »

« قريش وقد تناهى إليها ما صنع النبى وأصحابه يكرون راجعين أدراجهم راكضين إلى مكة ليدفعوا المسلمين عنها .. »
* * *
« مسيرة المسلمين .. المسلمون يفجأون بالقصواء وقد بركت حتى قال الناس خلأت الناقة .. ( أى حرنت ) »
النبى : ( للمسلمين ) ما خلأت وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ،
لا تدعونى قريش اليوم إلى خطة يسألوننى فيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إياها ..
النبى : ( مستأنفًا ) انزلوا ..
أصوات : يا رسول الله ، ما بالوادى ماء ننزل عليه !!!
« النبى يخرج سهماً من كنانته فيعطيه رجلاً من أصحابه .. ينزل به الرجل إلى قليب من القُلُب المنثورة فى المنطقة .. يغرزه فى الرمال ، فيجيش الماء حتى اطمأن المسلمون
فنزلوا .. »
* * *
« بعد يوم أو يومين .. يقدم إلى النبى بُدَيْل بن وَرْقاء الخزاعى فى رجال من خزاعة موفدين من قريش .. »
بُدَيْل بن وَرْقاء : ( للنبى ) ما الذى جاء بكم ؟
النبى : لم نأت نريد حرباً ، وإنما جئنا زائرين للبيت ، معظمين لحرمته ..
« يمضى الحديث بين وفد خزاعة وبين النبى ـ عليه السلام ـ حتـى اطمأنـوا إلـى أن غايـة المسلمين هـى الحج إلى بيت الله الحرام
يكر الوفد عائدين إلى قريش لينبهوهم عما أساءوا به الظن فى محمد وصحبه .. »
* * *
« بعد يوم .. بمنتدى قريش بظاهر الكعبة .. »

بُدَيْل : ( للقرشيين ) يا معشر قريش ، إنكم تعجلون على محمد ، إن محمدًا لم يأت لقتال ، وإنما جاء زائرًا لهذا البيت ..
القرشيون : ( معترضين ) سحركم الرجل .. وما نرى إلاّ أننا أخطأنا حيث وثقنا بكم ، ولو عرفنا من أمركم ما عايناه الآن لما عهدنا إليكم بلقاء محمد !!
بعض القرشيين : ( بتيه وخيلاء ) إن كان جاء لا يريد قتالاً ، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدًا ، ولا تتحدث بذلك عنا العرب !!!
* * *
« مكة .. القرشيون فى هم مقيم ..لا يهدأون ، بعثوا إلى النبى مِكْرَز بن حفص ، فعاد إليهم بما قاله الرسول ، ثم بعثوا إليه الحُليَس بن علقمة ـ سيد الأحباش
فلما وصل إلى حيث نزل المسلمون شاهد بنفسه الهدى يسيل عليه من عرض الوادى فى قلائده ..
وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، فكر عائدًا إلى قريش يحدثهم بما رآه .. »
الحليس : ( بظاهر الكعبة ) يا معشر قريش ، والله ما أراد محمد إلاّ زيارة البيت .. ولم يأت لقتال .. وقد ..
قرشيون : ( مقاطعين ) اجلس فإنما أنت أعرابى لا علم لك !!
الحليس : ( غاضباً ) يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم !! أَيُصَدّ عن بيت الله من جاء معظماً له ؟ ..
والذى نفس الحُلَيْس بيده لَتُخَلُّنّ بين محمد وبين ما جاء له أو لأنِفرَنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد !!
القرشيون : ( فى صيحة واحدة ) مَـهْ ! كُفْ عنا يا حُلَيْس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به
* * *
« مضارب المسلمين بالحديبية .. النبى ـ عليه السلام ـ بين المسلمين .. يأتيه عروة بن مسعود الثقفى موفدًا من قريش بعد تمنع منه طويل .. »

عروة : ( محادثًا النبى ) « يا محمد ، أجمعت أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ؟ .. إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور
يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبداً ، .. ( وهو يشير إلى جموع المسلمين ) وأيم الله لكأنى بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً . »
أبو بكر : ( غاضباً مستنكراً من خلف النبى ) أَنحن ننكشف عنه ؟!!
عروة : ( للنبى متسائلاً وهو يشير إلى أبى بكر ) من هذا يا محمد ؟
النبى : هذا أبو بكر بن أبى قحافة
عروة : " أما والله لولا يد كانت لك عندى لكافأتك بها ، ولكن هذه بها ..

«عروة .. وقد جعل يتناول بيده لحية الرسـول وهو يحادثه .. فما يكاد يفعل إلاّ ويقرع المغيرة بن شعبة يده ناهرًا !! »
المغيرة : ( محذرًا ) اكفف يدك عن وجه رسول الله قبل أن لا تصل إليك ..
عروة : ( وهو يرتد عن النبى ) ما أفظك وما أغلظك ؟!!
«المغيرة يضرب عروة الثقفى بشدة على يده ، النبى عليه السلام ـ يتغشاه الرضا بغضب صحابته له .. »
* * *
« مكة .. طواغيت قريش مجتمعون فى حجر الكعبة ـ عروة بن مسعود الثقفى يلم بهم ، ما يكادون يرونه إلاّ ويبتدرونه ... »
قرشى : ( فى قلق ) هيه .. ما وراءك ؟!
عروة : ( مناديًا ) يا معشر قريش ، إنى قد جئت كسرى فى ملكه ، والنجاشى فى ملكه ، وإنى والله ما رأيت ملكاً فى قوم قط مثل محمد فى أصحابه
ولقد رأيت قومًا لا يسلمونه لشىء أبدًا ، فروا رأيكم !
* * *
« مضارب المسلمين بالحديبية .. النبى ـ عليه السلام ـ فى عريشه .. يدخل عليه بعض المهاجرين والأنصار يزفون إليه أسر أكثر من أربعين رجلاً أرسلهم سفهاء قريش
ليستطلعوا نبأ محمد ومن معه ويتعرضون لهم .. النبى ـ عليه السلام ـ يعفو عنهم ويطلق سراحهم ..
النبى ـ عليه السلام ـ يدعو إليه عمر بن الخطاب ويطلبه إليه أن يوافى مكة ويبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له .. »
عمر : يا رسول الله ـ انى أخاف قريشاً على نفسى ، وليس لى فى مكة من بنى عدى بن كعب أحد يمنعنى ، وقد عرفت قريش عداوتى إياها وغلظتى عليها ..
( مستدركًا ) ولكنىّ أدلك على رجل أعز بها منى : عثمان بن عفان ..
* * *
« النبى عليه السلام ينادى عثمان بن عفان فيكل إليه المهمة .. عثمان يبادر فيخرج إلى مكة . ما إن يصل حتى يلقاه أبان بن سعيد بن العاص .. أبان يجيره حتى يبلغ رسالة رسول الله .. »
« منتدى قريش بظاهر الكعبة ، أبو سفيان ورهط من زعمـاء قريش .. يلم بهم عثمان فيبلغهم ما أرسله به الرحمة المهداة عليه السلام .. »
أبو سفيان : ( متوددًا ) إن شئت أن تطوف بالبيت فطف !
عثمان : ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلـم .. إنما جئنا لنزور البيت العتيق ولنعظم حرمته ولنؤدى فرض العبادة عنده .
وقد جئنا بالهدى معنا ، فإذا نحرناها رجعنا بسلام .
القرشيون : ( فى صيحة واحدة ) لا واللات والعزى .. لن يدخل محمد مكة علينا هذا العام عنوة فتتحدث بذلك العرب !!
* * *
« تحت شجـرة بظاهـر مخيمات المسلمين .. وقـد تضاربت الأنبـاء حول عثمان هـل قتل أم حبس .. تتعالى الصيحات بأن قريشاً قتلت عثمان فغـدرت بذلك فـى الشهر الحـرام ..
يتصايح المسلمون .. « لا نبرح حتى نناجز القوم »… النبى يدعو أصحابه إليه وهو واقف تحت الشجرة فىالوادى ..
الجميع يبايعون النبى بيعة الرضــوان وفيــهم أبـو ذر بألا يفـروا ولا يهنوا أمام من غدر وقتل .. »
« النبى ـ صلى الله عليه وسلـم ـ يتغشاه الوحى ، ويتنزل عليه جبريل عليه السلام .. »

جبريل : ( يوحى إلى محمد ) « لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا » ( الفتح 18 )
( يرتفع الوحى )
* * *
« مضارب المسلمين بالحديبية بعد يوم .. المسلمون يفجأون بمقدم عثمان ، يستقبلونه فرحين مكبرين .. يبادر فينهى إلى النبى ـ عليه السلام ـ ما جرى بمكة ..
وإنهم لفى حديثهم وفرحهم بعودة عثمان سالماً ، يصل سُهيل بن عمرو .. موفداً من قريش »
أحد المسلمين : ( مبتدرًا ) ما وراءك يا سهيل ؟!
سهيل : إن قريشاً قـد طلبت إلىّ أن آتـى محمدًا فأصالحه ولا يكن فى صلحه إلاّ أن يرجع عنا عامه هذا ، فوالله لا تتحدث العرب عن قريش أنه دخل عليهم عنوة أبدًا ..
النبى : ( هامساً لواحد من صحابته ) لقد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل
« محادثات الصلح تتصل شاقة ومضنية ، والرسول ـ عليه السلام ـ يبذل من صبره وحلمه ، بينما المسلمون حوله يتحرقون شوقاً إلى زيارة البيت العتيق ..
لا يرضون عن ذلك بديلا . ـ فلمـا التأم الأمـر علـى أن يرجع المسلمون فى عامهم هذا على أن يقدموا العام التالى ، تثور ثائـرة عمـر فينتحـى بأبى بكر جانبًا .. »

عمر : ( غاضبًا ) يا أبا بكر ، أليس برسول الله ؟!
أبو بكر : بلى ؟!
عمر : أولسنا بالمسلمين ؟!
أبو بكر : بلى !
عمر : فعلام نعطى الدنية فى ديننا ؟!
أبو بكر : يا عمر الزم غرزك ، فإنى أشهد أنه رسول الله !
عمر : وأنا أشهد أنه رسول الله !

« عمر يترك أبا بكر مغاضباً ، فيلحق بالنبى .. »
عمر : ( للنبى ) يا رسول الله ، ألست برسول الله ؟
النبى : بلى ..
عمر : أولسنا بالمسلمين ؟
النبى : ( فى حلم ) بلى ..
عمر : أوليسوا بالمشركين ؟
النبى : بلى ..
عمر : فعلام نعطى الدنية فى ديننا ؟!!
النبى : ( فى صبر وحلم ) أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعنى .
* * *
« النبى مجتمعًا بسهيل بن عمرو .. ينادى النبى ـ عليه السلام ـ على بن أبى طالب »
النبى : ( لعلى ) اكتب بسم الله الرحمن الرحيم
سهيل : ( معترضاً ) لا أعرف هذا ، ولكن اكتب باسمك اللهم
النبى : ( لعلى ) اكتب باسمك اللهم .
« على يكتب »
النبى : ( لعلى ) اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سُهيل بن عمرو ..
سهيل : ( معترضًا ) لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك .
النبى : ( لعلى فى صبر وحلم ) اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله ـ سُهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين
يأمن فيهن الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريشاً ممن مـع محمد لم يردوه عليه
وأن بيننا عيبة مكفوفـة وأنه لا إسلال ولا إغلال ، وأنه من أحب أن يدخل فى عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه .

« تتواثب خزاعة تقول : نحن فى عقد محمد وعهده .. وتتواثب بنو بكر تقول : نحن فى عقد قريش وعهدهم .. »
سُهيل : ( مستأنفًا للنبى ) وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة ، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك
فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب والسيوف فى القُرب ، لا تدخلها بغيرها ..
« النبى يوافـق .. فجـأة يتسامع الناس بصوت أبى جندل وهو ابن سهيل بن عمرو ، يرسف فى الحديد وقد انفلت إلى الرسول يستجير به من قريش ..
سهيل بن عمر ينهض فينقض على إبنه أبى جندل ، فيضرب وجهه ويأخذ بتلبيبته .. »
سهيل : ( للنبى ) يا محمد ، قد لجت القضية بينى وبينك قبل أن يأتيك ولدى هذا .
النبى : صدقت
« سهيل يأخذ بتلبيبة ابنه ويجره ليرده إلى قريش
وأبو جندل يصرخ بأعلى صوته مستنجداً بالمسلمين .. »
أبو جندل : ( صارخًا ) يا معشر المسلمين ، أأرد إلى المشركين يفتنوننى فى دينى ؟!
« المسلمون يتصايحون فى غضب وهم وضيق .. »

النبى : ( مواسيًا ) يا أبا جندل ، اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً
إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وأعطيناكم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدر بهم ..
« النبى يتحلل من إحرامه .. ينادى فى المسلمين ليحلقوا ويقصروا .. ولكنهم يقفون واجمين كأن علـى رءوسـهم الطـير .. لا يجيبون ولا يستجيبون ..
لا تطاوعهم نفوسهم على الإياب عن مكة دون التبرك بالطواف ببيتها المحرم الذى اشتد توقهم إليه واقترب أملهم فى زيارته ..
النبى ينصرف حزيناً إلى عريشه فتتلقاه زوجتـه أم سلمة ـ يشكو إليها حال المسلمين وإبطاءهم عليه .. »
أم سلمة : ( مواسية ) يا رسول الله ، ما أرادوا شراً .. قم فاحلق ، فإن رأوك فعلت ، فعلوا مثلك ، وانفرج الأمر ..
« الرسول يخرج إلى المسلمين فينحر هديه ، ثم يجلس فيحلق رأسه .. ما يكاد الناس يرونه قد نحر وحلق حتى يتواثبوا ينحرو ويحلقون .. »
* * *
« النبى وسط أصحابه .. »
النبى : ( مواسياً ) يرحم الله المحلقين ..
بعض الصحابة : ( مضيفين ) والمقصرين يا رسول الله ؟ .
النبى : ( معاودًا ) يرحم الله المحلقين ..
الصحابة : والمقصرين يا رسول الله ؟
النبى : يرحم الله المحلقين .
الصحابة : والمقصرين يا رسول الله ..
النبى : ( موافقا فى عفو وإسماح ) والمقصرين ..
الصحابة : يا رسول الله ، فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين ؟
النبى : لم يشكوا ..
* * *
« على طريق العودة بين مكة والمدينة .. النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتنزل عليه الوحى ينبئه بما سوف يكون من نصر وفلاح وفتح بهذا العهد الذى أوفاه النبى .. »
جبريل : ( يتلو على محمد ) « إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ
وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا *
هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا
» ( الفتح 1 ـ 5 )
« يرتفع الوحى »
* * *
« المسجد النبوى بالمدينة .. أبو ذر .. جالس إلى نفسه فى ركن من أركان المسجد بالمدينة ..غارق فى تأملاته وخواطره .. تمر أمامه الأحداث المتلاحقة ..
ينظر ، ويتأمل ، ويفكر ، ويوازن بين ما حدثته به نفسه ، وبين ما رآه يحدث .. تستغرقه أفكاره تماماً فلا ينتبه إلاّ على صوت الأذان ، فينهض لأداء الصلاة .. »