الصحابي الجليل ..محمد بن مسلمة رجل المهمات الصعبة
هو رجل المهام الصعبة، وقائد سرايا العمليات الخاصة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المفتش العام في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو من اعتزل الفتنة الكبرى، وكسر سيفه على صخرة، وبقي في بيته حتى وافته منيته، وخلف وراءه من الولد عشرة نفر، وست نسوة.

هو محمد بن مسلمة بن سلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك الأوسي الأنصاري ثم الحارثي، حليف بني عبد الأشهل، وأمه: أم سهم، واسمها: خليدة بنت أبي عبيد بن وهب بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب من الخزرج، وكان يكنى أبا عبد الله.

ولد قبل البعثة باثنتين وعشرين سنة، وكان ممن سمي في الجاهلية محمدا، يصفونه فيقولون: أسمر شديد السمرة، طويل القامة، أصلع الرأس، ضخم الجسم، وقور، أسلم بالمدينة على يد مصعب بن عمير، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، وشهد بدرا، وأحدا، وكان فيمن ثبت مع رسول الله يومئذ حين ولى الناس، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما عدا غزوة تبوك التي استخلفه فيها رسول الله على المدينة.

قتل عدو الله
من أشهر مواقفه ما كان منه في قتل عدو الله كعب بن الأشرف الذي ساءته نتيجة الحرب بين المشركين والمسلمين في بدر، فنزل مكة، وجعل يحرض على المسلمين وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب، الذين قتلوا ببدر، ويؤلب كفار قريش على الثأر، ثم رجع إلى المدينة فأخذ ينظم الأشعار تغزلا وتشببا بأمهات المؤمنين ونساء الصحابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لي بابن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟”، فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال: نعم، قال: أنا أقتله، قال: فافعل إن قدرت على ذلك.

ولأن ابن مسلمة رجل لا يعرف غير الوفاء بما وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم على أكمل وجه، فقد مكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب، إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال له: “لم تركت الطعام والشراب؟”، فقال: يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري هل أفين لك به أم لا؟، فقال: إنما عليك الجهداجتمع محمد بن مسلمة الأنصاري، وأبو نائلة سلكان بن سلام بن وقش، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعباد بن بشر بن وقش والحارث بن أوس بن معاذ وأبو عبس بن جبر من بني حارثة، يفكرون في الحيلة التي يدخلون بها على ابن الأشرف، ثم اجتمعوا عند رسول الله فمشى معهم صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، فقالوا: يا رسول الله إنه لا بد لنا من أن نقول، قال: “قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حل من ذلك”، ودعا لهم، فانطلقوا إلى بغيتهم، فأتى محمد بن مسلمة كعب بن الأشرف فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك، قال: وأيضا والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقا، أو وسقين، فقال: نعم ارهنوني، قالوا: أي شيء تريد؟ قال: فارهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم، فيقال رهن بوسق أو وسقين؟ هذا عار علينا، ولكنا نرهنك اللامة (يعني السلاح) فواعده أن يأتيه، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاهم إلى الحصن، فنزل إليهم فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟، فقال: إنما هو محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، فقال محمد بن مسلمة لمن معه: إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، فنزل إليهم وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحا أي أطيب فقال: أتأذن لي أن أشم رأسك؟، قال: نعم، فشمه، ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟، قال: نعم، فلما استمكن منه، قال: اضربوا عدو الله، فاختلفت عليه أسيافهم، قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا (سوطا في جوفه سيف دقيق) في سيفي، حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئا، فأخذته، فوضعته في ثنته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته فوقع عدو الله، وقد صاح صيحة لم يبق حولنا حصن إلا وقد أوقدت عليه نار، وأصيب الحارث بن أوس بن معاذ فجرح، قال: فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه فخرج إلينا، فقال: أفلحت الوجوه، فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل على جرح صاحبنا، فرجع، ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه.حراسة المسلمين

لن تفقده عند كل مهمة صعبة، دائما في مقدمة الصفوف المقاتلة في سبيل الله والدفاع عن المسلمين، فكان هو قائد حرس معسكر المسلمين على مقربة من مكة، قبيل توقيع صلح الحديبية بين المسلمين ومشركي قريش في العام السادس للهجرة، وكانت قريش قد بدأت تفكر جديا في الصلح، فأرادت مجموعة من شباب قريش أن يقطعوا كل طريق للصلح، وعملوا على فرض القتال على المسلمين وعلى القرشيين، فقامت هذه المجموعة وهم حوالي خمسين من المشركين بالتسلل لمعسكر المسلمين ليلا، وكان محمد بن مسلمة ومجموعته في انتظارهم، فاعتقلهم، وساق الصيد الثمين إلى رسول الله بعد أن أمكن الله منهم، فأمر صلى الله عليه وسلم بإطلاقهم تأكيدا لنيته في الصلح، ونزل في ذلك قوله تعالى: “وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا” (الفتح: 24).

ولما بيت يهود بني النضير قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بين أيديهم، قالوا: فمن يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة، والرسول صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلى رضي الله عنهم، فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعا إلى المدينة، وبعث محمد بن مسلمة يأمر بني النضير بالخروج من جواره وبلده، وألا يساكنوه وقد أجلهم عشرة أيام فمن وجده بعد ذلك ضرب عنقه، ثم حاصرهم زمنا حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، وخرج اليهود من المدينة إلى خيبر، وعاد المسلمون من حصار بني النضير أكثر قوة، ومنعة.

سرية القرطاء
بعد فشل الأحزاب، ورحيلهم عن حصار المدينة المنورة، رفع النبي صلى الله عليه وسلم شعار: “الآن نغزوهم ولا يغزونا”، فوجه السرايا الإسلامية لعقاب الذين شاركوا في حصار المسلمين، وكانت أولى هذه الحملات هي سرية محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلى منطقة تعرف بالقرطاء على بُعد أكثر من ثلاثمائة كيلومتر من المدينة المنورة، وكانت هذه السرية موجهة إلى بطن بني بكر بن كلاب وكانت من قبائل نجد التي اشتركت في حصار المدينة في غزوة الأحزاب، وكانت السرية تضم ثلاثين فارسا، وقد ألقى الله عز وجل بهم الرعب في قلوب بني بكر، ففروا وتفرقوا في الصحراء، وقتل منهم عشرة، وساق ابن مسلمة وسريته عددا كبيرا من الإبل والشاء بلغ مائة وخمسين من الإبل، وثلاثة آلاف من الشاء، وزادت هيبة المسلمين، وارتفعت معنوياتهم.

ولم تكن هذه السرية أولى السرايا التي قادها محمد بن مسلمة، ولا كانت آخرها، فقد بعثه صلى الله عليه وسلم على رأس خمس عشرة سرية، وكان ابن مسلمة يفخر بذلك ويقول: يا بني سلوني عن مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لم أتخلف عنه في غزوة قط، إلا واحدة في تبوك خلفني على المدينة، وسلوني عن سراياه صلى الله عليه وسلم فإنه ليس منها سرية تخفى علي، إما أن أكون فيها، أو أن أعلمها حين خرجت.

المفتش العام
ومن أشهر مواقفه كذلك ما كان مع الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي استعان بمحمد بن مسلمة في متابعة الولاة، ومحاسبتهم، والتأكد من الشكاوى التي تأتي ضدهم، فكان موقع محمد بن مسلمة كالمفتش العام في دولة الخلافة.

ويروى في ذلك كثير من الروايات منها أن عمر رضي الله عنه علم أن سعد بن أبي وقاص وكان واليه على العراق، بنى قصرا له في الكوفة، وبلغ عمر أن سعدا قال “وقد سمع أصوات الناس من الأسواق”: سكنوا عني الصويت (النداء)، وجعل على القصر بابا، فبعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة، يقول الراوي: وكان عمر إذا أحب أن يؤتى بالأمر كما يريد بعثه، وكانت مهمته محددة حسب أوامر أمير المؤمنين: أن يحرق باب القصر ثم يرجع، فلما قدم أخرج زنده، وأورى ناره، وابتاع حطبا بدرهم، وقيل لسعد إن رجلا فعل كذا، وكذا، ولما وصفوه له عرفه وقال: ذاك محمد بن مسلمة، فخرج إليه، فقال محمد: إنه بلغ أمير المؤمنين عنك أنك قلت: انقطع الصويت، فحلف سعد بالله ما قال ذلك، فقال: نؤدي عنك الذي تقوله ونفعل ما أمرنا به، فأحرق الباب، وأقبل سعد يعرض على ابن مسلمة أن يزوده، فأبى ثم ركب راحلته يريد المدينة، فوصلها، ولم تستغرق رحلته منها إلى الكوفة ذهابا وإيابا غير تسع عشرة يوما وليلة، قدم بعدها على عمر فقال: لولا حسن الظن بك لرأينا انك لم تؤد عنا، “من قصر المدة وسرعة الأداء” فقال محمد: بلى قد فعلت، وهو أرسل يقرأ السلام، ويعتذر، ويحلف بالله ما قاله، فصدقه عمر.

ومن مهامه التي أرسله عمر إليها، محاسبة الولاة على ثرواتهم وأموالهم، ومن ذلك ما جرى مع عمرو بن العاص والي مصر، وكانت مهمة محمد بن مسلمة أن يقاسمه ماله، فأهدى إليه عمرو بن العاص هدية فردها، فغضب عمرو وقال: يا محمد لم رددت هديتي فقد أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمي من ذات السلاسل فقبل؟، فقال له محمد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل بالوحي ما شاء، ويمنع ما شاء، ولو كانت هدية الأخ لأخيه لقبلتها، ولكنها هدية إمام شر من خلفها، فقال عمرو: قبح الله يوما صرت فيه لعمر بن الخطاب واليا، والله لقد رأيت العاص بن وائل (يقصد أباه) يلبس الديباج المزرر بالذهب، وإن الخطاب ليحمل الحطب بمكة على حماره، فقال له محمد بن مسلمة: أبوه وأبوك في النار، وعمر خير منك، ولولا اليوم الذي أصبحت تذم لألفيت معتقلا عنزا يسوؤك غُزرُها ويسوؤك بكرُها، (والمقصود أنه لولا هذا اليوم الذي تذمه الآن لكنت في بيتك لا شغل لك غير الإمساك بعنزة تنتظر أن تدر عليك من لبنها يسرك أن يكون لبنها غزيرا ويسوؤك ذكرها الذي لا لبن له)، فقال عمرو: هي فلتة المغضب، وهي عندك أمانة، ثم أحضره ماله فقاسمه، حتى قسم نعليه.

مروياته ووفاته
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب الرقم 139 في كتاب: “أسماء الصحابة وما لكل واحد منهم من العدد” لابن حزم الأندلسي، وله ستة عشر حديثا، وروى له الجماعة، وله في الصحيحين حديث واحد، وروى عنه كل من جابر بن عبد الله، والحسن البصري، وسهل بن أبي حثمة (ابن ماجة)، وضبيعة بن حصين (أبو داود)، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج (النسائي)، وعروة بن الزبير (البخاري)، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وابنه محمود بن محمد بن مسلمة، والمسور بن مخرمة (مسلم وأبو داود وابن ماجة)، والمغيرة بن شعبة، وأبو الأشعث الصنعاني، وأبو بردة بن أبي موسى الأشعري (ابن ماجة).

عاش قويا في الحق ثابتا عند الملمات، شجاعا لا يخشى في الحق لومة لائم، وقد سأله عمر بن الخطاب: كيف تراني يا محمد؟، فقال: أراك والله كما أحب، وكما يحب من يحب لك الخير، أراك قويا على جمع المال، عفيفا عنه، عدلا في قسمه، ولو ملت عدلناك كما يُعدل السهم في الثقاف، فقال عمر: هاه، فكررها محمد: لو ملت عدلناك كما يُعدل السهم في الثقاف، فقال عمر: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني.

أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا وأوصاه: “قاتل به المشركين ما قاتلوا فإذا رأيت المسلمين قد أقبل بعضهم على بعض فائت أحدا فاضربه به حتى تقطعه، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية”، وظل على وصية حبيبه فاعتزل الفتن، وأقام بالربذة حتى اقتحم عليه المنزل شقي من أهل الأردن فقتله، سنة ثلاث أو اثنتين وأربعين، ودفن إلى جانب أبي ذر بالربذة.