عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سالت فسال الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لم اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وان اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف).رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وفي رواية ( احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطأك واعلم أن النصر مع الصبر وان الفرج مع الكرب وان مع العسر يسرى).
هذا الحديث أصل عظيم في تربية الصبيان وتوجيههم وكله يدور على تعلق القلب بالله والالتفات إليه وقطع الطمع والرجاء في ما عند الناس وتفويض الأمر إلى الله.
وفيه مسائل:
الأولى: في قول النبي صلى الله عليه وسلماحفظ الله ). الأمر بحفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه وحفظ ذلك يكون بالوقوف عند أوامره بالامتثال وعند نواهيه بالاجتناب وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلا ما نهى عنه فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه قال تعالى: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ). وقد جاءت النصوص بحفظ أمور مهمة والاعتناء بها فمن ذلك:
1-الطهارة: فإنها مفتاح الصلاة وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحافظ على الوضوء الا مؤمن). رواه احمد. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب على الوضوء لكل صلاة كما ثبت في السنة.
2-الصلاة: فقد أمر الله سبحانه بالمحافظة عليها في قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ). ومدح المحافظين عليها وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حافظ عليهن كن له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة). رواه أحمد.
3-الأيمان: أمر الله بحفظها كما في قوله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم) وكثيرا من الناس يكثر من الحلف لغير حاجة واذا حلف فلا يلتزم بما يجب فيها ومنهم من يحلف بالله كاذبا وقد ورد الوعيد في التساهل في ذلك.
4-الرأس والبطن: أمر الله بحفظهما كما في حديث عبدالله بن مسعود: ( الاستحياء حق الحياة أن تحفظ الرأس وماوعى وتحفظ البطن وما حوى). رواه احمد . وحفظ الرأس يتضمن حفظ السمع والبصر واللسان عن المحرمات وحفظ البطن يتضمن حفظ القلب عن المحرمات وحفظ البطن عن أكل الحرام وشهوة الرأس والبطن مهلكة لكثير من الخلق وقد تساهل الناس في أكل الحرام وورد في ذلك وعيد شديد.
5-اللسان والفرج: وهما من أعظم ما يجب حفظه عن المحرمات لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة). وقد أمر الله عزوجل بحفظ الفروج ومدح الحافظين لها فقال: (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ). وهذان العضوان من أعظم الأسباب التي تدخل النار وقد ورد وعيد شديد لمن فرط فيهما وإذا افتتن المرء فيهما أصيب في مقتل ولا يحافظ عليهما إلا الكمل من أهل الإيمان.
واستخفاف المؤمن في هذه الخصال يدل على ضعف إيمانه وقلة يقينه وطاعته للشيطان وحرصه عليها وصيانته لها يدل على كمال إيمانه وقوة يقينه وتحصنه من أولياء الشيطان.
الثانية: قوله: (يحفظك) مراده من حفظ حدود الله وراعى حدوده حفظه الله فإن الجزاء من جنس العمل كما قال تعالى: (وأوفوا بعهده) وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:
الأول: حفظه في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله قال الله تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ). قال ابن عباس: (هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإذا جاء القدر خلو عنه). ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعفه ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله وكان العالم أبو الطيب الطبري قد جاوز المئة سنة وهو ممتع بقوته وعقله فوثب يوما وثبة شديدة فعوتب في ذلك فقال هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر. ومن حفظ الله للعبد حفظ ذريته بعد موته بصلاحه كما في قوله تعالى: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً) قال ابن عباس: (إنهما حفظا بصلاح أبيهما). وقال ابن المنكدر: (إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله فما يزالون في حفظ من الله وستر). وعكس هذا من ضيع الله ضيعه الله فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر من حيث كان يرجو نفعه من أهله كما قال بعض السلف: (إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خادمي ودابتي).
الثاني: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه فيحفظه في حياته من الشبهات ومن الشهوات المحرمة ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان ففي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمره أن يقول عند منامه: (إن قبضت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين). والله يحول بين العبد وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ وقد لا يشعر العبد بذلك وقد يكون كارها له كما قال في حق يوسف عليه السلام: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ). ولذلك ورد في المستدرك: (إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الماء). فالعبد الصالح يحميه الله من فتنة الدنيا ووسائل الفتن ويغلق عليه أبواب الشر ويفتح عليه أبواب الخير كما قال ابن مسعود: (إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له فينظر الله إليه فيقول للملائكة اصرفوه عنه فإنه إن يسرته له أدخلته النار فيصرفه الله عنه فيظل يتطير يقول سبقني فلان دهاني فلان وما هو إلا فضل الله عز جل).
الثالثة: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله تجده تجاهك). دليل على إثبات معية الله لعبده فمن حفظ حدود الله وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه يحوطه وينصره ويوفقه ويسدده كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُون).
والمعية الواردة في النصوص قسمان:
1-معية خاصة وهي المذكورة في قوله تعالى لموسى وهارون: (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى). وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في الغار: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا). متفق عليه. وهذه المعية تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة وهي خاصة بأولياء الله وأهل طاعته.
2- معية عامة وهي المذكورة في قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا). وهذه المعية تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمال العباد فهي مقتضية لتخويف العباد وتحذيرهم وهي عامة للمؤمن والكافر والبر والفاجر.
الرابعة: في الحديث الأمر بسؤال الله وقد أمر الله بمسألته فقال: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه). وسؤاله هو دعاؤه بالرغبة إليه والدعاء هو العبادة كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث النعمان بن بشير وتلا قوله تعالى : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم). رواه أحمد. والله يحب أن يسأله العبد ويكثر من سؤاله لما في ذلك من حسن الظن والتوكل به والتعلق به والمؤمن يسأل ربه في كل شيء حتى في سقط المتاع لما روي في الدعاء للطبراني: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعليه اذا انقطع).
وسؤال المخلوق قسمان:
الأول: محرم وهو طلب المخلوق في أمر لا يقدر عليه إلا الله وهو من الشرك الأكبر بالله تعالى المخرج من الملة قال تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا).
الثاني: جائز وهو طلب المخلوق عند الحاجة في أمر يقدر عليه من المال والمنفعة والجاه فهذا مباح للمؤمن ولا يقدح في التوحيد والتنزه عنه من كمال التوكل والاعتماد على الله كحال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقد ورد في السنة الصحيحة النهي عن مسألة المخلوقين وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئا وكان أحدهم يسقط سوطه فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه. وإنما ورد النهي عن سؤال المخلوق لما فيه من إظهار التذلل والافتقار والمسكنة للمخلوق ولما يلحقه من المنة والمذلة وهذا المقام لا يصلح إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة ولأنه قادر على الضر والنفع كما قال تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ). فينبغي على المؤمن أن يفرد الله بالسؤال والاستعانة ويخلص توجهه إليه ليكون من أوليائه وأصفيائه ولا يلتفت قلبه للمخلوق العاجز المنان الشحيح بنعم الله.
الخامسة: في الحديث الأمر بإفراد الاستعانة بالله وحده دون ما سواه كما قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). والاستعانة هي طلب العون من الله بحيث يتوجه قلب العبد إلى الله قبل قيامه بالعمل وأثناء قيامه ولا تصلح الاستعانة إلا بالله لأنها عبادة قلبية محضة لا يحق صرفها لغير الله ولأن المعين حقيقة وقدرا وفعلا هو الله مالك زمام الأمور وخالق الأسباب ومسير العباد ومتصرف بنواصيهم أما الأسباب والوسائل فلا يصلح الاستعانة بها لأنها مخلوقة لا تملك نفعا ولا ضرا إلا بإذن الله وإن شاء أمضاها وإن شاء منعها. وللاستعانة بالله في القيام بأمور الدين والدنيا لها أثر عظيم في اجتماع القلب وتحقق العزيمة وكمال القدرة وتسيير الأمور وحصول التوفيق من الله. أما المشرك الذي يستعين بالجن والأولياء في قضاء الحاجات فقلبه مشتت في كل واد وهمه متفرق وسعيه باطل وعزمه واهن لأنه اعتمد على المخلوق العاجز الذي لا يملك صرف الضر عن نفسه فضلا عن غيره.
السادسة: قوله: (واعلم أن الأمة لم اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وان اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف). في هذا بيان لأصل عظيم من أصول الإيمان وهو الإيمان والتسليم وإقرار القلب بأن النفع والضر بيد الله يقدره للعبد حيث شاء وكيف شاء لا يستطيع أحد من المخلوقين أن يمنع حصول ذلك لأن كلمة الله نافذة على سائر الخلق وهذا يقتضي أن الخلق كلهم لا يملكون نفعا ولا ضرا للعبد إلا بإذن الله وتيسيره وتوفيقه فإذا أرادت الأمة بأسرها وعتادها أن ينفعوا أحدا لم ينفعوه إلا بشيء قدره الله له وإن أرادت الأمة بأسرها أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قدره الله عليه والله يحعل من شاء من خلقه سببا للخير والشر إذا وهذا يوجب للعبد أن يعلق قلبه بالله وحده لا شريك له لأنه المنعم حقا والأمر بيده ويسأله من فضله ولا يلتفت إلى المخلوق العاجز المنان
السابعة: في قوله: (رفعت الأقلام وجفت الصحف). دليل على تقدم كتابة المقادير كلها والفراغ منها من أمد بعيد وقد دل الكتاب والسنة على هذا المعنى قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسن ألف سنة). وفي مسند أحمد عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول ما خلق الله القلم ثم قال اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة). وهذا يدل على أن كل ما يصيب العبد في الدنيا من خير وشر مقدر عليه ومكتوب في الكتاب السابق وليس للخلق شأن فيه.
الثامنة: في قوله: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك بالشدة). مراده أن العبد إذا اتقى الله وأقبل عليه بكليته وتعلق قلبه به واشتغل بطاعته في السعة والغنى والعافية صار بينه وبين ربه معرفة خاصة فعرفه ربه في الشدة وراعى تعرفه له في الرخاء فنجاه في الشدائد بهذه المعرفة لأن الجزاء من جنس العمل وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
ومعرفة العبد لربه نوعان:
1-المعرفة العامة وهي تقتضي الإقرار به والتصديق والإيمان وهذه عامة للمؤمنين.
2-المعرفة الخاصة وهي تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية والانقطاع إليه والأنس به والطمأنينة بذكره والحياء منه والهيبة له وهذه المعية هي التي يعرفها العارفون كما قال بعض السلف: (مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب فيها قيل له وما هو قال معرفة الله عز وجل).
ومعرفة الله للعبد نوعان:
الأولى: معرفة عامة وهي علمه سبحانه بعباده واطلاعه على سرائرهم وعلانيتهم كما قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ).
الثاني: معرفة خاصة وتقتضي محبة الله لعبده وتقريبه إليه وإجابة دعائه وإنجائه من الشدائد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه: (ولا يزال عبدي يتقرب لي حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به).
والحاصل أن من عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته كما ورد في الترمذي: (من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء). وقال سلمان: (إذا كان الرجل دعاء في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله تعالى قالت الملائكة صوت معروف فشفعوا له). وأعظم الشدائد التي ينبغي للمؤمن أن يعد لها العدة الموت وما بعده فمن استعد له ذكر الله عند موته ولطف به وأعانه وتولاه وثبته على التوحيد فلقيه وهو راض عنه ومن ضيع أمر الله في حياته ولم يستعد للموت نسيه الله عند موته وأعرض عنه وأهمله ولقيه وهو ساخط عليه وأحاطت به الحسرة والندامة. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون).
التاسعة: في قوله: (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطأك). يحقق يقين قلب العبد بالقضاء السابق فإن أوقن حصول ذلك القدر وأنه لا مفر له منه مهما أوتي من الحيل والحذر حصل له الرضا التام بما يقدره الله عليه من المصائب والمحن والمؤمنون يتفاوتون في هذا الباب تفاوتا عظيما فمن كمل يقينه كان من أهل الرضا ومن نقص يقينه كان من أهل الصبر.
والمؤمن له درجتان في باب القضاء والقدر:
الأولى: الرضا بالقضاء وهذه درجة عالية لا يقوى عليها إلا الخلص وهو من كمال الإيمان قال الله عز وجل: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). قال علقمة: (هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى). وحقيقة الرضا انشراح صدر المبتلى بما نزل عليه من القضاء وترك تمني زواله مع وجود الألم لما يشاهد قلبه من حكمة الله وعظيم ثواب الرضا فيتلذذ بالبلاء ويجد النعيم والسرور في حياته كما قال عمر بن عبد العزيز: (أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر). وقال عبد الواحد: (الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين).
الثانية: الصبر على القضاء وهذه درجة نازلة لعموم أهل الإيمان وهو واجب على كل مسلم يأثم بتركه لأن الله أمر به وله فوائد عظيمة في الدنيا والآخرة قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). والصبر أعظم سلاح للمؤمن يكابد به أهوال الدنيا قال الحسن: (الرضا عزيز ولكن الصبر معول المؤمن). وحقيقة الصبر حبس القلب والجوارح عند نزول البلاء عن كل ما يسخط الله وتمني زوال البلاء فلا يعتقد المبتلى ولا يتكلم ولا يحرك بدنه في أمر محرم ولذلك نهى الشارع عن أفعال وأقوال تصدر عن الجهال حال المصيبة وعدها من الكبائر لما في ذلك من التسخط والاعتراض على القضاء والقدر.
العاشرة: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن النصر مع الصبر). دليل على أن النصر على العدو يتحقق مع صبر النفس وتصبرها في مجاهدة الأعداء كما قال تعالى: (كَمْ مِنْفِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). فالنصر يحتاج إلى يقين ومجاهدة وصبر على ألم القتال والجراح وهول الموقف. قال بعض السلف: (كلنا يكره الموت وألم الجراح ولكن نتفاضل بالصبر).
والجهاد الذي يتطلب الصبر نوعان:
الأول: جهاد العدو الظاهر وهو قتال الكفار وإليه ينصرف لفظ الجهاد إذا أطلق في النصوص وله شأن عظيم في الإسلام وورد له فضائل متكاثرة في الأدلة وهو من أعظم القربات وهو كسائر الطاعات له شروط وضوابط يجب أن تتحقق فيه.
الثاني: جهاد العدو الباطن وهو جهاد النفس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المجاهد من جاهد نفسه في الله). رواه أحمد. وهذا هو أصل الجهاد ومن جاهد نفسه من الشيطان والهوى واستقامت على الشرع كان سهلا عليه جهاد الكفار. قال عبد الله بن عمر لمن سأله عن الجهاد: (ابدأ بنفسك فجاهدها وابدأ بنفسك فاغزها). وهذا النوع شاق على النفوس ويفشل فيه كثير من المسلمين ولذلك قال علي بن ابي طالب: (أول ما تنكرون من جهادكم جهادكم لأنفسكم). وكان السلف الصالح يشددون في هذا الأمر ولذلك قال أبو بكر في وصيته لعمر: (إن أول ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك). ومن أعظم الأسباب التي تجعل المؤمن يخسر في معركة النفس الجهل وقلة البصيرة وضعف الإيمان واتباع الهوى وتسويف الشيطان وصحبة البطالين وطول الأمل وحب الدنيا. ومن صبر على جهاد نفسه وكسر هواها وقادها كان عزيزا في الدنيا ملكا سعيدا بالطاعة ومن غلبته نفسه وقهرته واتبع شهواته كان ذليلا للشيطان أسيرا للهوى شقيا في الدنيا. ومن أعظم ما يكسر النفس ويذللها قراءة القرآن والصوم وقيام الليل وزيارة القبور والجلوس في المساجد ورؤية الفقراء والصدقة ومداومة الاستغفار والتفكر في صفة النار وأهلها.
الحادية عشرة: أفاد قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن الفرج مع الكرب). أن فرج الله وتيسير العسير يكون بعد نزول الكرب على المؤمن وهذه من سنة الله الكونية على العباد ليختبرهم ويتمحنهم ويرى فعلهم تجاه المصائب ثم إذا رأى صبرهم ويقينهم وتسليمهم القدر لله وخضوعهم وقنوطهم أنزل عليهم الفرج كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ). وقد ورد أن الله يعجب من قنوط عباده مع قرب فرجهم. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (لو أن العسر دخل في جحر لجاء اليسر حتى يدخل معه ثم قرا قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(. والكرب إما يكون بنزول أسباب الشر من مرض وخوف وجوع أو بمنع أسباب الخير من رزق وولد. ومن حكمة الله أن الكرب إذا اشتد على المؤمن وتناهى وانقطع رجاؤه بالمخلوقين وأيس منهم تعلق قلبه بالله وأحسن التوكل على الله و حينها ينزل الفرج. قال الفضيل: (والله لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئا لأعطاك مولاك كل ما تريد). وقد حكى الله في كتابه قصصا عجيبة في تفريج الكربات عن أنبيائه كما في قصة نوح وإبراهيم وموسى ونبينا محمد صلوات الله عليهم. فينبغي على المؤمن إذا نزل به البلاء أن يدعو ربه ويحسن يه الظن ويفوض أمره لله ولا يقنط من رحمة الله ولا يستبطئ الفرج فإن نزل الفرج فليحمد الله وإن تأخر فليعلم أن التأخر كان بسبب ذنوبه وغفلته فليلم نفسه في الله وهذا يوجب الانكسار والذل بين يدي مقام الله وهو من أعظم الأحوال الإيمانية التي يثاب عليها العبد ثوابا عظيما في الآخرة. ومن فرج عن الخلق فرج الله عنه ونفس كربته. وهذا الحديث من أقوى البشائر لمن علته الهموم وغلبته الأحزان وتراكمت عليه المحن فليبشر وليعلم أن فرج الله قريب.
هذا الحديث أصل عظيم في تربية الصبيان وتوجيههم وكله يدور على تعلق القلب بالله والالتفات إليه وقطع الطمع والرجاء في ما عند الناس وتفويض الأمر إلى الله.
وفيه مسائل:
الأولى: في قول النبي صلى الله عليه وسلماحفظ الله ). الأمر بحفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه وحفظ ذلك يكون بالوقوف عند أوامره بالامتثال وعند نواهيه بالاجتناب وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلا ما نهى عنه فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه قال تعالى: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ). وقد جاءت النصوص بحفظ أمور مهمة والاعتناء بها فمن ذلك:
1-الطهارة: فإنها مفتاح الصلاة وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحافظ على الوضوء الا مؤمن). رواه احمد. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب على الوضوء لكل صلاة كما ثبت في السنة.
2-الصلاة: فقد أمر الله سبحانه بالمحافظة عليها في قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ). ومدح المحافظين عليها وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حافظ عليهن كن له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة). رواه أحمد.
3-الأيمان: أمر الله بحفظها كما في قوله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم) وكثيرا من الناس يكثر من الحلف لغير حاجة واذا حلف فلا يلتزم بما يجب فيها ومنهم من يحلف بالله كاذبا وقد ورد الوعيد في التساهل في ذلك.
4-الرأس والبطن: أمر الله بحفظهما كما في حديث عبدالله بن مسعود: ( الاستحياء حق الحياة أن تحفظ الرأس وماوعى وتحفظ البطن وما حوى). رواه احمد . وحفظ الرأس يتضمن حفظ السمع والبصر واللسان عن المحرمات وحفظ البطن يتضمن حفظ القلب عن المحرمات وحفظ البطن عن أكل الحرام وشهوة الرأس والبطن مهلكة لكثير من الخلق وقد تساهل الناس في أكل الحرام وورد في ذلك وعيد شديد.
5-اللسان والفرج: وهما من أعظم ما يجب حفظه عن المحرمات لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة). وقد أمر الله عزوجل بحفظ الفروج ومدح الحافظين لها فقال: (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ). وهذان العضوان من أعظم الأسباب التي تدخل النار وقد ورد وعيد شديد لمن فرط فيهما وإذا افتتن المرء فيهما أصيب في مقتل ولا يحافظ عليهما إلا الكمل من أهل الإيمان.
واستخفاف المؤمن في هذه الخصال يدل على ضعف إيمانه وقلة يقينه وطاعته للشيطان وحرصه عليها وصيانته لها يدل على كمال إيمانه وقوة يقينه وتحصنه من أولياء الشيطان.
الثانية: قوله: (يحفظك) مراده من حفظ حدود الله وراعى حدوده حفظه الله فإن الجزاء من جنس العمل كما قال تعالى: (وأوفوا بعهده) وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:
الأول: حفظه في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله قال الله تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ). قال ابن عباس: (هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإذا جاء القدر خلو عنه). ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعفه ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله وكان العالم أبو الطيب الطبري قد جاوز المئة سنة وهو ممتع بقوته وعقله فوثب يوما وثبة شديدة فعوتب في ذلك فقال هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر. ومن حفظ الله للعبد حفظ ذريته بعد موته بصلاحه كما في قوله تعالى: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً) قال ابن عباس: (إنهما حفظا بصلاح أبيهما). وقال ابن المنكدر: (إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله فما يزالون في حفظ من الله وستر). وعكس هذا من ضيع الله ضيعه الله فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر من حيث كان يرجو نفعه من أهله كما قال بعض السلف: (إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خادمي ودابتي).
الثاني: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه فيحفظه في حياته من الشبهات ومن الشهوات المحرمة ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان ففي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمره أن يقول عند منامه: (إن قبضت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين). والله يحول بين العبد وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ وقد لا يشعر العبد بذلك وقد يكون كارها له كما قال في حق يوسف عليه السلام: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ). ولذلك ورد في المستدرك: (إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الماء). فالعبد الصالح يحميه الله من فتنة الدنيا ووسائل الفتن ويغلق عليه أبواب الشر ويفتح عليه أبواب الخير كما قال ابن مسعود: (إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له فينظر الله إليه فيقول للملائكة اصرفوه عنه فإنه إن يسرته له أدخلته النار فيصرفه الله عنه فيظل يتطير يقول سبقني فلان دهاني فلان وما هو إلا فضل الله عز جل).
الثالثة: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله تجده تجاهك). دليل على إثبات معية الله لعبده فمن حفظ حدود الله وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه يحوطه وينصره ويوفقه ويسدده كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُون).
والمعية الواردة في النصوص قسمان:
1-معية خاصة وهي المذكورة في قوله تعالى لموسى وهارون: (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى). وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في الغار: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا). متفق عليه. وهذه المعية تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة وهي خاصة بأولياء الله وأهل طاعته.
2- معية عامة وهي المذكورة في قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا). وهذه المعية تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمال العباد فهي مقتضية لتخويف العباد وتحذيرهم وهي عامة للمؤمن والكافر والبر والفاجر.
الرابعة: في الحديث الأمر بسؤال الله وقد أمر الله بمسألته فقال: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه). وسؤاله هو دعاؤه بالرغبة إليه والدعاء هو العبادة كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث النعمان بن بشير وتلا قوله تعالى : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم). رواه أحمد. والله يحب أن يسأله العبد ويكثر من سؤاله لما في ذلك من حسن الظن والتوكل به والتعلق به والمؤمن يسأل ربه في كل شيء حتى في سقط المتاع لما روي في الدعاء للطبراني: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعليه اذا انقطع).
وسؤال المخلوق قسمان:
الأول: محرم وهو طلب المخلوق في أمر لا يقدر عليه إلا الله وهو من الشرك الأكبر بالله تعالى المخرج من الملة قال تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا).
الثاني: جائز وهو طلب المخلوق عند الحاجة في أمر يقدر عليه من المال والمنفعة والجاه فهذا مباح للمؤمن ولا يقدح في التوحيد والتنزه عنه من كمال التوكل والاعتماد على الله كحال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقد ورد في السنة الصحيحة النهي عن مسألة المخلوقين وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئا وكان أحدهم يسقط سوطه فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه. وإنما ورد النهي عن سؤال المخلوق لما فيه من إظهار التذلل والافتقار والمسكنة للمخلوق ولما يلحقه من المنة والمذلة وهذا المقام لا يصلح إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة ولأنه قادر على الضر والنفع كما قال تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ). فينبغي على المؤمن أن يفرد الله بالسؤال والاستعانة ويخلص توجهه إليه ليكون من أوليائه وأصفيائه ولا يلتفت قلبه للمخلوق العاجز المنان الشحيح بنعم الله.
الخامسة: في الحديث الأمر بإفراد الاستعانة بالله وحده دون ما سواه كما قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). والاستعانة هي طلب العون من الله بحيث يتوجه قلب العبد إلى الله قبل قيامه بالعمل وأثناء قيامه ولا تصلح الاستعانة إلا بالله لأنها عبادة قلبية محضة لا يحق صرفها لغير الله ولأن المعين حقيقة وقدرا وفعلا هو الله مالك زمام الأمور وخالق الأسباب ومسير العباد ومتصرف بنواصيهم أما الأسباب والوسائل فلا يصلح الاستعانة بها لأنها مخلوقة لا تملك نفعا ولا ضرا إلا بإذن الله وإن شاء أمضاها وإن شاء منعها. وللاستعانة بالله في القيام بأمور الدين والدنيا لها أثر عظيم في اجتماع القلب وتحقق العزيمة وكمال القدرة وتسيير الأمور وحصول التوفيق من الله. أما المشرك الذي يستعين بالجن والأولياء في قضاء الحاجات فقلبه مشتت في كل واد وهمه متفرق وسعيه باطل وعزمه واهن لأنه اعتمد على المخلوق العاجز الذي لا يملك صرف الضر عن نفسه فضلا عن غيره.
السادسة: قوله: (واعلم أن الأمة لم اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وان اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف). في هذا بيان لأصل عظيم من أصول الإيمان وهو الإيمان والتسليم وإقرار القلب بأن النفع والضر بيد الله يقدره للعبد حيث شاء وكيف شاء لا يستطيع أحد من المخلوقين أن يمنع حصول ذلك لأن كلمة الله نافذة على سائر الخلق وهذا يقتضي أن الخلق كلهم لا يملكون نفعا ولا ضرا للعبد إلا بإذن الله وتيسيره وتوفيقه فإذا أرادت الأمة بأسرها وعتادها أن ينفعوا أحدا لم ينفعوه إلا بشيء قدره الله له وإن أرادت الأمة بأسرها أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قدره الله عليه والله يحعل من شاء من خلقه سببا للخير والشر إذا وهذا يوجب للعبد أن يعلق قلبه بالله وحده لا شريك له لأنه المنعم حقا والأمر بيده ويسأله من فضله ولا يلتفت إلى المخلوق العاجز المنان
السابعة: في قوله: (رفعت الأقلام وجفت الصحف). دليل على تقدم كتابة المقادير كلها والفراغ منها من أمد بعيد وقد دل الكتاب والسنة على هذا المعنى قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسن ألف سنة). وفي مسند أحمد عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول ما خلق الله القلم ثم قال اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة). وهذا يدل على أن كل ما يصيب العبد في الدنيا من خير وشر مقدر عليه ومكتوب في الكتاب السابق وليس للخلق شأن فيه.
الثامنة: في قوله: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك بالشدة). مراده أن العبد إذا اتقى الله وأقبل عليه بكليته وتعلق قلبه به واشتغل بطاعته في السعة والغنى والعافية صار بينه وبين ربه معرفة خاصة فعرفه ربه في الشدة وراعى تعرفه له في الرخاء فنجاه في الشدائد بهذه المعرفة لأن الجزاء من جنس العمل وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
ومعرفة العبد لربه نوعان:
1-المعرفة العامة وهي تقتضي الإقرار به والتصديق والإيمان وهذه عامة للمؤمنين.
2-المعرفة الخاصة وهي تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية والانقطاع إليه والأنس به والطمأنينة بذكره والحياء منه والهيبة له وهذه المعية هي التي يعرفها العارفون كما قال بعض السلف: (مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب فيها قيل له وما هو قال معرفة الله عز وجل).
ومعرفة الله للعبد نوعان:
الأولى: معرفة عامة وهي علمه سبحانه بعباده واطلاعه على سرائرهم وعلانيتهم كما قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ).
الثاني: معرفة خاصة وتقتضي محبة الله لعبده وتقريبه إليه وإجابة دعائه وإنجائه من الشدائد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه: (ولا يزال عبدي يتقرب لي حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به).
والحاصل أن من عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته كما ورد في الترمذي: (من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء). وقال سلمان: (إذا كان الرجل دعاء في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله تعالى قالت الملائكة صوت معروف فشفعوا له). وأعظم الشدائد التي ينبغي للمؤمن أن يعد لها العدة الموت وما بعده فمن استعد له ذكر الله عند موته ولطف به وأعانه وتولاه وثبته على التوحيد فلقيه وهو راض عنه ومن ضيع أمر الله في حياته ولم يستعد للموت نسيه الله عند موته وأعرض عنه وأهمله ولقيه وهو ساخط عليه وأحاطت به الحسرة والندامة. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون).
التاسعة: في قوله: (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطأك). يحقق يقين قلب العبد بالقضاء السابق فإن أوقن حصول ذلك القدر وأنه لا مفر له منه مهما أوتي من الحيل والحذر حصل له الرضا التام بما يقدره الله عليه من المصائب والمحن والمؤمنون يتفاوتون في هذا الباب تفاوتا عظيما فمن كمل يقينه كان من أهل الرضا ومن نقص يقينه كان من أهل الصبر.
والمؤمن له درجتان في باب القضاء والقدر:
الأولى: الرضا بالقضاء وهذه درجة عالية لا يقوى عليها إلا الخلص وهو من كمال الإيمان قال الله عز وجل: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). قال علقمة: (هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى). وحقيقة الرضا انشراح صدر المبتلى بما نزل عليه من القضاء وترك تمني زواله مع وجود الألم لما يشاهد قلبه من حكمة الله وعظيم ثواب الرضا فيتلذذ بالبلاء ويجد النعيم والسرور في حياته كما قال عمر بن عبد العزيز: (أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر). وقال عبد الواحد: (الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين).
الثانية: الصبر على القضاء وهذه درجة نازلة لعموم أهل الإيمان وهو واجب على كل مسلم يأثم بتركه لأن الله أمر به وله فوائد عظيمة في الدنيا والآخرة قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). والصبر أعظم سلاح للمؤمن يكابد به أهوال الدنيا قال الحسن: (الرضا عزيز ولكن الصبر معول المؤمن). وحقيقة الصبر حبس القلب والجوارح عند نزول البلاء عن كل ما يسخط الله وتمني زوال البلاء فلا يعتقد المبتلى ولا يتكلم ولا يحرك بدنه في أمر محرم ولذلك نهى الشارع عن أفعال وأقوال تصدر عن الجهال حال المصيبة وعدها من الكبائر لما في ذلك من التسخط والاعتراض على القضاء والقدر.
العاشرة: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن النصر مع الصبر). دليل على أن النصر على العدو يتحقق مع صبر النفس وتصبرها في مجاهدة الأعداء كما قال تعالى: (كَمْ مِنْفِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). فالنصر يحتاج إلى يقين ومجاهدة وصبر على ألم القتال والجراح وهول الموقف. قال بعض السلف: (كلنا يكره الموت وألم الجراح ولكن نتفاضل بالصبر).
والجهاد الذي يتطلب الصبر نوعان:
الأول: جهاد العدو الظاهر وهو قتال الكفار وإليه ينصرف لفظ الجهاد إذا أطلق في النصوص وله شأن عظيم في الإسلام وورد له فضائل متكاثرة في الأدلة وهو من أعظم القربات وهو كسائر الطاعات له شروط وضوابط يجب أن تتحقق فيه.
الثاني: جهاد العدو الباطن وهو جهاد النفس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المجاهد من جاهد نفسه في الله). رواه أحمد. وهذا هو أصل الجهاد ومن جاهد نفسه من الشيطان والهوى واستقامت على الشرع كان سهلا عليه جهاد الكفار. قال عبد الله بن عمر لمن سأله عن الجهاد: (ابدأ بنفسك فجاهدها وابدأ بنفسك فاغزها). وهذا النوع شاق على النفوس ويفشل فيه كثير من المسلمين ولذلك قال علي بن ابي طالب: (أول ما تنكرون من جهادكم جهادكم لأنفسكم). وكان السلف الصالح يشددون في هذا الأمر ولذلك قال أبو بكر في وصيته لعمر: (إن أول ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك). ومن أعظم الأسباب التي تجعل المؤمن يخسر في معركة النفس الجهل وقلة البصيرة وضعف الإيمان واتباع الهوى وتسويف الشيطان وصحبة البطالين وطول الأمل وحب الدنيا. ومن صبر على جهاد نفسه وكسر هواها وقادها كان عزيزا في الدنيا ملكا سعيدا بالطاعة ومن غلبته نفسه وقهرته واتبع شهواته كان ذليلا للشيطان أسيرا للهوى شقيا في الدنيا. ومن أعظم ما يكسر النفس ويذللها قراءة القرآن والصوم وقيام الليل وزيارة القبور والجلوس في المساجد ورؤية الفقراء والصدقة ومداومة الاستغفار والتفكر في صفة النار وأهلها.
الحادية عشرة: أفاد قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن الفرج مع الكرب). أن فرج الله وتيسير العسير يكون بعد نزول الكرب على المؤمن وهذه من سنة الله الكونية على العباد ليختبرهم ويتمحنهم ويرى فعلهم تجاه المصائب ثم إذا رأى صبرهم ويقينهم وتسليمهم القدر لله وخضوعهم وقنوطهم أنزل عليهم الفرج كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ). وقد ورد أن الله يعجب من قنوط عباده مع قرب فرجهم. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (لو أن العسر دخل في جحر لجاء اليسر حتى يدخل معه ثم قرا قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(. والكرب إما يكون بنزول أسباب الشر من مرض وخوف وجوع أو بمنع أسباب الخير من رزق وولد. ومن حكمة الله أن الكرب إذا اشتد على المؤمن وتناهى وانقطع رجاؤه بالمخلوقين وأيس منهم تعلق قلبه بالله وأحسن التوكل على الله و حينها ينزل الفرج. قال الفضيل: (والله لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئا لأعطاك مولاك كل ما تريد). وقد حكى الله في كتابه قصصا عجيبة في تفريج الكربات عن أنبيائه كما في قصة نوح وإبراهيم وموسى ونبينا محمد صلوات الله عليهم. فينبغي على المؤمن إذا نزل به البلاء أن يدعو ربه ويحسن يه الظن ويفوض أمره لله ولا يقنط من رحمة الله ولا يستبطئ الفرج فإن نزل الفرج فليحمد الله وإن تأخر فليعلم أن التأخر كان بسبب ذنوبه وغفلته فليلم نفسه في الله وهذا يوجب الانكسار والذل بين يدي مقام الله وهو من أعظم الأحوال الإيمانية التي يثاب عليها العبد ثوابا عظيما في الآخرة. ومن فرج عن الخلق فرج الله عنه ونفس كربته. وهذا الحديث من أقوى البشائر لمن علته الهموم وغلبته الأحزان وتراكمت عليه المحن فليبشر وليعلم أن فرج الله قريب.