هذا الحديث خرجه الترمذي من رواية سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن أبي ذر ، وخرجه أيضا بهذا الإسناد ، عن ميمون ، عن معاذ ، وذكر عن شيخه محمود بن غيلان أنه قال : حديث أبي ذر أصح . فهذا الحديث قد اختلف في إسناده وقيل فيه : عن حبيب ، عن ميمون : أن النبي صلى الله عليه وسلم وصى بذلك ، مرسلا ، ورجح الدارقطني هذا المرسل . وقد حسن الترمذي هذا الحديث ، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه ، فبعيد ، ولكن الحاكم خرجه ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، وهو وهم من وجهين : أحدهما : أن ميمون بن أبي شبيب ، ويقال : ابن شبيب لم يخرج له البخاري في " صحيحه " شيئا ، ولا مسلم إلا في مقدمة كتابه حديثا عن [ ص: 396 ] المغيرة بن شعبة . والثاني : أن ميمون بن أبي شبيب لم يصح سماعه من أحد من الصحابة ، قال الفلاس : ليس في شيء من رواياته عن الصحابة " سمعت " ولم أخبر أن أحدا يزعم أنه سمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . وقال أبو حاتم الرازي : روايته عن أبي ذر وعائشة غير متصلة . وقال أبو داود : لم يدرك عائشة ، ولم ير عليا ، وحينئذ فلم يدرك معاذا بطريق الأولى . وروى البخاري وشيخه علي بن المديني ، وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم أن الحديث لا يتصل إلا بصحة اللقي ، وكلام الإمام أحمد يدل على ذلك ، ونص عليه الشافعي في " الرسالة " وهذا كله خلاف رأي مسلم رحمه الله . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصى بهذه الوصية معاذا وأبا ذر من وجوه أخر ، فخرج البزار من حديث أبي لهيعة ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى قوم ، فقال : يا رسول الله أوصني ، قال : أفش السلام ، وابذل الطعام ، واستحي من الله استحياء رجل ذي هيئة من أهلك ، وإذا أسأت فأحسن ، وليحسن خلقك ما استطعت . وخرج الطبراني والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : أن [ ص: 397 ] معاذ بن جبل أراد سفرا ، فقال : يا رسول الله أوصني قال : اعبد الله ، ولا تشرك به شيئا " قال : يا رسول الله زدني ، قال : " إذا أسأت فأحسن " قال : يا رسول الله زدني ، قال : " استقم ولتحسن خلقك " . وخرج الإمام أحمد من حديث دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي ذر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته ، وإذا أسأت فأحسن ، ولا تسألن أحدا شيئا وإن سقط سوطك ، ولا تقبض أمانة ، ولا تقض بين اثنين . وخرج أيضا من وجه آخر عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله علمني عملا يقربني من الجنة ويباعدني من النار ، قال : إذا عملت سيئة ، فاعمل حسنة ، فإنها عشر أمثالها قال : قلت : يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله ؟ قال : هي أحسن الحسنات . وخرج ابن عبد البر في " التمهيد " بإسناد فيه نظر عن أنس قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن ، فقال : " يا معاذ اتق الله ، وخالق الناس بخلق حسن ، وإذا عملت سيئة ، فأتبعها حسنة " فقال : قلت : يا رسول الله لا إله إلا الله من الحسنات ؟ قال : " هي من أكبر الحسنات " . وقد رويت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ من حديث ابن عمر وغيره بسياق مطول من وجوه فيها ضعف . ويدخل في هذا المعنى حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل : ما أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ قال : تقوى الله وحسن الخلق خرجه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ، وابن حبان في " صحيحه " . [ ص: 398 ] فهذه الوصية وصية عظيمة جامعة لحقوق الله وحقوق عباده ، فإن حق الله على عباده أن يتقوه حق تقاته ، والتقوى وصية الله للأولين والآخرين . قال تعالى : ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله [ النساء : 131 ] . وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه ، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه . وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله عز وجل ، كقوله تعالى : واتقوا الله الذي إليه تحشرون [ المائدة : 96 ] ، وقوله : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [ الحشر : 18 ] ، فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه وتعالى ، فالمعنى : اتقوا سخطه وغضبه ، وهو أعظم ما يتقى ، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي ، قال تعالى : ويحذركم الله نفسه [ آل عمران : 28 ] ، وقال تعالى : هو أهل التقوى وأهل المغفرة [ المدثر : 56 ] ، فهو سبحانه أهل أن يخشى ويهاب ويجل ويعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه ، لما يستحقه من الإجلال والإكرام ، وصفات الكبرياء والعظمة وقوة البطش ، وشدة البأس . وفي الترمذي عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية هو أهل التقوى وأهل المغفرة [ المدثر : 56 ] قال : قال الله تعالى : " أنا أهل أن أتقى ، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر ، فأنا أهل أن أغفر له " . [ ص: 399 ] وتارة تضاف التقوى إلى عقاب الله وإلى مكانه ، كالنار ، أو إلى زمانه ، كيوم القيامة ، كما قال تعالى : واتقوا النار التي أعدت للكافرين [ آل عمران : 131 ] ، وقال تعالى : فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين [ البقرة : 24 ] ، وقال تعالى : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا [ البقرة : 48 ، 123 ] .