قال أبو محمد السنن تنقسم ثلاثة أقسام قول من النبي صلى الله عليه و سلم أو فعل منه عليه السلام أو شيء رآه وعلمه فأقر عليه ولم ينكره
فحكم أوامره عليه السلام الفرض والوجوب على ما نبينه إن شاء الله عز و جل في باب الأوامر من هذا الكتاب ما لم يقم دليل على خروجه من باب الوجوب إلى باب الندب أو سائر وجوه الأوامر وحكم فعله عليه السلام الائتساء به فيه وليس واجبا إلا أن يكون تنفيذا لحكم أو بيانا لأمر على ما يقع في باب الكلام في أفعاله عليه السلام من هذا الكتاب وأما إقراره عليه السلام على ما علم وترك إنكاره إياه فإنما هو مبيح لذلك الشيء فقط وغير موجب له ولا نادب إليه لأن الله عز و جل افترض عليه التبليغ وأخبره أنه يعصمه من


الناس وأوجب عليه أن يبين للناس ما نزل إليهم فمن ادعى أنه عليه السلام علم منكرا فلم ينكره فقد كفر لأنه جحد أن يكون عليه السلام بلغ كما أمر ووصفه بغير ما وصفه به ربه تعالى وكذبه في قوله عليه السلام اللهم هل بلغت فقال الناس نعم فقال اللهم اشهد قال ذلك في حجة الوداع
فإن اعترض معترض بحديث جابر أنه سمع عمر رضوان الله عليهما يحلف بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم على أن ابن صياد هو الدجال فلم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا حجة علينا في هذا لأن ابن صياد في أول أمره كان رسول الله صلى الله عليه و سلم شاكا في أمره أهو الدجال أم لا بذلك جاءت الأحاديث الصحاح ويبين ذلك قول عمر فيه دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقال عليه السلام إن يكن هو فلن تسلط عليه أو نحو ذلك من الكلام فحلف عمر على تقديره ومن حلف على ما لا يعلم ولا يوقن أنه باطل ولا حق فليس هو عندنا حانثا ولا آثما إذا كان تقديره أنه كما حلف عليه فهذا الحديث حجة لنا وليس فيه أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم صدق يمينه فإنا في الحديث أن أمر ابن صياد كان حينئذ ممكنا والحالف على الممكن كما ذكرنا لم يأت منكرا فيلزم رسول الله صلى الله عليه و سلم تغييره
قال علي وأما من قال إن أفعاله صلى الله عليه و سلم على الوجوب فقوله ساقط لأن الله تعالى لم يوجب علينا قط في شيء من القرآن والسنن أن نفعل مثل فعله عليه السلام بل قال تعالى { لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا } وإنما أنكر عليه السلام على تنزه أن يفعل مثل فعله عليه السلام وهذا هو غاية المنكر كمن تنزه عن التقبيل في رمضان نهارا وهو صائم أو تنزه أن يمشي حافيا حاسرا زاريا على من فعل ذلك وأما من ترك أن يفعل مثل فعله عليه السلام لا عن رغبة عنه فما أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم قط وهذا التارك للائتساء به صلى الله عليه و سلم غير راغب عن ذلك لا محسن ولا مسيء ولا مأجور ولا آثم والمؤتسي به عليه السلام محسن مأجور والراغب عن الائتساء به بعد قيام الحجة عليه إن كان زاريا على محمد صلى الله عليه و سلم فهو كافر وما نعلم لمن صحح عنه فعلا ثم رغب عنه وجها ينجو به من الشرك إلا أن يتعلق بفعل له عليه


السلام آخر أو بأمر له آخر أو يكون لم يصح عنده ذلك الأمر الذي رغب عنه فإن تعلق بأنه خصوص له صلى الله عليه و سلم فهو أحد الكاذبين الفساق ما لم يأت على دعواه بدليل من نص أو إجماع
قال علي وأما من ادعى أن أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم فرض علينا أن نفعل مثلها فقد أغفل جدا وأتى بما لا برهان له على صحته وما كان هكذا فهو دعوى كاذبة لأن الأصل ألا يلزمنا حكم حتى يأتي نص قرآن أو نص سنة بإيجابه وأيضا فإنه قول يؤدي إلى ما لا يفعل ولزمه أن يوجب على كل مسلم أن يسكن حيث سكن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأن يجعل رجليه حيث جعلهما عليه السلام وأن يصلي حيث صلى عليه السلام وأن يصوم فرضا الأيام التي كان يصومها عليه السلام وأن يجلس حيث جلس وأن يتحرك مثل كل حركة تحركها عليه السلام وأن يحرم الأكل متكئا وعلى خوان والشبع من خبز البر مأدوما ثلاثا تباعا وأن يوجب فرضا أكل الدباء ويتتبعها وهذا ما لا يوجبه مسلم مع أن هذا يخرج إلى المحال وإلى إرجاع ما لا سبيل إلى إرجاعه مما قد فات وبطل بالأكل والشرب منه عليه السلام
فبطل بما ذكرنا أن تكون أفعاله عليه السلام واجبة علينا إذ لم يأت على ذلك دليل بل قد قام الدليل والبرهان على أن ذلك غير واجب بالآية التي ذكرنا وكل من له أقل علم باللغة العربية فإنه يعلم أن ما قيل فيه هذا لك أنه غير واجب قبوله بل مباح له تركه إن أحب كالمواريث وكل ما خيرنا فيه وأن ما جاء بلفظ عليك كذا فهذا هو الملزم لنا ولا بد فلما قال تعالى { لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا } كنا مندوبين إلى ذلك وكنا مباحا لنا ألا نأتسي غير راغبين عن الائتساء به لكن عالمين أن الذي تركنا أفضل والذي فعلنا مباح كجلوس الإنسان وتركه أن يصلي تطوعا فليس آثما بذلك ولو صلى تطوعا لكان أفضل إلا أن يكون ترك التطوع راغبا عنها في الوقت المباح فيه التطوع فهذا خارج عن الإسلام بلا خلاف لأنه شارع شريعة لم يأت بها إذن
قال علي وإنما نازعنا في وجوب الأفعال بعض أصحاب مالك على أنهم أترك


خلق الله تعالى لأفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن ذلك أنه عليه السلام جلد في الخمر أربعين وهم يجلدون ثمانين وودى حضريا وهو عبد الله بن سهل ادعى قتله على حضريين وهم يهود خيبر بالإبل فقالوا هم لا يجوز ذلك ولا يودى إلا بالذهب أو الفضة
وصلى على قبر فقالوا هم لا نفعل ذلك وصلى على غائب فقالوا هم لا نرى ذلك وقبل وهو صائم
فقالوا هم نكره ذلك وصلى عليه السلام حاملا أمامة فقالوا نكره ذلك وصلى جالسا والناس وراءه وأبو بكر إلى جنبه قائم
فقالوا لا يجوز ذلك ويعلم صحةمن صلى كذلك بطلت صلاته في كثير جدا اقتصرنا منه على ما ذكرنا
وبعضهم تعلق في هذه الأفعال بأنها خصوص له عليه السلام ومن فعل ذلك فقد تعرض لغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن تعرض لغضبه عليه السلام فقد تعرض لغضب الله عز و جل فقد غضب عليه السلام غضبا شديدا حين سأله الأنصاري عن قبلة الصائم فأخبر عليه السلام أنه يفعل ذلك فقال القائل لست مثلنا يا رسول الله أنت قد غفر لك ذنبك فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم حينئذ غضبا شديدا وأنكر هذا القول فمن أضل ممن تعرض لغضب الله عز و جل وغضب رسوله عليه السلام في تقليد إنسان لا ينفعه ولا يضره ولا يغني عنه من الله تعالى شيئا
قال علي واحتجوا في تخصيص القبلة للصائم بقول عائشة رضي الله عنها وأيكم أملك لإربه من رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد وهذا القول منها رضي الله عنها أعظم الحجة عليهم لأنها لم تقل ذلك على ما توهموا وإنما قالته إنكارا على من استعظم القبلة للصائم
فأخبرهم أنه عليه السلام كان أورع منهم وأملك لإربه ولكنه مع ذلك لم يمتنع من التقبيل وهو صائم فكيف أنتم
ويدل على صحة هذا التأويل دليلان بينان أحدهما أنها رضي الله عنها هكذا قالت في مباشرة الحائض أنه عليه السلام كان يأمرها فتتزر ثم يباشرها وأيكم أملك لإربه من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيلزمهم أن يتركوا إباحة مباشرة الحائض لقول عائشة وأيكم أملك لإربه كما قالت في قبلة الصائم سواء بسواء
والثاني أنهم رووا عنها أنها قالت لابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن وهو أشب ما كان ألا تقبل زوجتك وتلاعبها تعني عائشة بنت طلحة وهي بنت أختها وأجمل


جواري أهل زمانها قاطبة فقال إني صائم
فقالت لقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبل وهو صائم فهي دأبا تحض الصائم الشاب على التقبيل للجارية الحسناء اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم وائتساء به
وهذا هو قولنا لا قولهم ففعلوا ما ترى فيما أخبر عليه السلام أنه عموم وغضب على من ادعى أنه خصوص ثم أتوا إلى ما أخبر عليه السلام أنه خصوص له دون سائر الناس وهو قتله بمكة من قتل الكفار وخطب عليه السلام الناس فنهاهم عن أن يسفك فيها أحد دما ثم لم يقنع عليه السلام بذلك حتى قال في خطبته تلك وإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها فقولوا إن الله أحلها لنبيه صلى الله عليه و سلم ولم يحلها لكم وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس إلى يوم القيامة أو كلاما هذا معناه فقالوا هذا عموم وليس خصوصا
قال أبو محمد فلو قيل لهؤلاء القوم اعكسوا الحقائق ما زادوا على ما فعلوا وأن هذا لعظائم لا ندري كيف استجاز من له أدنى ورع التقليد في مثل هذا لمن قد أداه اجتهاده إلى الخطأ في ذلك ممن قد بلغتهم الآثار وقامت عليهم الحجة وسقطت عنهم المعذرة وإن الظن ليسوء جدا بمن هذا معتقده ونعوذ بالله من كل حب رياسة تقود إلى مثل هذا وبالله تعالى التوفيق
قال علي وإذا مدح الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم أحدا على فعل ما كان ذلك الفعل مندوبا إليه مستحبا يؤجر فاعله ولا يؤجر تاركه ولا يأثم وليس ذلك الشيء فرضا لما قد أوردنا في الحجاج في أن الفرض ليس إلا ما جاء به الأمر فقط وإن لم نؤمر به فمعفوا عنه وأما ما ذمه الله تعالى فهو مكروه وليس حراما إلا بدليل لما ذكرناه في المدح ولا فرق وقد ذم الله تعالى الشح وليس حراما إذا أدى المرء فرائضه ولكنه مذموم مكروه وقد مدح الله تعالى المغتسلين بالماء للاستنجاء وليس فرضا ومدح النبي صلى الله عليه و سلم من لم يكتوا ولا استرقى وليس كل ذلك حراما لكن إن قام دليل من أمر أو نهي على الشيء المذموم أو الممدوح صير فيه إلى دليل الأمر والنهي وبالله تعالى التوفيق