ذم الفرقة والاختلاف في الكتاب والسنة




الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الذي أنعم على عباده المؤمنين بالهداية والاعتصام بحبله المتين، وجمعهم على الحق، ووقاهم شر التشاحن، وذل التخاذل، ومنَّ عليهم بالإخاء والألفة، وجنَّبهم الاختلاف والفرقة.



أحمده أن هدانا لمعرفة الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله لبيان سبيله الموصلة إليه، والتحذير من سلوك سبل الضلال، فجمع به القلوب بعد الفرقة، وأعز به بعد الذلة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.



وبعد:

فإنه لا يستقيم للناس حال في دنياهم، ومآلهم إلا بالاتفاق، والائتلاف واجتناب التنابذ والاختلاف.



ولابد أن يكون الاجتماع والاتفاق على أمر عام، يشتركون في نفعه، ويؤملون جميعًا عائدته وفضله، في عاجل أمرهم وآجله.



ولا يحصل الاتفاق الكامل، الذي تكون فيه المحبة والألفة، إلا مع اتفاق الدين، والعقيدة، فإذا كان الدين حقا، والعقيدة صافية من الشوائب، وسالمة من الانحرافات، والغوائل فهناك يقوى الاتفاق ويتم، وتتأصل الرابطة، ويحصل البذل والإيثار، ولهذا أمر الله تعالى عباده بتقواه المستلزم لحصول الإيمان، وفعل المأمور، واجتناب المحظور، ثم أمر بالاعتصام بحبله جميعا ونهى عن التفرق والاختلاف، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[1].



قال ابن جرير: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا﴾ المعنى وتعلقوا بأسباب الله جميعا، يريد بذلك أن تمسكوا بدينه الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم، في كتابه من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله.



والاعتصام:هو الامتناع بالشيء والاحتماء به، والعصم: هو المنع، فكل مانع شيئا فهو عاصمه، والممتنع به معتصم به، ومن ذلك قول الفرزدق:

أنا ابن العاصمين بني تميم=إذا ما أعظم الحُدثان نابا



والحبل: هو السبب الذي يوصل إلى المراد، ولذلك سمي الأمان حبلا، لأنه يوصل إلى زوال الخوف، والنجاة من الفزع والذعر، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:

وإذا تُجوِّزها حبال قبيلة=أخذت من الأخرى إليك حبالها



ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ﴾[2].

وقد فسر حبل الله بأنه الاجتماع على الحق.

وفسر بأنه القرآن، وعهد الله الذي عهده إلى عباده فيه.

وفسر بأنه التوحيد، وإخلاص العمل لله تعالى.



روى ابن جرير بسنده إلى ابن مسعود، قال: حبل الله الجماعة[3].



وروى عن قتادة قال: حبل الله المتين الذي أمر أن يعتصم به: هذا القرآن وكذا قال مجاهد، والضحاك وعطاء.



وروى عن ابن مسعود، قال: إنّ الصراط محتضر، تحضره الشياطين، ينادون: يا عبد الله هلم هذا الطريق، ليصدوا عن سبيل الله، فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله هو كتابه[4].



وقال مجاهد: حبل الله عهده وأمره.




وفي مسند الإمام أحمد والترمذي قال: حسن غريب عن أبي سعيد قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض))[5].



وروى ابن جرير عن أبي العالية: قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً﴾ قال: الإخلاص لله وحده[6].



وهذه الأقوال كلها حق، وليس فيها اختلاف، فحبل الله هو كتابه، ودينه وأمره الذي أمر به عباده، وعهد إليهم به، وهو الذي أمر بالاجتماع عليه، ونهى عن التفرق فيه.



والمقصود من ذلك كله أن يوحدوا الله تعالى بالطاعة والعبادة، ويخلصوا له العمل، والاعتصام بحبل الله يتضمن الاجتماع على الحق، والتعاون على البر والتقوى والتناصر على أعداء الله وأعداء المسلمين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ولذلك بعد أن أمر الله تعالى بالاعتصام بحبله، وهو الاجتماع على دينه والاحتماء به، أكد ذلك بالنهي عن الفرقة، فقال تعالى: ﴿وَلا تَفَرَّقُوا﴾ قال ابن جرير: يعني ألا تفرقوا عن دين الله وعهده إليكم في كتابه، من الائتلاف و الاجتماع على طاعة الله، وطاعة رسوله – صلى الله عليه وسلم – والانتهاء إلى أمره، ثم روى عن قتادة، قال: إنّ الله تعالى كره لكم الفرقة، وقدم إليكم فيها، وحذركموها، ونهاكم عنها ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله.



وروى عن ابن مسعود قال: يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وان ما تكرهون في الجماعة والطاعة هو خير مما تحبون في الفرقة[7].



ومن الأمور المسلّم بها أنه لا بد للناس من أمر يجتمعون عليه، يحكم بين ا لمختلفين ويفصل بين المتنازعين إذ الاختلاف من طبيعتهم، ولا بد له ممن يلزم من يأبى ذلك، وينفذ الأحكام، حتى يأمن الناس على أنفسهم،وأموالهم، ويكون اتجاههم موحدا، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

وما الدين إلا أن تقام شريعة=وتأمن سبل بيننا وشعاب[8]



ولهذا اتفقت المجتمعات على اختلاف أديانها، ووجهاتها على وضع قانون يرجعون إليه عند الاختلاف، ويحكمونه عند المنازعات، فهو من الضروريات التي لا تصلح دنياهم إلا به.



ومعلوم أن الإنسان ظلوم جهول فلابد أن يقع في الجهل والظلم في وضع القانون وغيره، ولذلك أنـزل الله تعالى الشرائع من عنده، لتحكم بين العباد بالعدل وأوجب تعالى على عباده الرجوع إلى شرعه، عند الاختلاف، ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وجعل ذلك شرطا في حصول الإيمان، فقال تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾[9].



ثم لا بد للمجتمع من رئيس مطاع، ذي قوة وسلطان حتى يقوم بتنفيذ شرع الله تعالى على من يَلْزَمُهُ الحكم ويأباه، أو يجهله، وأمر الله تعالى عباده أن يكونوا عونا له على ذلك، لأن هذا هو الذي تحصل به مصالح الدنيا والآخرة، وبدونه يعم الفساد والفوضى، والظلم، فلا بد من إلزام الخلق بالحق، ومنعهم من الظلم والتعدي في الدماء والأموال، والأعراض، وقطع السبل، وإلا فسدت الأمور، وانتهكت الأعراض، ونهبت الأموال وسفكت الدماء.



ولا بد من العدل في ذلك، وهو الميزان الذي أنـزله الله على رسله، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾[10] وقال تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾[11] وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾[12] وقد جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت))[13] ومفهوم ذلك أنها إذا لم تكن كذلك فهي في شر. قال الحسن: ((إنّ الله أخذ على الحكام ثلاثا، أن لا يتبعوا الهوى، وأن يخشوه ولا يخشوا الناس، وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا)) قال تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾[14] وقال تعالى: ﴿فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ﴾[15].



والمقصود أن الله تعالى أوجب على المسلمين أن يجتمعوا على دين الحق الذي هو الإسلام وأن يعتصموا بكتاب الله تعالى، وأن تكون وحدتهم عليه، فعليه يجتمعون وبه يتحدون، لا بالقوميات والجنسيات، ولا بالمذاهب والأوضاع السياسية التي اخترعوها بأفكارهم القاصرة.



ونهاهم تعالى عن التفرق والانقسام، بعد الاجتماع والاعتصام بكتاب الله تعالى لما في التفرق من زوال الوحدة التي هي معقد العز والقوة فبالاجتماع تقوى الأمة، وبالقوة يعتز الحق فيعلو على الباطل، ويحفظ من هجمات المواثبين، ويحمى من كيد الكائدين، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾[16].



فالإسلام هو سبيله، والعصبيات والقوميات هي السبيل المشتتة التي تؤدي إلى الضعف والهلاك.



والإسلام يأمر بالوفاق، والاتفاق، بين كل من تحكمهم شريعته، وأن يعتصموا بحبل الله جميعا، وقد بددت العصبيات القبلية العرب قبل الإسلام، فلم يكن لهم شريعة تجمعهم ولا نظام يحكمهم وحينما لجؤوا إلى الإسلام نالوا به العزة والسيادة، والسعادة ولما سرى سم العصبيات الموبوءة التي نقلها متفرنجة المسلمين إليهم، يخادعون بذلك قومهم موهمين، بأنهم يريدون النهوض بأوطانهم، وإعلاء شأنهم، أصبح الأمر معكوسا فلم يجنوا من ذلك سوى الضعف والتفكك، والتفرق الذي مهد السبيل أمام أعدائهم للاستيلاء على خيرات بلادهم، وعلى أفكارهم، وفي النهاية أصبح أعداؤهم يتحكمون فيهم، وإن أوهموهم بأن الأمر بأيديهم.



فالإسلام وحده هو الأساس الذي ينبع منه إيجاد المجتمع المتكامل، المتساند الذي يعمل من أجل خير الجميع، لأن الإسلام يعتبر الفرد هو النواة للجماعة، ولا يعترف بالجماعة إلا إذا كانت لا تعمل على ضمان صالح الفرد.



ومن المتيقن أن المسلمين لن تقوم لهم دولة عزيزة قوية إلا إذا اجتمعوا على ما اجتمع عليه أوائلهم وأسلافهم، الذين فتحوا البلاد بعدل الإسلام وعزته، وفتحوا القلوب لعبادة الله وحده لا شريك له، وبذلك صاروا، هم القادة.



ولتكن دويلة اليهود في فلسطين معتبرا لمن يعقل ويعتبر، كيف أصبحت تتحداهم وتهددهم، ولا يستطيعون الامتناع منها، وليس لذلك سبب سوى انصراف المسلمين عن دينهم الذي هو مصدر عزهم وقوتهم.



فبالإسلام وحده استطاع أجدادنا لما كان إمامهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقائدهم القرآن أن يكونوا أكبر دولة وأعظمها، لا تستطيع القوى المادية مجتمعة إيجاد مثلها.



وقد علم لكل من يقرأ التاريخ أن المسلمين كلما حادوا عن دينهم، حاق بهم ما وقع بهم في الأندلس، وغيره، إن ما وقع للمسلمين قديما وحديثا كله بسبب انصرافهم عن دينهم، فيجب أن يكون ذلك لهم عبرة، فقد أبيدت أمم من المسلمين وسلبت بلادهم، وسبيت نساؤهم وأولادهم، وارتد من بقي منهم في تلك البلاد عن الإسلام كما حصل في الأندلس، بسبب التفكك والاختلاف الذي نهاهم عنه دينهم وحذرهم الله منه على لسان رسوله- صلى الله عليه وسلم -، كما في حديث ثوبان، وإني سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنّه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من في أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا[17].



ولما كانوا مجتمعين، تسودهم روح الإسلام، ويلتزمون أحكامه، لم يكن العدو يطمع بهم وليس له فيهم منفذ، حتى صاروا هم يدمرون أنفسهم وبلادهم، بتفرقهم، واختلافهم.



وقد اتفق أهل النظر وعلماء التاريخ والاجتماع من المسلمين وغيرهم من الأمم المختلفة أن العرب ما قاموا ببناء حضارتهم، ومدنيتهم الواسعة الأرجاء إلا بتأثير الإسلام، في جمع كلمتهم، وإصلاح شؤونهم النفسية، والعلمية، والخلقية.



ولهذا لما رأى الكفار قوة المسلمين، ووحدة صفهم على عدوهم، عملوا على تمزيق هذه الوحدة، بوسائل متعددة، منها تقسيم بلادهم إلى دويلات متعددة، وجعلوا لكل دويلة حدودا، ونظاما، وأمورا قد يحصل بسببها القتال بينها وبين جارتها وبذلك أمكنهم السيطرة على المسلمين، من نواحي متعددة.



ومعرفة الجماعة وأهميتها في الدين، وكذلك معرفة حكم الفرقة وعظيم ضررها مما ينبغي الاعتناء به، وكذلك معرفة منشأ الفرقة وأسبابها، فإن بالفرقة يحصل التلاعن والتباغض، والتقاطع، ثم القتال، وهذا أصل محرم في الشرائع كلها التي أنـزلها الله على رسله، وإنما ترتكب بظلم الناس وجهلهم.



وكذلك تمييز السنة من البدعة مما يجب الاعتناء به، إذ السنة ما أمر الله به والبدعة ما لم يشرعه الله من الدين.



وقد كثر اضطراب الناس في ذلك قديمًا وحديثًا، وحصل بسبب ذلك من التفرق والتباعد والتباغض شر عظيم، وضعف كبير، وتباعد شاسع، إذ كل فريق يزعم أنه المهتدي،
والسنة معه، والفريق المخالف له ضال أو ربما كافر، فينشأ عن ذلك من التفرق والشرور ما الله به عليم.



وقد ذم الله تعالى الاختلاف ونهى عنه أشد النهي، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾[18].



وقال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[19].



فأخبر تعالى عن اتفاق الناس في الأصل، وإنهم كانوا جماعة متحدة، ثم اختلفوا.



وهذا الاختلاف في الدين، هو الاختلاف الذي يكون به تضليل بعضهم بعضا ومعاداة بعضهم لبعض، ثم بعد ذلك يكون القتال وشدة التفرق.



وقد بعث الله تعالى إلى العباد النبيين، مبشرين من أطاعهم واجتمع على الهدى الذي جاءوا به، بالسعادة والسيادة، ومنذرين من عصاهم بالعذاب في الآخرة والعقوبة في الدنيا، بما ينغص عليهم حياتهم، أو يهلكهم بعذاب متصل بعذاب الآخرة.



ولما كان عقل الإنسان وفكره قاصرا عن الوصول إلى كل ما فيه مصلحته، وهدايته من العدل في حقه وحق غيره، ولتفاوت عقول الناس، وإدراكاتهم، فلا بد من اختلافهم، مع ما فيهم من النقص، لذلك أنـزل الله
الكتاب ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه من العلم و الاعتقاد، والعمل والحكم.



لأن الاختلاف إما أن يكون في الأقوال، كاختلاف الفقهاء الذين يتكلمون في مسائل العلم، ولا يدعون إلى أقوال مبتدعة فهؤلاء أهل اجتهاد، إذا أخطأوا فخطأهم مغفور، وهم مثابون على اجتهادهم.



وإما أن يكون الاختلاف في القول والعمل، غير أن الأقوال مبنية على تأويل فاسد، اتباعا للهوى، ويدعون إليها، ويحاربون عليها، ويوالون ويعادون كفعل الخوارج، والروافض، والمعتزلة، ونحوهم، ويدخل في ذلك من يقاتل لأجل الملك والدنيا والرئاسة، فهؤلاء ما بين معتد ظالم أو مفرط ضال أو عابد لهواه وشهوته، فهؤلاء هم أهل الضلال، والخذلان، وهم الذين توجه إليهم الذم في
الكتاب والسنة.



وأول هؤلاء هلاكا هم الخوارج المارقون عن الحق، حيث حكموا لنفوسهم بأنهم المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وأن علي بن أبي طالب، ومعاوية وعسكريهما هم أهل المعصية، والبدعة، فاستحلوا ما استحلوا من دماء المسلمين بسبب ذلك.



وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((وإن الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا له شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم[20]، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال))[21].



وروى ابن أبي شيبة، عن حذيفة قال: ((من فارق الجماعة شبرا، فارق الإسلام))[22].



وروى عن علي، قال: ((الأئمة من قريش، ومن فارق الجماعة شبرا، فقد نـزع ربقة الإسلام من عنقه))[23]. والمقصود بالجماعة أهل الحق الذين اجتمعوا عليه، ولم يخالفوا ما جاء به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بحسب الاستطاعة.



وهذه النصوص وأمثالها تدل على وجوب جمع كلمة المسلمين واجتناب كل ما يكون سببا للخلاف، حتى مسائل العلم الاجتهادية التي ينشأ عنها تفرق ومعاداة.



فإنّه قد يكون في مسائل الاختلاف اعتقاد وجوب بغض المخالف في تلك المسألة أو تفسيقه، أو لعنه وتكفيره، أو قتاله، ويكون ذلك في حق المبغض المفسق أو المكفر المقاتل بلاء ومحنة، وفتنة، كما هو حال البغاة المتأولين، مع أهل الحق والعدل من أهل الأمر والنهي أو أهل العلم والعمل، يعني الأمراء، والعلماء والعباد.



ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة، إلا مع البغي والعدوان، ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾[24].



وذكر هذا تعالى في آيات أخر، كقوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾[25]. وقوله تعالى: ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾[26]. فبيَّن تعالى أن الاختلاف الموجب للفتنة
والفرقة إنما هو بغي، وعدوان، فلا تكون فتنة وفرقة مع الاختلاف السائغ في الشرع.



ولهذا نهى النبي – صلى الله عليه وسلم- عن القتال في الفتنة، وصار هذا من أصول أهل السنة التي تذكر في العقائد لأهميته.



وإن كان بعض العلماء يرى إذا كانت إحدى الطائفتين لديها العلم التام بأحكام الشرع، والأخرى باغية أنه يجب القتال مع الطائفة العادلة العالمة وحكموا بأن الأصوب القتال مع علي بن أبي طالب في قتال الفتنة، وأن ذلك أولى من اعتزال القتال.



ولكن النصوص الكثيرة دلت على أن الصواب اعتزال القتال، كما فعله أكثر الصحابة، كقوله – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه ابن أبي شيبة عن محمد بن مسلمة قال: أعطاني رسول الله- صلى الله عليه وسلم – سيفا فقال: ((قاتل به المشركين، فإذا رأيت الناس يضرب بعضهم بعضا، فاعمد به إلى صخرة فاضربه بها حتى ينكسر، ثم اقعد في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية)).



وكما في سنن أبي داود والترمذي عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: في الفتنة: ((كسروا فيها قِسيكم، وقطعوا أوتاركم، والزموا فيها أجواف بيوتكم، وكونوا كابن آدم)).



وفي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذًا فليعذ به)).



وفي صحيح مسلم عن أبي بكرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أنها ستكون فتنة، ألا ثم تكون فتن القاعد فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي إليها، فإذا وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من لم تكن له إبل ولا غنم، ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة، اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت. فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، أو إحدى الطائفتين، فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار)).



وفي الصحيحين من حديث أبي بكرة أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، فقيل: يا رسول الله. هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل أخيه)).



وفيهما عن أبي سعيد أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن)).



والأحاديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالأمر بالكف عن القتال في الفتن، واعتزال المقاتلين كثيرة جدّاً، وواضحة جلية، وهي من الأمور المانعة من التفرق، لأن هذا هو العلاج في مثل تلك الحال، فإذا لم تمنع بالكلية فبها، العمل على تقليلها، ولو باعتزال أصحابها ومن الأصول المتفق عليها عند أهل السنة، ودلت عليه النصوص الكثيرة، أنه إذا كان للناس إمام جائر ظالم، فإن الناس يؤمرون بالصبر على جوره وظلمه، وبغيه ولا يقاتلونه وأن مجرد وجود البغي من إمام، أو من طائفة لا يبيح قتالهم.



فدفع البغي لم يأذن الشرع به مطلقا بالقتال، بل إذا كان فيه فتنة، ويترتب عليه ضرر أعظم منه وجب الكف عنه، وأمر بالصبر، والاحتمال، لأن الشريعة مبناها على دفع أعظم المفسدتين بالتزام أقلهما ضررا، إذا لم يمكن دفع الفساد مطلقا.



والنبي – صلى الله عليه وسلم – إذا وصف طائفة بأنها باغية ليس معنى ذلك أنه أمر بقتالها بل ولا مبيحاً له، سواء كان بغيها بتأويل، أو غير تأويل.



وكل ما أوجب فتنة أو فرقة بين المؤمنين فليس هو من الدين، سواء كان قولا أو فعلا.



والفتنة،
والفرقة لا تقعان، إلا من ترك ما أمر الله به، والله تعالى - أمر بالحق والعدل، وأمر بالصبر، والفتنة تكون من ترك الحق، أو من ترك الصبر.



فالمظلوم إذا كان على حق، فإنّه يؤمر باحتمال الأذى، والصبر على البلوى، فإذا ترك الصبر، فإنّه يكون تاركا لما أمر الله به.



وإن كان المظلوم مجتهدا في معرفة الحق، ولم يصبه، ثم لم يصبر على البلوى، كان مقصرا في معرفة الحق، وآثما بترك الصبر، ولكن قد يؤجر على اجتهاده، ويعفى له عن تقصيره، وأما ترك الصبر فعليه إثم ذلك.



وأما إذا كان غير مجتهد في معرفة الحق، ولم يصبر، فإنّه يجتمع عليه ثلاثة ذنوب، الأول لتركه الاجتهاد في طلب الحق، والثاني لتركه الصبر على البلوى، والثالث لعدم إصابته الحق ووقوعه في الخطأ.



والمقصود أنه لا يحل دفع الأذى الذي يكون في دفعه فتنة بين الأمة، أو ينتج عنه شر عظيم أو أعظم من الأذى المطلوب دفعه، أو يكون في دفعه ظلم وعدوان، بل المتعين حينئذ الصبر والاحتمال وضبط النفس، فإن ذلك في حق المظلوم ابتلاء وامتحان، وإذا صبر واحتسب، كانت العاقبة له، وقد قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً﴾ [الفرقان: 20] أي يبتلى بعضكم ببعض لينظر من يصبر فيستحق الجزاء الأوفى، في الدنيا والآخرة.



وأخبر تعالى عن رسله أنهم قالوا لقومهم: ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [إبراهيم: 12]، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24] فجعلهم أئمة بالصبر واليقين، فبذلك تنال الإمامة في الدين.



والخطأ يحصل في هذا إما بسبب جزع المظلوم، أو بسبب قلة صبره، أو ضعف رأيه فإنّه قد يظن أن القتال، أو نحوه في الفتنة يدفع الظلم عنه، ولا يدري أنه يضاعفه ويزيد الشر كما هو الواقع.



والمظلوم وإن كان مأذونا له في دفع الظلم عنه، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشورى: 41] فذلك مقيد بشرطين أحدهما القدرة على ذلك، فإنّه إذا كان غير قادر زاد ظلمه.



والثاني أن لا يتعدى كما قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل: 126- 127] فأخبر تعالى أن الانتصار جائز لمن يقدر عليه، ولا يعتدي، وأن الصبر أفضل، فإذا لم يتوافر الشرطان لم يجز.



وهذا كله إذا لم يكن الباغي الظالم هو الإمام الذي له قوة، وأتباع، فإذا كان هو لم يجز الانتصار والانتقام، لما يترتب على ذلك من الشر العريض، والفتنة التي فيها من الضرر والفساد أضعاف ما في الانتصار من المصلحة ودفع الظلم.



ولهذا جاءت النصوص عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في النهي عن قتال الأئمة الجائرين الظالمين. ففي صحيح مسلم والترمذي أن سلمة بن يزيد الجعفي سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألون حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا، فأعرض عنه مرارا – وهو يعيد السؤال- ثم قال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم )).



وفي الصحيحين عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((إنها ستكون أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك ذلك منا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم)).



وفيهما أيضاً عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: ((وعلى المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة)).



وفي صحيح مسلم والنسائي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ((عليك السمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك)).



وفي الصحيحين، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من كره من أميره شيئا فليصبر، فإنّه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية)).