بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:
فقد خلق الله الحياة الدنيا لحكمة ذكرها في كتابه حيث قال: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور) [الملك:2]. فهذه الحياة هي دار ابتلاء حيث يبتلي الله عباده بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، فمن صدق بالرسل وعمل بما في الكتب كان من أهل الجنة ومن أهل السعادة ومن كذب كان من أهل الشقاء وأهل النار. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما يعمله الناس أهو أمر قد قضي وفرغ منه أم أمر مستأنف ، فقال بل أمر قد قضي وفرغ منه ، فقالوا : ففيم العمل يا رسول الله ؟ فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له ". وقد قال الله تعالى: (إنَّ سعيكم لشتّى، فأمّا من أعطى واتّقى وصدَّق بالحُسنى فسنيسّره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذّب بالحسنى فسنيسّره للعُسرى) [الليل: 4-10]. فعلى كل أحد أن يعمل ويبحث عن مواطن الهداية ويدعو الله أن يرزقه الثبات على الدين، وأن يعلم أن الله تعالى قد خلق الخلق وهو يعلم أرزاقهم وآجالهم وماهم عاملون، ونحن نرى أكثر الناس يستشكلون أمر السعادة والشقاوة، ولايستشكلون أمر الرزق ونحوه، وهي من باب واحد من جهة خفائها عن الخلق وأن علم الله قد سبق فيها. والواجب أن نثق بحكمة الله وعدله، وأنه لايعذب أحد بغير ذنب استحقه وأنه يعفو عن كثير. وقاعدة ذلك التسليم لأمر الله ، مابلغته عقولنا وما قصرت عن فهمه، وأن العجز والقصوروالخلل فينا لافي حكمة الله تعالى، بل هو سبحانه : (لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسئَلون) [الأنبياء: 23]. والله أعلم.
الأعمال بالخواتيم
الدكتور عصام بن هاشم الجفري
الحمدلله العلي الجليل العظيم،رب السموات والأرض ورب العرش الكريم،أحمده سبحانه وأشكره على خيره العميم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له جعل الأعمال بالخواتيم وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.أمابعد:فيا عباد الله هذا ربكم يناديكم فارعوا سمعكم وقلوبكم للنداء الإلهي العظيم قال الله في محكم التنزيل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}(1).
أخي المؤمن بالله واليوم الآخر لحظة حاسمة في حياتك كم يغفل عنها الغافلون، لحظة قد تقودك لسعادة سرمدية لاشقاء بعدها أو قد تقودك عياذاً بالله إلى شقاء ونار تلظى، أتدري ما هي تلك اللحظة؟. إنها لحظة ختام حياتك الدنيا،إنها اللحظة التي تفارق فيها مالك وعمارتك وسياراتك وجاهك ومنصبك إلى فراقاً ليس بعده لقاء،إنها لحظة فراق أهلك وأولادك ولاتدري هل يجمعك بهم لقاء أم لا؟.استمع أخي معي لنبيك وحبيبك فكأني به وهو آخذ بإذنك ليسكب فيها كلمات ناصح مشفق عليك فيقول(إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ))(2).
هل سمعتها جيداً الأعمال بالخواتيم ولاتدري أخي متى تكون خاتمتك، فأسأل نفسك ماذا عملت لها ؟.
هل أدلك على طريق لحسن الخاتمة احرص على أن تختم أمورك دوماً بخير فهاهو ربك وخالقك قد قدم لك تدريب عملي على ذلك فسن لك إن تختم صلاتك بالاستغفار ، وأن تختم طعامك بالحمد، وأن تختم شهر رمضان بالزكاة والتكبير. وها أنت أخي تعيش ختام هذا الشهر الكريم شهر رمضان، ها أنت وقد خصك الله بمزية يتمناها جميع المسلمين فجمع لك بين فضل الزمان وفضل المكان فبما أنت خاتم شهرك؟.أخي الحبيب أرجوك من أعماق قلبي فاستجب لرجائي أرجوك أن لا تكون ممن أفسد عليهم عدوهم إبليس وتعلقهم بالدنيا خاتمة شهرهم، فقضوا ليالي العشر الفاضلات في الانشغال بملابس العيد وفرش العيد وأكل العيد، وكم والله من الناس أشترى ثوب العيد فما لبسه وإنما ألبس بدلاً عنه ثياباً لا أكمام لها ألبس كفنه وأودع في قبره، كم والله ممن اجتهد في اختيار فرش العيد فما وطأته قدماه، بل سار إلى غيره وهو سار إلى قبره ليفرش له فراشاً من الجنة أو فراشاً من النار نعوذ بالله من سوء الخاتمة،أخي الحبيب إني أرجوك ثم أرجوك ثم أرجوك أن تغتنم هذه العشر، فمتى ما أحييت لياليها كاملة أدركت ليلة القدر قطعاً وما أسعدك إن فزت بقيامها، أتدري ماذا تكسب تكسب ما يزيد على ثلاث وثمانين عاماً في موازين حسناتك، تخيل نفسك أخي وقد قامت القيامة وزلزلت الأرض وخرج الناس من قبورهم فزعين مذعورين وقد اجتمعوا في أرض المحشر ونصبت الموازين فجاء قيامك لليلة القدر ليضع في موازين حسناتك أعمالاً صالحة لما يزيد على ثلاث وثمانين عاماً بيضاء نقية خالية من الشوائب فيثقل ميزانك وتفوز وتفوز وتفوز بجنة عرضها السموات والأرض، وحولك المفرطون يعضون أصابع الندم على تفريطهم وانشغالهم بالدنيا وبالشهوات والملهيات، الله أكبر كأني بك وقتها وقد طرت فرحاً برحمة ربك، فقلي بربك أي دنيا تعدل فرحتك تلك؟. أي ملابس أو فرش أو سهرات رمضانية أو قنوات فضائية تعدل فرحتك تلك؟.فتعال أخي أرجوك واستجب دعوتي لك لنعيش تلك الفرحة، قلي بربك ألست في شوق لتلك الفرحة الغامرة؟. فلما لاتخطو نحوها فلا زال في العشر بقية ولازالت الفرصة مهيئة، فما يدريك أن تصيبك نفحة ربانية فتسعد بها في الدنيا والآخرة؟.
إذا كان نبيك وقدوتك وحبيبك خير البشرية صلى الله عليه وسلم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يحرص عليها في كل عام فيعتكف عشر أيام بلياليها في المسجد ينقطع عن الدنيا بأسرها،بل بلغ من شدة حرصه صلوات ربي وسلامه عليه أن اعتكف في عام أكثر من عشرين يوماً أخرج الإمام البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ انْطَلَقْتُ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَقُلْتُ أَلَا تَخْرُجُ بِنَا إِلَى النَّخْلِ نَتَحَدَّثُ فَخَرَجَ فَقَالَ قُلْتُ حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قَالَ اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ الْأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ: ((مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلْيَرْجِعْ فَإِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَإِنِّي نُسِّيتُهَا وَإِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي وِتْرٍ وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ وَكَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ جَرِيدَ النَّخْلِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا فَجَاءَتْ قَزْعَةٌ فَأُمْطِرْنَا فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالْمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَرْنَبَتِهِ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ))(3). أليس لك في رسولك قدوة؟.فاحرص أخي رعاك الله على ختام شهرك ولا تكن من الغافلين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ()وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ()لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ()تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ()سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.
الخطبة الثانية
الحمدلله {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أحمده سبحانه وأشكره أن من علينا ببلوغ العشر الآواخر من رمضان ووفقنا فيه للصيام والقيام ونسأله جل قدره أن يوفقنا للاستقامة على دينه على الدوام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .أما بعد:فاعلموا رحمني الله وإياكم أن ربكم وخالقكم جل في علاه ختم لكم شهركم بخير خاتمة؛ فشرع لكم في ختام شهركم أعمالاً عظيمة تتناسب مع عظم شهركم فقال في محكم التنزيل: {.. وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(4).فمن لحظة ثبوت عيد الفطر يسن للرجال والنساء التكبير يجهر به الرجال ويرفعوا أصواتهم به في البيوت والمساجد والأسواق،كما شرع لكم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، تجب بغروب شمس ليلة العيد على الرجل وكل من تلزمه مؤونته صغيراً كان أم كبيراً .من غالب قوت أهل البلد، فاحرصوا رحمني الله وإياكم أن تجتهدوا في طهرة صيامكم بإخراج الجيد من الطعام لا بالبحث عن الرخيص ولو كان رديئاً،وكل على قدر طاقته،كما شرع لكم ربكم صلاة العيد وهي فرحة اجتماعية عظيمة ، يسن للرجل أن يخرج فيها بأكمل زينته، بينما على المرأة أن تخرج لها وهي غير متزينة ولا متعطرة ولا مزاحمة للرجال، كما يسن للمسلم ذكراً كان أو أنثى أن يفطر يوم العيد قبل الخروج لصلاة العيد على تمرات وتراً ، ليظهر كمال الطاعة لربه بالصيام يوم أن أمره بالصوم وبالفطر يوم أن أمره بالفطر، ويحرم صوم يوم العيد، فاحرصوا رحمني الله وإياكم على حسن ختام شهركم ولا تختموه كما يفعل أهل الغفلة عن الله بالموسيقى والغناء وارتكاب المنكرات في يوم العيد بحجة أنه يوم فرحة ولامانع من اللهو المباح،فوالله إن القلب المؤمن لا يفرح إلا بما يرضي الله قال الله جل في علاه : {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}(5).
--------------------
(1) لقمان: 33.(2)البخاري،القدر،ح(6117).(3)البخاري ،الأذان،ح(771).(4) البقرة: 185.(5) يونس:58.
الأعمال بخواتيمها
حياة الإنسان في هذه الدنيا محدودة، وأنفاسه معدودة محسوبة، آماله تُطوى، وعمره يفنى، وبدنه تحت الثرى يبلى، يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: «ما منكم من أحد إلا وهو ضيف، وماله عارية، فالضيف مرتحل، والعارية مردودة».
فالكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والسعيد من ختم له بخير، والشقي من ختم له بسوء وشقاء. فمن عاش على شيء مات عليه، والأعمال بخواتيمها.
فمن وفقه الله في حياته بالاستقامة على طاعته والإقبال على الأعمال الصالحة، والإعراض عما يغضب الله سبحانه، واستمر في ذلك إلى آخر حياته، ثبته الله عند مماته ورزقه حسن الخاتمة، وبشرته ملائكة الرحمة برضا الله واستحقاق كرامته وجنته، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]. وقد صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أراد الله بعبد, خيراً استعمله قبل موته»، فسأله رجل من القوم: ما استعمله؟ قال: «يهديه الله عزّ وجلّ إلى العمل الصالح قبل موته ثم يقبضه على ذلك» رواه الإمام أحمد في مسنده.
أما من أعرض عن ربه، وأغفل قلبه عن ذكره، وعطل جوارحه عن عبادته وطاعته، وعكف على معصيته حتى لقي الله على تلك الحالة السيئة فسيكون أمره فُرُطاً، ويظفر به الشيطان عند موته وتكون سوء خاتمته، فتبشره ملائكة العذاب بسخط الله وعقابه. فقد جاء في الصحيحين قوله -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن إذا بُشّر برحمة الله ورضوانه وجنّته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بُشّر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه».
يقول ابن كثير: «إن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت مع خذلان الشيطان له فيجتمع عليه الخذلان مع ضعف الإيمان فيقع في سوء الخاتمة، فيكون ممن قال الله فيه: ﴿ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان: 29].
من أجل ذلك مَزَّق الخوف من سوء الخاتمة قلوبَ السلف الصالح والمؤمنين والصادقين، وخافوا أن تخذلهم ذنوبهم عند الموت فَتحُول بينهم وبين حسن الخاتمة، علموا أن العبرة بالخواتيم وأن الخواتيم ميراث السوابق وكل ذلك سبق في الكتاب السابق، فأظمؤوا نهارهم وأسهروا ليلهم وأطالوا سجودهم وبكاءهم. ورحم الله الحسن البصري حيث يقول: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وَجِلٌ خائف والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن»... فكيف يأمن المؤمن من عذاب الله وهو يعلم أن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء ثَبّته، وإن شاء قَلَبَه؟ وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون: بماذا يُخْتَم لنا؟ وقلوب المقربين معلقة بالسوابق يقولون: ماذا سبق لنا؟
وفي حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» رواه مسلم.
وبكى بعض الصحابة عند موته فسئل عن ذلك فقال: «سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الله قبض خلقه قبضتين فقال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار، ولا أدري في أيٍّ من القبضتين كنت». وعندما كان معاذ بن جبل على فراش الموت قال لإخوانه من الصحابة: انظروا هل أصبح الصباح؟ قالوا: لا، قال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، ثم بكى وقال: يا رب إنك تعلم أني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك.
ويقول المزني: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقلت له: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت عن الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنيّة شارباً، ولعملي مفارقاً، وعلى الله وارداً، ثم بكى وقال: لا أدري أتصير روحي إلى الجنة فأُهنّيها، أم إلى النار فأُعزّيها؟!!
ولما حضرت الإمام الصالح محمد بن سيرين الوفاة بكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لتفريطي في الأيام الخالية، وقلة عملي للجنة العالية، وما ينجيني من النار الحامية.
هكذا كان حال سلفنا الصالح والمؤمنين والعارفين الذين عاشوا على طاعة الله وماتوا على ذكره، فكيف حالنا نحن؟ نحن الذين نعصي الله ونأمن من مكره، فأين الخوف من سوء الخاتمة؟ وأين الاستعداد لحسن الخاتمة؟ كيف نأمن من سوء الخاتمة وقد خُتم بالسوء لِبعض مَن بايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجاهد وقاتل وأبلى بلاءً حسناً، استعجل الموت فطعن نفسه بسيفه ليُريح نفسه من آلام جُرحٍ أصابه... فمات، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «هو في النار» رواه البخاري ومسلم.
فمن لم يتقطّع قلبه حسرات على ما فرط في حياته سيتقطع قلبه عند وفاته ويستحق قوله تعالى: ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [التوبة: 67]!
فليكن الخوف من سوء الخاتمة نُصْب أعيننا، وليكن باعثاً لنا على الاستزادة من الطاعة والعمل الصالح، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» رواه الترمذي.
لنكن ممن يحظى بحسن الخاتمة، من الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. لنتقِ الله ونبتعد عن كل ما يغضبه، لنطهر قلوبنا من الرياء والعُجْب والكبر والحسد والحقد والضغينة والبغضاء، لنطهر ألسنتنا من الكذب والغيبة والنميمة والبهتان، حتى نكون ممن يبشَّر بالنجاة ويحب لقاء الله فيحب الله لقاءه.
نسأل الله أن يجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاه، وأن يكون آخر كلامنا عند مماتنا «لا إله إلا الله».
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:
فقد خلق الله الحياة الدنيا لحكمة ذكرها في كتابه حيث قال: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور) [الملك:2]. فهذه الحياة هي دار ابتلاء حيث يبتلي الله عباده بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، فمن صدق بالرسل وعمل بما في الكتب كان من أهل الجنة ومن أهل السعادة ومن كذب كان من أهل الشقاء وأهل النار. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما يعمله الناس أهو أمر قد قضي وفرغ منه أم أمر مستأنف ، فقال بل أمر قد قضي وفرغ منه ، فقالوا : ففيم العمل يا رسول الله ؟ فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له ". وقد قال الله تعالى: (إنَّ سعيكم لشتّى، فأمّا من أعطى واتّقى وصدَّق بالحُسنى فسنيسّره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذّب بالحسنى فسنيسّره للعُسرى) [الليل: 4-10]. فعلى كل أحد أن يعمل ويبحث عن مواطن الهداية ويدعو الله أن يرزقه الثبات على الدين، وأن يعلم أن الله تعالى قد خلق الخلق وهو يعلم أرزاقهم وآجالهم وماهم عاملون، ونحن نرى أكثر الناس يستشكلون أمر السعادة والشقاوة، ولايستشكلون أمر الرزق ونحوه، وهي من باب واحد من جهة خفائها عن الخلق وأن علم الله قد سبق فيها. والواجب أن نثق بحكمة الله وعدله، وأنه لايعذب أحد بغير ذنب استحقه وأنه يعفو عن كثير. وقاعدة ذلك التسليم لأمر الله ، مابلغته عقولنا وما قصرت عن فهمه، وأن العجز والقصوروالخلل فينا لافي حكمة الله تعالى، بل هو سبحانه : (لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسئَلون) [الأنبياء: 23]. والله أعلم.
الأعمال بالخواتيم
الدكتور عصام بن هاشم الجفري
الحمدلله العلي الجليل العظيم،رب السموات والأرض ورب العرش الكريم،أحمده سبحانه وأشكره على خيره العميم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له جعل الأعمال بالخواتيم وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.أمابعد:فيا عباد الله هذا ربكم يناديكم فارعوا سمعكم وقلوبكم للنداء الإلهي العظيم قال الله في محكم التنزيل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}(1).
أخي المؤمن بالله واليوم الآخر لحظة حاسمة في حياتك كم يغفل عنها الغافلون، لحظة قد تقودك لسعادة سرمدية لاشقاء بعدها أو قد تقودك عياذاً بالله إلى شقاء ونار تلظى، أتدري ما هي تلك اللحظة؟. إنها لحظة ختام حياتك الدنيا،إنها اللحظة التي تفارق فيها مالك وعمارتك وسياراتك وجاهك ومنصبك إلى فراقاً ليس بعده لقاء،إنها لحظة فراق أهلك وأولادك ولاتدري هل يجمعك بهم لقاء أم لا؟.استمع أخي معي لنبيك وحبيبك فكأني به وهو آخذ بإذنك ليسكب فيها كلمات ناصح مشفق عليك فيقول(إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ))(2).
هل سمعتها جيداً الأعمال بالخواتيم ولاتدري أخي متى تكون خاتمتك، فأسأل نفسك ماذا عملت لها ؟.
هل أدلك على طريق لحسن الخاتمة احرص على أن تختم أمورك دوماً بخير فهاهو ربك وخالقك قد قدم لك تدريب عملي على ذلك فسن لك إن تختم صلاتك بالاستغفار ، وأن تختم طعامك بالحمد، وأن تختم شهر رمضان بالزكاة والتكبير. وها أنت أخي تعيش ختام هذا الشهر الكريم شهر رمضان، ها أنت وقد خصك الله بمزية يتمناها جميع المسلمين فجمع لك بين فضل الزمان وفضل المكان فبما أنت خاتم شهرك؟.أخي الحبيب أرجوك من أعماق قلبي فاستجب لرجائي أرجوك أن لا تكون ممن أفسد عليهم عدوهم إبليس وتعلقهم بالدنيا خاتمة شهرهم، فقضوا ليالي العشر الفاضلات في الانشغال بملابس العيد وفرش العيد وأكل العيد، وكم والله من الناس أشترى ثوب العيد فما لبسه وإنما ألبس بدلاً عنه ثياباً لا أكمام لها ألبس كفنه وأودع في قبره، كم والله ممن اجتهد في اختيار فرش العيد فما وطأته قدماه، بل سار إلى غيره وهو سار إلى قبره ليفرش له فراشاً من الجنة أو فراشاً من النار نعوذ بالله من سوء الخاتمة،أخي الحبيب إني أرجوك ثم أرجوك ثم أرجوك أن تغتنم هذه العشر، فمتى ما أحييت لياليها كاملة أدركت ليلة القدر قطعاً وما أسعدك إن فزت بقيامها، أتدري ماذا تكسب تكسب ما يزيد على ثلاث وثمانين عاماً في موازين حسناتك، تخيل نفسك أخي وقد قامت القيامة وزلزلت الأرض وخرج الناس من قبورهم فزعين مذعورين وقد اجتمعوا في أرض المحشر ونصبت الموازين فجاء قيامك لليلة القدر ليضع في موازين حسناتك أعمالاً صالحة لما يزيد على ثلاث وثمانين عاماً بيضاء نقية خالية من الشوائب فيثقل ميزانك وتفوز وتفوز وتفوز بجنة عرضها السموات والأرض، وحولك المفرطون يعضون أصابع الندم على تفريطهم وانشغالهم بالدنيا وبالشهوات والملهيات، الله أكبر كأني بك وقتها وقد طرت فرحاً برحمة ربك، فقلي بربك أي دنيا تعدل فرحتك تلك؟. أي ملابس أو فرش أو سهرات رمضانية أو قنوات فضائية تعدل فرحتك تلك؟.فتعال أخي أرجوك واستجب دعوتي لك لنعيش تلك الفرحة، قلي بربك ألست في شوق لتلك الفرحة الغامرة؟. فلما لاتخطو نحوها فلا زال في العشر بقية ولازالت الفرصة مهيئة، فما يدريك أن تصيبك نفحة ربانية فتسعد بها في الدنيا والآخرة؟.
إذا كان نبيك وقدوتك وحبيبك خير البشرية صلى الله عليه وسلم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يحرص عليها في كل عام فيعتكف عشر أيام بلياليها في المسجد ينقطع عن الدنيا بأسرها،بل بلغ من شدة حرصه صلوات ربي وسلامه عليه أن اعتكف في عام أكثر من عشرين يوماً أخرج الإمام البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ انْطَلَقْتُ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَقُلْتُ أَلَا تَخْرُجُ بِنَا إِلَى النَّخْلِ نَتَحَدَّثُ فَخَرَجَ فَقَالَ قُلْتُ حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قَالَ اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ الْأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ: ((مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلْيَرْجِعْ فَإِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَإِنِّي نُسِّيتُهَا وَإِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي وِتْرٍ وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ وَكَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ جَرِيدَ النَّخْلِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا فَجَاءَتْ قَزْعَةٌ فَأُمْطِرْنَا فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالْمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَرْنَبَتِهِ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ))(3). أليس لك في رسولك قدوة؟.فاحرص أخي رعاك الله على ختام شهرك ولا تكن من الغافلين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ()وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ()لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ()تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ()سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.
الخطبة الثانية
الحمدلله {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أحمده سبحانه وأشكره أن من علينا ببلوغ العشر الآواخر من رمضان ووفقنا فيه للصيام والقيام ونسأله جل قدره أن يوفقنا للاستقامة على دينه على الدوام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .أما بعد:فاعلموا رحمني الله وإياكم أن ربكم وخالقكم جل في علاه ختم لكم شهركم بخير خاتمة؛ فشرع لكم في ختام شهركم أعمالاً عظيمة تتناسب مع عظم شهركم فقال في محكم التنزيل: {.. وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(4).فمن لحظة ثبوت عيد الفطر يسن للرجال والنساء التكبير يجهر به الرجال ويرفعوا أصواتهم به في البيوت والمساجد والأسواق،كما شرع لكم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، تجب بغروب شمس ليلة العيد على الرجل وكل من تلزمه مؤونته صغيراً كان أم كبيراً .من غالب قوت أهل البلد، فاحرصوا رحمني الله وإياكم أن تجتهدوا في طهرة صيامكم بإخراج الجيد من الطعام لا بالبحث عن الرخيص ولو كان رديئاً،وكل على قدر طاقته،كما شرع لكم ربكم صلاة العيد وهي فرحة اجتماعية عظيمة ، يسن للرجل أن يخرج فيها بأكمل زينته، بينما على المرأة أن تخرج لها وهي غير متزينة ولا متعطرة ولا مزاحمة للرجال، كما يسن للمسلم ذكراً كان أو أنثى أن يفطر يوم العيد قبل الخروج لصلاة العيد على تمرات وتراً ، ليظهر كمال الطاعة لربه بالصيام يوم أن أمره بالصوم وبالفطر يوم أن أمره بالفطر، ويحرم صوم يوم العيد، فاحرصوا رحمني الله وإياكم على حسن ختام شهركم ولا تختموه كما يفعل أهل الغفلة عن الله بالموسيقى والغناء وارتكاب المنكرات في يوم العيد بحجة أنه يوم فرحة ولامانع من اللهو المباح،فوالله إن القلب المؤمن لا يفرح إلا بما يرضي الله قال الله جل في علاه : {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}(5).
--------------------
(1) لقمان: 33.(2)البخاري،القدر،ح(6117).(3)البخاري ،الأذان،ح(771).(4) البقرة: 185.(5) يونس:58.
الأعمال بخواتيمها
حياة الإنسان في هذه الدنيا محدودة، وأنفاسه معدودة محسوبة، آماله تُطوى، وعمره يفنى، وبدنه تحت الثرى يبلى، يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: «ما منكم من أحد إلا وهو ضيف، وماله عارية، فالضيف مرتحل، والعارية مردودة».
فالكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والسعيد من ختم له بخير، والشقي من ختم له بسوء وشقاء. فمن عاش على شيء مات عليه، والأعمال بخواتيمها.
فمن وفقه الله في حياته بالاستقامة على طاعته والإقبال على الأعمال الصالحة، والإعراض عما يغضب الله سبحانه، واستمر في ذلك إلى آخر حياته، ثبته الله عند مماته ورزقه حسن الخاتمة، وبشرته ملائكة الرحمة برضا الله واستحقاق كرامته وجنته، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]. وقد صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أراد الله بعبد, خيراً استعمله قبل موته»، فسأله رجل من القوم: ما استعمله؟ قال: «يهديه الله عزّ وجلّ إلى العمل الصالح قبل موته ثم يقبضه على ذلك» رواه الإمام أحمد في مسنده.
أما من أعرض عن ربه، وأغفل قلبه عن ذكره، وعطل جوارحه عن عبادته وطاعته، وعكف على معصيته حتى لقي الله على تلك الحالة السيئة فسيكون أمره فُرُطاً، ويظفر به الشيطان عند موته وتكون سوء خاتمته، فتبشره ملائكة العذاب بسخط الله وعقابه. فقد جاء في الصحيحين قوله -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن إذا بُشّر برحمة الله ورضوانه وجنّته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بُشّر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه».
يقول ابن كثير: «إن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت مع خذلان الشيطان له فيجتمع عليه الخذلان مع ضعف الإيمان فيقع في سوء الخاتمة، فيكون ممن قال الله فيه: ﴿ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان: 29].
من أجل ذلك مَزَّق الخوف من سوء الخاتمة قلوبَ السلف الصالح والمؤمنين والصادقين، وخافوا أن تخذلهم ذنوبهم عند الموت فَتحُول بينهم وبين حسن الخاتمة، علموا أن العبرة بالخواتيم وأن الخواتيم ميراث السوابق وكل ذلك سبق في الكتاب السابق، فأظمؤوا نهارهم وأسهروا ليلهم وأطالوا سجودهم وبكاءهم. ورحم الله الحسن البصري حيث يقول: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وَجِلٌ خائف والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن»... فكيف يأمن المؤمن من عذاب الله وهو يعلم أن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء ثَبّته، وإن شاء قَلَبَه؟ وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون: بماذا يُخْتَم لنا؟ وقلوب المقربين معلقة بالسوابق يقولون: ماذا سبق لنا؟
وفي حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» رواه مسلم.
وبكى بعض الصحابة عند موته فسئل عن ذلك فقال: «سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الله قبض خلقه قبضتين فقال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار، ولا أدري في أيٍّ من القبضتين كنت». وعندما كان معاذ بن جبل على فراش الموت قال لإخوانه من الصحابة: انظروا هل أصبح الصباح؟ قالوا: لا، قال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، ثم بكى وقال: يا رب إنك تعلم أني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك.
ويقول المزني: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقلت له: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت عن الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنيّة شارباً، ولعملي مفارقاً، وعلى الله وارداً، ثم بكى وقال: لا أدري أتصير روحي إلى الجنة فأُهنّيها، أم إلى النار فأُعزّيها؟!!
ولما حضرت الإمام الصالح محمد بن سيرين الوفاة بكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لتفريطي في الأيام الخالية، وقلة عملي للجنة العالية، وما ينجيني من النار الحامية.
هكذا كان حال سلفنا الصالح والمؤمنين والعارفين الذين عاشوا على طاعة الله وماتوا على ذكره، فكيف حالنا نحن؟ نحن الذين نعصي الله ونأمن من مكره، فأين الخوف من سوء الخاتمة؟ وأين الاستعداد لحسن الخاتمة؟ كيف نأمن من سوء الخاتمة وقد خُتم بالسوء لِبعض مَن بايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجاهد وقاتل وأبلى بلاءً حسناً، استعجل الموت فطعن نفسه بسيفه ليُريح نفسه من آلام جُرحٍ أصابه... فمات، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «هو في النار» رواه البخاري ومسلم.
فمن لم يتقطّع قلبه حسرات على ما فرط في حياته سيتقطع قلبه عند وفاته ويستحق قوله تعالى: ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [التوبة: 67]!
فليكن الخوف من سوء الخاتمة نُصْب أعيننا، وليكن باعثاً لنا على الاستزادة من الطاعة والعمل الصالح، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» رواه الترمذي.
لنكن ممن يحظى بحسن الخاتمة، من الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. لنتقِ الله ونبتعد عن كل ما يغضبه، لنطهر قلوبنا من الرياء والعُجْب والكبر والحسد والحقد والضغينة والبغضاء، لنطهر ألسنتنا من الكذب والغيبة والنميمة والبهتان، حتى نكون ممن يبشَّر بالنجاة ويحب لقاء الله فيحب الله لقاءه.
نسأل الله أن يجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاه، وأن يكون آخر كلامنا عند مماتنا «لا إله إلا الله».