بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله
الأنبياء معصومون من الكبائر ومن الخطأ أو التقصير في التبليغ ، واختُلِف في العصمة من الصغائر وعموم الخطأ الذي يقع لبني آدم ، كما اختُلِف في عصمتهم قبل النبوة .
قال الإمام السمعاني في تفسيره : واعلم أن الأنبياء معصومون من الكبائر ، فأما الخطايا والصغائر فتجوز عليهم .
وقال ابن عطية : وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ ، ومن الكبائر ، ومن الصغائر التي فيها رذيلة ، واختلف في غير ذلك من الصغائر ، والذي أقول به أنهم معصومون من الجميع . اهـ . وقال : والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا . اهـ .
وقال القرطبي : واختلف العلماء في هذا الباب ؛ هل وقع من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين صغائر من الذنوب يؤاخذون بها ويعاتبون عليها أم لا ؟ بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر ومن كل رذيلة فيها شَين ونقص إجماعا .
وقال : وقال جمهور من الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي : إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر أجمعها ؛ لأنا أُمِرْنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم أمرًا مُطْلَقا من غير التزام قرينة ، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الإقتداء بهم ، إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده مِن القُربة والإباحة ، أو الحظر أو المعصية ، ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية .
وقال : واختلفوا في الصغائر ، والذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم ، وصار بعضهم إلى تجويزها ، ولا أصل لهذه المقالة .
وقال بعض المتأخرين ممن ذهب إلى القول الأول : الذي ينبغي أن يُقال أن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها ، وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصَّلُوا منها وأشفقوا منها وتابوا ، وكل ذلك وَرَد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها ، وإن قبل ذلك آحادها ، وكل ذلك مما لا يُزْرِي بمناصبهم ، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة النُّدُور ، وعلى جهة الخطأ والنسيان ، أو تأويل دَعا إلى ذلك ؛ فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات ، وفي حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم وعُلُو أقدارهم .
وقال ابن كثير : أما الأنبياء عليهم السلام فكلهم معصومون مؤيدون من الله عز وجل ، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف . اهـ .
ومن العلماء من فرّق بين التبليغ في الأقوال وبين التبليغ في الأقوال .
قال النووي : اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلّ مَا كَانَ طَرِيقه الإِبْلاغ فِي الْقَوْل فَهُمْ مَعْصُومُونَ فِيهِ عَلَى كُلّ حَال ، وَأَمَّا مَا كَانَ طَرِيقه الإِبْلاغ فِي الْفِعْل ؛ فَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى الْعِصْمَة فِيهِ رَأْسًا ... وَذَهَبَ مُعْظَم الْمُحَقِّقِينَ وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء إِلَى جَوَاز ذَلِكَ وَوُقُوعه مِنْهُمْ ، وَهَذَا هُوَ الْحَقّ ، ثُمَّ لا بُدَّ مِنْ تَنْبِيههمْ عَلَيْهِ ... وَكَذَلِكَ لا خِلاف أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الصَّغَائِر الَّتِي تُزْرِي بِفَاعِلِهَا وَتَحُطّ مَنْزِلَته وَتُسْقِط مُرُوءَته ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوع غَيْرهَا مِنْ الصَّغَائِر مِنْهُمْ ، فَذَهَبَ مُعْظَم الْفُقَهَاء وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف إِلَى جَوَاز وُقُوعهَا مِنْهُمْ ، وَحُجَّتهمْ ظَوَاهِر الْقُرْآن وَالأَخْبَار
وقال الحافظ العراقي : فَأَمَّا الأَقْوَالُ فَهِيَ أَيْضًا عَلَى نَوْعَيْنِ :
مَا طَرِيقُهُ الْبَلاغُ ، وَهُمْ مَعْصُومُونَ فِيهِ مِنْ السَّهْوِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض . وَمَا لَيْسَ طَرِيقُهُ الْبَلاغَ مِنْ الأَخْبَارِ الَّتِي لا مُسْتَنَدَ لَهَا إلَى الأَحْكَامِ ، وَلا أَخْبَارِ الْمَعَادِ ، وَلا تُضَافُ إلَى وَحْي ، بَلْ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَأَحْوَالِ نَفْسِهِ . اهـ .
أي : أنّ هذا النوع يجوز وقوع الخطأ فيه مِن قِبَل الأنبياء ؛ لأنه لا عِصمة لهم في أمور حياتهم ولا في اجتهاداتهم .
ودليل ذلك ما جاء في أول سورة ( عبس ) ، وقوله تعالى لِنبيِّه صلى الله عليه وسلم : (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) ، وقوله تعالى : (مَا كَانَ لِنَبِيّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) . وغير ذلك .
ولذلك فإن الأنبياء يذكرون يوم القيامة ما كان منهم ، إما مع أُممهم ، وإما ما كان في حق أنفسهم .
وقد شارط نبينا صلى الله عليه وسلم ربّه تبارك وتعالى بأنه بَشَر – لا ينفكّ عن الطبيعة البشرية – وأن ما صَدَر منه في حال غضبه من سبّ أن يَجَعله ربه تبارك وتعالى أجْرا لِمن صَدَر ذلك في حقه .
فقد روى البخاري ومسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِن سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وفي صحيح مسلم من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلانِ فَكَلَّمَاهُ بِشَيْء - لا أَدْرِي مَا هُوَ - فَأَغْضَبَاهُ ، فَلَعَنَهُمَا وَسَبَّهُمَا ، فَلَمَّا خَرَجَا قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَصَابَ مِنْ الْخَيْرِ شَيْئًا مَا أَصَابَهُ هَذَانِ . قَالَ : وَمَا ذَاكِ ؟ قَالَتْ : قُلْتُ : لَعَنْتَهُمَا وَسَبَبْتَهُمَا . قَالَ : أَوَ مَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ عَلَيْهِ رَبِّي ؟ قُلْتُ : اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا .
والله تعالى أعلم .
المجيب الشيخ/ عبدالرحمن السحيم رحمه الله تعالى
عضو مكتب الدعوة والإرشاد
قد أجمع المسلمون قاطبة على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولاسيما خاتمهم محمد معصومون من الخطأ فيما يبلغونه عن الله عز وجل من أحكام؛ كما قال عز وجل: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى[1]، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم معصوم في كل ما يبلغ عن الله من الشرائع قولا وعملا وتقريرا، هذا لا نزاع فيه بين أهل العلم، وقد ذهب جمهور أهل العلم أيضا إلى أنه معصوم من المعاصي الكبائر دون الصغائر، وقد تقع منه الصغيرة لكن لا يقر عليها، بل ينبه عليها فيتركها، أما من أمور الدنيا فقد يقع الخطأ ثم ينبه على ذلك. كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم لما مر على جماعة يلقحون النخل فقال: ((ما أظنه يضره لو تركتموه))، فلما تركوه صار شيصا، فأخبروه فقال عليه الصلاة والسلام: ((إنما قلت ذلك ظنا مني وأنتم أعلم بأمر دنياكم، أما ما أخبركم به عن الله عز وجل فإني لم أكذب على الله)) رواه مسلم في الصحيح، فبين عليه الصلاة والسلام أن الناس أعلم بأمور دنياهم كيف يلقحون النخل وكيف يغرسون وكيف يبذرون ويحصدون.
أما ما يخبر به الأنبياء عن الله سبحانه وتعالى فإنهم معصومون من ذلك، فقول من قال: إن النبي يخطئ فهذا قول باطل، ولا بد من التفصيل كما ذكرنا، وقول مالك رحمه الله: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، قول صحيح تلقاه العلماء بالقبول، ومالك رحمه الله من أفضل علماء المسلمين، وهو إمام دار الهجرة في زمانه في القرن الثاني، وكلامه هذا كلام صحيح تلقاه العلماء بالقبول، فكل واحد من أفراد العلماء يرد ويرد عليه، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو لا يقول إلا الحق، فليس يرد عليه، بل كلامه كله حق فيما يبلغ عن الله تعالى، وفيما يخبر به جازما به أو يأمر به أو يدعو إليه.
أما حديث الذباب فهو حديث صحيح رواه البخاري في صحيحه، وقد أخبر به النبي جازما به، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء)) وله شواهد من حديث أبي سعيد الخدري وحديث أنس بن مالك، وكلها صحيحة، وقد تلقتها الأمة بالقبول ومن طعن فيها فهو غالط وجاهل لا يجوز أن يعول عليه في ذلك، ومن قال: إنه من أمور الدنيا وتعلق بحديث: ((أنتم أعلم بشئون دنياكم)) فقد غلط؛ لأن الرسول جزم بهذا ورتب عليه حكما شرعيا ولا قال أظن، بل جزم وأمر، وهذا فيه تشريع من الرسول؛ لأنه قال: ((إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه))، فهذا أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم وتشريع للأمة، وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. والله ولي التوفيق. [1] سورة النجم الآيات 1 – 5.
الأنبياء معصومون من الكبائر ومن الخطأ أو التقصير في التبليغ ، واختُلِف في العصمة من الصغائر وعموم الخطأ الذي يقع لبني آدم ، كما اختُلِف في عصمتهم قبل النبوة .
قال الإمام السمعاني في تفسيره : واعلم أن الأنبياء معصومون من الكبائر ، فأما الخطايا والصغائر فتجوز عليهم .
وقال ابن عطية : وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ ، ومن الكبائر ، ومن الصغائر التي فيها رذيلة ، واختلف في غير ذلك من الصغائر ، والذي أقول به أنهم معصومون من الجميع . اهـ . وقال : والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا . اهـ .
وقال القرطبي : واختلف العلماء في هذا الباب ؛ هل وقع من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين صغائر من الذنوب يؤاخذون بها ويعاتبون عليها أم لا ؟ بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر ومن كل رذيلة فيها شَين ونقص إجماعا .
وقال : وقال جمهور من الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي : إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر أجمعها ؛ لأنا أُمِرْنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم أمرًا مُطْلَقا من غير التزام قرينة ، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الإقتداء بهم ، إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده مِن القُربة والإباحة ، أو الحظر أو المعصية ، ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية .
وقال : واختلفوا في الصغائر ، والذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم ، وصار بعضهم إلى تجويزها ، ولا أصل لهذه المقالة .
وقال بعض المتأخرين ممن ذهب إلى القول الأول : الذي ينبغي أن يُقال أن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها ، وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصَّلُوا منها وأشفقوا منها وتابوا ، وكل ذلك وَرَد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها ، وإن قبل ذلك آحادها ، وكل ذلك مما لا يُزْرِي بمناصبهم ، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة النُّدُور ، وعلى جهة الخطأ والنسيان ، أو تأويل دَعا إلى ذلك ؛ فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات ، وفي حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم وعُلُو أقدارهم .
وقال ابن كثير : أما الأنبياء عليهم السلام فكلهم معصومون مؤيدون من الله عز وجل ، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف . اهـ .
ومن العلماء من فرّق بين التبليغ في الأقوال وبين التبليغ في الأقوال .
قال النووي : اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلّ مَا كَانَ طَرِيقه الإِبْلاغ فِي الْقَوْل فَهُمْ مَعْصُومُونَ فِيهِ عَلَى كُلّ حَال ، وَأَمَّا مَا كَانَ طَرِيقه الإِبْلاغ فِي الْفِعْل ؛ فَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى الْعِصْمَة فِيهِ رَأْسًا ... وَذَهَبَ مُعْظَم الْمُحَقِّقِينَ وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء إِلَى جَوَاز ذَلِكَ وَوُقُوعه مِنْهُمْ ، وَهَذَا هُوَ الْحَقّ ، ثُمَّ لا بُدَّ مِنْ تَنْبِيههمْ عَلَيْهِ ... وَكَذَلِكَ لا خِلاف أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الصَّغَائِر الَّتِي تُزْرِي بِفَاعِلِهَا وَتَحُطّ مَنْزِلَته وَتُسْقِط مُرُوءَته ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوع غَيْرهَا مِنْ الصَّغَائِر مِنْهُمْ ، فَذَهَبَ مُعْظَم الْفُقَهَاء وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف إِلَى جَوَاز وُقُوعهَا مِنْهُمْ ، وَحُجَّتهمْ ظَوَاهِر الْقُرْآن وَالأَخْبَار
وقال الحافظ العراقي : فَأَمَّا الأَقْوَالُ فَهِيَ أَيْضًا عَلَى نَوْعَيْنِ :
مَا طَرِيقُهُ الْبَلاغُ ، وَهُمْ مَعْصُومُونَ فِيهِ مِنْ السَّهْوِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض . وَمَا لَيْسَ طَرِيقُهُ الْبَلاغَ مِنْ الأَخْبَارِ الَّتِي لا مُسْتَنَدَ لَهَا إلَى الأَحْكَامِ ، وَلا أَخْبَارِ الْمَعَادِ ، وَلا تُضَافُ إلَى وَحْي ، بَلْ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَأَحْوَالِ نَفْسِهِ . اهـ .
أي : أنّ هذا النوع يجوز وقوع الخطأ فيه مِن قِبَل الأنبياء ؛ لأنه لا عِصمة لهم في أمور حياتهم ولا في اجتهاداتهم .
ودليل ذلك ما جاء في أول سورة ( عبس ) ، وقوله تعالى لِنبيِّه صلى الله عليه وسلم : (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) ، وقوله تعالى : (مَا كَانَ لِنَبِيّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) . وغير ذلك .
ولذلك فإن الأنبياء يذكرون يوم القيامة ما كان منهم ، إما مع أُممهم ، وإما ما كان في حق أنفسهم .
وقد شارط نبينا صلى الله عليه وسلم ربّه تبارك وتعالى بأنه بَشَر – لا ينفكّ عن الطبيعة البشرية – وأن ما صَدَر منه في حال غضبه من سبّ أن يَجَعله ربه تبارك وتعالى أجْرا لِمن صَدَر ذلك في حقه .
فقد روى البخاري ومسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِن سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وفي صحيح مسلم من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلانِ فَكَلَّمَاهُ بِشَيْء - لا أَدْرِي مَا هُوَ - فَأَغْضَبَاهُ ، فَلَعَنَهُمَا وَسَبَّهُمَا ، فَلَمَّا خَرَجَا قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَصَابَ مِنْ الْخَيْرِ شَيْئًا مَا أَصَابَهُ هَذَانِ . قَالَ : وَمَا ذَاكِ ؟ قَالَتْ : قُلْتُ : لَعَنْتَهُمَا وَسَبَبْتَهُمَا . قَالَ : أَوَ مَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ عَلَيْهِ رَبِّي ؟ قُلْتُ : اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا .
والله تعالى أعلم .
المجيب الشيخ/ عبدالرحمن السحيم رحمه الله تعالى
عضو مكتب الدعوة والإرشاد
قد أجمع المسلمون قاطبة على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولاسيما خاتمهم محمد معصومون من الخطأ فيما يبلغونه عن الله عز وجل من أحكام؛ كما قال عز وجل: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى[1]، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم معصوم في كل ما يبلغ عن الله من الشرائع قولا وعملا وتقريرا، هذا لا نزاع فيه بين أهل العلم، وقد ذهب جمهور أهل العلم أيضا إلى أنه معصوم من المعاصي الكبائر دون الصغائر، وقد تقع منه الصغيرة لكن لا يقر عليها، بل ينبه عليها فيتركها، أما من أمور الدنيا فقد يقع الخطأ ثم ينبه على ذلك. كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم لما مر على جماعة يلقحون النخل فقال: ((ما أظنه يضره لو تركتموه))، فلما تركوه صار شيصا، فأخبروه فقال عليه الصلاة والسلام: ((إنما قلت ذلك ظنا مني وأنتم أعلم بأمر دنياكم، أما ما أخبركم به عن الله عز وجل فإني لم أكذب على الله)) رواه مسلم في الصحيح، فبين عليه الصلاة والسلام أن الناس أعلم بأمور دنياهم كيف يلقحون النخل وكيف يغرسون وكيف يبذرون ويحصدون.
أما ما يخبر به الأنبياء عن الله سبحانه وتعالى فإنهم معصومون من ذلك، فقول من قال: إن النبي يخطئ فهذا قول باطل، ولا بد من التفصيل كما ذكرنا، وقول مالك رحمه الله: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، قول صحيح تلقاه العلماء بالقبول، ومالك رحمه الله من أفضل علماء المسلمين، وهو إمام دار الهجرة في زمانه في القرن الثاني، وكلامه هذا كلام صحيح تلقاه العلماء بالقبول، فكل واحد من أفراد العلماء يرد ويرد عليه، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو لا يقول إلا الحق، فليس يرد عليه، بل كلامه كله حق فيما يبلغ عن الله تعالى، وفيما يخبر به جازما به أو يأمر به أو يدعو إليه.
أما حديث الذباب فهو حديث صحيح رواه البخاري في صحيحه، وقد أخبر به النبي جازما به، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء)) وله شواهد من حديث أبي سعيد الخدري وحديث أنس بن مالك، وكلها صحيحة، وقد تلقتها الأمة بالقبول ومن طعن فيها فهو غالط وجاهل لا يجوز أن يعول عليه في ذلك، ومن قال: إنه من أمور الدنيا وتعلق بحديث: ((أنتم أعلم بشئون دنياكم)) فقد غلط؛ لأن الرسول جزم بهذا ورتب عليه حكما شرعيا ولا قال أظن، بل جزم وأمر، وهذا فيه تشريع من الرسول؛ لأنه قال: ((إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه))، فهذا أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم وتشريع للأمة، وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. والله ولي التوفيق. [1] سورة النجم الآيات 1 – 5.