نواقض الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم


إن مما ينبغي معرفته بعد توضيح معنى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم, وتبيين شروط الشهادة ومراتبها, أن تعرف نواقض هذا الأمر ومبطلاته حتى يحترز المسلم من الوقوع فيها، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ((كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير, وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني...)) (1) الحديث.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية) (2) .
ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أعظم هذه الأمة إيماناً لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير, وبغضهم للشر، لما علموه من حسن حال الإيمان والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي.
ولمعرفة نواقض الإيمان به صلى الله عليه وسلم نقول:
لما كان الإيمان به صلى الله عليه وسلم يعني تصديقه وتصديق ما جاء به صلى الله عليه وسلم، والانقياد له، فإن الطعن في أحد هذين الأمرين ينافي الإيمان ويناقضه. فالنواقض على هذا الاعتبار يمكن تقسيمها إلى قسمين:
القسم الأول: الطعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم.
القسم الثاني: الطعن فيما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما هو معلوم من الدين بالضرورة، إما بإنكاره أو بانتقاصه.
القسم الأول: الطعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم:
ومما يدخل تحت هذا القسم نسبة أي شيء للرسول عليه الصلاة والسلام مما يتنافى مع اصطفاء الله له لتبليغ دينه إلى عباده، فيكفر كل من طعن في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم, أو أمانته, أو عفته, أو صلاح عقله ونحو ذلك.
كما يكفر من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عابه، أو ألحق به نقصاً في نفسه, أو نسبه, أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرّض به، أو شبهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه, أو التصغير لشأنه, أو الغض منه أو العيب له، فهو ساب له, والحكم فيه حكم الساب يقتل كفراً، وكذلك من لعنه، أو دعا عليه، أو تمنى مضرة له، أو نسب إليه مالا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام, وهُجر ومنكر من القول وزور، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو تنقصه ببعض العوارض البشرية الجائزة المعهودة لديه (3) .
فالساب إن كان مسلماً فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم.
وإن كان ذمياً فإنه يقتل أيضاً في مذهب مالك وأهل المدينة, وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث, وهو المنصوص عن الشافعي نفسه كما حكاه غير واحد (4) .
وهذا الحكم على الساب والمستهزئ، يستوي فيه الجاد والهازل بدليل قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65-66].
وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر، (فالسب المقصود بطريق الأولى)، وقد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم جاداً أو هازلاً فقد كفر.
وقد رُوي عن رجال من أهل العلم منهم ابن عمر, ومحمد بن كعب, وزيد بن أسلم, وقتادة- دخل حديث بعضهم في بعض- أنه قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، فقال له عوف بن مالك: كذبت ولكنك رجل منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله, إنما كنا نلعب ونتحدث حديث الركب, نقطع به عناء الطريق.
قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن الحجارة لتنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون)) ما يلتفت إليه، ولا يزيده عليه (5) (6) .
فهؤلاء لما تنقصوا النبي صلى الله عليه وسلم حيث عابوه والعلماء من أصحابه, واستهانوا بخبره أخبر الله أنهم كفروا بذلك وإن قالوه استهزاء فكيف بما هو أغلظ من ذلك؟ (7) .
ومن الأدلة على كفر الطاعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً [الأحزاب: 57].
واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ومن طرده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافراً (8) .
وفي هذه الآية قرن الله بين أذى النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه, كما قرن في آيات أخر بين طاعته وطاعة نبيه، وفى هذا وغيره بيان لتلازم الحقين، وأن جهة حرمة الله تعالى ورسوله جهة واحدة، فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله، لأن الأمة لا يصلون ما بينهم وبين ربهم إلا بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد منهم طريق غيره, ولا سبب سواه، وقد أقامه الله مقام نفسه في أمره ونهيه, وإخباره وبيانه, فلا يجوز أن يفرق بين الله ورسوله في شيء من هذه الأمور (9) .
ومن الأدلة الواردة في السنة حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله، فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟، قال: نعم...)) الحديث (10) . فعلم من هذا الحديث أن من آذى الله ورسوله كان حقه أن يقتل كما قتل كعب بن الأشرف, والأدلة من الكتاب والسنة على هذه المسألة كثيرة ولا مجال لاستيعابها هنا.
- الإجماع: وقد أجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه، وكذلك حكى غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره.
وقال الإمام إسحاق بن راهوية أحد الأئمة الأعلام: (أجمع المسلمون على أن من سب الله، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً مما أنزل الله عز وجل، أو قتل نبياً من أنبياء الله عز وجل أنه كافر بذلك وإن كان مقراً بكل ما أنزل إليه). وقال الخطابي: (لا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله). وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم والمتنقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل, ومن شك في كفره وعذابه كفر (11) .
ومن المعلوم أن سب النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به عدة حقوق:
1- حق الله سبحانه:
من حيث كفر برسوله، وعادى أفضل أوليائه, وبارزه بالمحاربة، ومن حيث طعن في كتابه ودينه، فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة، ومن حيث طعن في ألوهيته، فإن الطعن في الرسول طعن في المرسل, وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى, وإنكار لكلامه, وأمره, وخبره, وكثير من صفاته.
2- وتعلق حق جميع المؤمنين:
من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم به، فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصاً أمته فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به، بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بواسطته وسفارته, فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم, وآبائهم, وأبنائهم, وسب جميعهم، كما أنه أحب إليهم من أنفسهم, وأولادهم, وآبائهم, والناس أجمعين.
3- وتعلق حق رسول الله صلى الله عليه وسلم به:
من حيث خصوص نفسه، فإن الإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، وأكثر مما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه، خصوصاً من يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة، فإن هتك عرضه وعلو قدره قد يكون أعظم عنده من قتله، فإن قتله لا يقدح عند الناس في نبوته ورسالته وعلو قدره كما أن موته لا يقدح في ذلك، بخلاف الوقيعة في عرضه فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النفرة عنه, وسوء الظن به ما يفسد عليهم إيمانهم, ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة... (12) .
وبهذا يعلم أن السب فيه من الأذى لله ولرسوله ولعباده المؤمنين ما ليس في غيره من الأمور كالكفر والمحاربة.
وبما تقدم ذكره من الأدلة يتضح انتقاض إيمان من طعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بسب, أو استهزاء, أو انتقاص سواء كان في ذلك جاداً أو هازلاً.
ويستثنى من ذلك المكره بدليل قوله تعالى: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل: 106] فالآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم, فوافقهم على ذلك مكرهاً وجاء معتذراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية، وروى أن مما قاله أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله ما تركت حتى سببتك, وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال: إن عادوا فعد)) (13) . وفي ذلك أنزل الله: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ، ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى، كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك، وهم يفعلون به الأفاعيل... (14) .
القسم الثاني: من نواقض الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم:
الطعن فيما أخبر به الرسول لا- مما هو معلوم من الدين بالضرورة- إما بإنكاره أو انتقاصه.
فإذا اجتمعت الشروط التالية في المنكر وهي:
أ- أن يكون ذلك الأمر المنغص من الأمور التي أجمعت عليها الأمة, وأن يكون من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة: أي أن يكون علمه منتشراً كالصلوات الخمس, وصوم شهر رمضان، وعموم رسالته (15) .
ب- أن لا يكون المنكر حديث عهد بالإسلام لا يعرف حدوده, فهذا إذا أنكر شيئاً من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة جهلاً به فإنه لا يكفر (16) .
ج- أن لا يكون المُنكِر مكرهاً على ذلك، فإن المكره له حكم آخر كما قدمنا ذلك.
والمُنكِر في هذه الحالة يحكم بكفره وانتقاض إيمانه. والمنتقص لأمور الدين إذا كان غير مكره فإنه يكفر سواء كان جاداً في ذلك أم هازلاً.
والأمثلة على هذا القسم كثيرة جداً نذكر منها على سبيل المثال ما يختص بجانب الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
أولاً: أن يعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه, وأن حكم غيره أحسن من حكمه, كالذين يفضلون القانون الوضعي على حكم الشرع, ويصفون الشريعة الإسلامية بالقصور والرجعية وعدم مسايرة التطور، وهذا من أعظم المناقضة لشهادة أن محمداً رسول الله.
ثانياً: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فهو كافر (17) .
ثالثاً: اعتقاد الإنسان أنه يسعه الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا الأمر صورتان:
الأولى: أن لا يرى وجوب تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا وجوب طاعته فيما أمر به, وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عظيم القدر علماً وعملاً, وأنه يجوز تصديقه وطاعته, ولكنه يقول إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان المعبود واحداً, ويرى أنه تحصل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته, وهذا هو قول الفلاسفة الصابئة, وهذا القول لا ريب في كفر صاحبه، فمن نواقض الإسلام أن يعتقد الإنسان عدم كفر المشركين, ويرى صحة مذهبهم، أو يشك في كفرهم.
وهذا القول هو الذي ينادي به في وقتنا الحاضر من يدعون إلى وحدة الأديان, ويروج لهم في ذلك الماسونية اليهودية.
الثانية: من يرى طلب العلم بالله من غير خبره، أو العمل لله من غير أمره، وهؤلاء وإن كانوا يعتقدون أنه يجب تصديق الرسول أو تجب طاعته، لكنهم في سلوكهم العلمي والعملي غير سالكين هذا المسلك, بل يسلكون مسلكاً آخر إما من جهة القياس والنظر، وإما من جهة الذوق والوجدان، وإما من جهة التقليد، وما جاء عن الرسول إما أن يعرضوا عنه وإما أن يردوه إلى ما سلكوه.
وإضافة إلى هذه النواقض فإن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ينتقض أيضا بالنواقض العامة الأخرى للإسلام.
موقع درر





اكثروا قراءة الاخلاص وسبحان الله عدد ما خلق سبحان الله ملء ما خلق سبحان الله عدد ما في الأرض والسماء