بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله

الحمد لله ذي الفَضْل المبين، وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله رب العالمين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله سيِّد المرسلين، وخيرُ الأوَّلين والآخِرين، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدِّين. وبعد: لقد بيَّن القرآن الكريم أنَّه ما من رسولٍ أُرسل إلاَّ لِيُطاع ويُتَّبع؛ وهذا لقوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) [النساء: 64]، وكذلك الحال تِباعًا مع رسولنا الأكرم محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد قال الله تعالى مُخاطِبًا المؤمنين: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) [النساء: 59]، فهذا الخطاب المُوَجَّه للمؤمنين فيه أمرٌ وحثٌّ لهم بطاعته، فالآية التي ذكرتها أوَّلاً توجيهٌ عام بأنَّ الرُّسل ما بُعِثوا إلاَّ لِيَكونوا مُطاعين، يَتْبعهم النَّاس في كلِّ ما جاء به رَسولُهم الذي أُرسِل إليهم، فيأتَمِرون بما يأمرهم به، وينتهون عمَّا نَهاهم عنه، وطاعة الأنبياء والرُّسل مُطْلقة؛ لأنَّهم مَعْصومون من الله تعالى، ولولا عِصْمتهم ما أمَرَ الله بطاعتهم طاعةً مطلقة، وهذه الآية كذلك تأتي في ضمن طاعة النبِيِّ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأمرت المؤمنين بطاعته. وقد بيَّن الله أنَّ ما جاء به الرسولُ في أمور الدِّين نحن مأمورون بالأخذ به، وأنَّ ما نهانا عنه فعلينا الانتِهاء عنه؛ ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[الحشر: 7]، فأمر الرَّسول هو كأمر الله في الاتِّباع، ولا يحلُّ تقديم أيِّ قول بعد قول الله تعالى على قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل ورتَّب العذاب الشَّديد، والنَّكال على مَن يُخالف أمره - صلَّى الله عليه وسلَّم - فنحن نأخذ ما أُمِرنا به، ونخلع ما نُهِينا عنه. وقال تعالى أيضًا مُحذِّرًا مَن يخالف أمره: ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [النور: 63]، فالله يَنْصحهم بألاَّ يُخالفوا أمر الرسول؛ لأنه سيصيبهم شرٌّ من مُخالفته وعذابٌ أليم. ولَم يقف الحدُّ عند هذا، بل جعلَ من طاعته - صلَّى الله عليه وسلَّم - طاعةً لله؛ أيْ: مَن يُطِع الرَّسول فهو مطيعٌ لله؛ ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) [النساء: 80]، مَن أخذ بأوامره وانتهى عن نواهيه، فقد أطاع الله؛ لأنَّه كما ذكرتُ آنِفًا أنَّ أوامره ونواهيه إنَّما هي من عند الله، ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) [النجم: 3 - 4]، وجاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أطاعني فقد أطاعَ الله، ومن عصاني فقد عَصى الله...)) الحديث، فهذه النُّصوص توجب علينا طاعة الرَّسول بِما جاء به مشرِّعًا عن الله تعالى؛ وذلك بالاقتِداء به قولاً وعمَلاً، بكلِّ ما أُثِر عنه وثَبت، وأن نتجنَّب ما نهى عنه، وإنَّ طاعة الله مرتبطةٌ بطاعته - صلَّى الله عليه وسلَّم. وطاعة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - دليلٌ على محبَّة العبد لله تعالى، قال تعالى: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ) [آل عمران: 31]، فعَلامة مَحبَّة الله تعالى هي الاتِّباع، ولا يَكون هذا إلاَّ إذا كان واقِعًا نَحْياه في حياتنا، في السرَّاء والضرَّاء، وفي الشدَّة والرَّخاء، وفي العسر واليُسر، والمَنْشَط والمَكْرَه. وطاعة الرسول يترتَّب عليها الثَّواب والعقاب؛ فإنَّ هذه النُّصوص ليست فقط لِمُجرَّد السَّرد والمُطالَعة، وليس فِعْل أوامره واجتناب نواهيه مجرَّدَ طقوسٍ تُؤدَّى في الحياة الدُّنيا وحَسْب، بل رتَّب الله تعالى على طاعته ثوابًا وعقابًا في الآخرة، فالثَّواب الجزيل لِمَن أطاعه، والعذاب الأليم والنَّكال لمن عصاه، وردَ عن النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((كلُّ أمتي يَدْخلون الجنة إلاَّ من أبى، قيل: ومَن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخلَ الجنَّة، ومن عصاني فقد أبَى))؛ البخاري في "صحيحه"، فطاعته سببٌ لدخول الجنَّة، ومخالفة أمره سببٌ للوقوع في الفتنة والعذابِ الأليم ودخول النَّار. وأختم بهذا الحديث الَّذي رواه الإمامُ مسلمٌ في "صحيحه" عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً أكل عند النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بشماله فقال - أي: النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((كُل بيمينك))، قال: لا أستطيع، قال - أي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا استطعْتَ، ما منَعَه إلاَّ الكِبْر))، قال: فما رفعَها إلى فيه. فشُلَّت يد هذا الرجل بسبب تكَبُّره عن سُنَّة النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبسبب دُعاء النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عليه، ولولا أنَّ أمر السُّنة مهمٌّ لِهذه الدَّرجة لما أمَرَنا الإسلام بكلِّ هذا الأمر، ونبَّهَنا عليه بشدة، ونستنتج من الحديث:

1 - أنَّه لو كان أمر الأكل باليمنى واتِّباع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمرًا هيِّنًا لَمَا شُلَّت يده بسببها.

2 - والحذر من مُخالفته - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى ولو في أمورٍ نعدُّها بسيطة.

3 - والحذر من التكبُّر عن سُنَّة الحبيب المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو الحَطِّ من شأنها. ومع كلِّ هذه الأوامر، فإنَّنا نجد الكثير ممن ينتسبون إلى الإسلام، يتَهاونون بها ويحطُّون من شأنها، وقد تشبَّهوا بالأجانب في مأكلهم ومشربهم، ونِكاحهم وزيِّهم، وأمور حياتهم كلها من ألِفها إلى يائها، فكان هَدْي الكفار أقرب إلى قلوبهم وأحبَّ من هدي النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - والله المُستَعان. والحمد لله ربِّ العالمين.
موقع السنة

87534: الباعث الأول على الطاعة الحب والإجلال
السؤال : أعبد الله ولا أرتكب المعاصي حبّاً فيه واستحياءً منه واحتراماً لجلاله ، وليس طمعاً في الجنة أو خوفا من النار ، هذا هو سؤالي ، هل أنا على حق ؟ إذا سألني أحد لماذا لا تزني ، أرد عليه وأقول أستحيي من ربي ، ولا أقول أخاف من النار ؛ لأني أعتقد أن الاحترام أصدق من الخوف ، أفيدوني لو سمحتم في أقرب وقت على عنواني الخاص .
الجواب :
الحمد لله
أولاً :
ربنا تبارك وتعالى هو الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وهو الذي له الألوهية المطلقة ، يستحق العبادة والمحبة لكمال ذاته وعظيم صفاته ، تألهه قلوب العابدين لجلاله وكماله ، ويعبده كل ما دونه لاستحقاقه صفات الحمد والتأله ، هذا هو معنى ألوهيته الذي علمه سبحانه لأنبيائه ورسله ، وهذا ما ينبغي أن يعيه كل من شهد أنه لا إله إلا هو سبحانه .
يقول الله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء/25 .
ويقول عز وجل : ( وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى . إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْري ) طه/13-14 .
فقد رتب العبادة على تفرده سبحانه بالألوهية ، واستحقاقه أن يحمد ويعبد لكمال ذاته وعظيم صفاته .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :
الله سبحانه يستحق لذاته أن يحب ويعبد ، وأن يحب لأجله رسوله ، والقلوب فيها معنى يقتضي حبه وطاعته ، كما فيها معنى يقتضي العلم والتصديق به .
" مجموع الفتاوى " ( 7 / 541 ) .
وقال - رحمه الله - :
فقوله : ( لا إله إلا أنت ) فيه إثبات انفراده بالإلهية ، والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته ، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد ، فإن الإله هو المألوه ، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد ، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب ، المخضوع له غاية الخضوع ، والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل .
" مجموع الفتاوى " ( 10 / 249 ) .
ومن هنا ندرك أنه ينبغي أن يكون الباعث الأول على العبادة هو ما لله سبحانه من الجلال والعظمة والكمال ، وما تفرد به سبحانه من صفات الألوهية والربوبية ، ثم الباعث الثاني إنعام الله على عباده ، وإحسانه إليهم ، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :
أصل المحبة هو معرفة الله سبحانه وتعالى ، ولها أصلان :
أحدهما : وهو الذي يقال له ( محبة العامة ) لأجل إحسانه إلى عباده ، وهذه المحبة على هذا الأصل لا ينكرها أحد ، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها ، وبغض من أساء إليها ، والله سبحانه هو المنعم المحسن إلى عبده بالحقيقة ، فإنه المتفضل بجميع النعم وإن جرت بواسطة ، إذ هو مُيَسِّرُ الوسائط ، ومسبب الأسباب ، ولكن هذه المحبة فى الحقيقة إذا لم تجذب القلب إلى محبة الله نفسه فما أحبَّ العبدُ في الحقيقة إلا نفسَه ، وكذلك كل من أحب شيئا لأجل إحسانه إليه ، فما أحب فى الحقيقة إلا نفسه ، وهذا ليس بمذموم بل محمود ، والمقتصر على هذه المحبة هو لم يعرف من جهة الله ما يستوجب أنه يحبه إلا إحسانه إليه .
الأصل الثانى فيه : هو محبته لما هو له أهل ، وهذا حب من عرف من الله ما يستحق أن يحب لأجله ، وما من وجه من الوجوه التى يعرف الله بها مما دلت عليه أسماؤه وصفاته إلا وهو يستحق المحبة الكاملة من ذلك الوجه ، حتى جميع مفعولاته ، إذ كل نعمة منه فضل ، وكل نقمة منه عدل ، ولهذا استحق أن يكون محمودا على كل حال ، ويستحق أن يحمد على السراء والضراء ، وهذا أعلى وأكمل ، وهذا حب الخاصة ، وهؤلاء هم الذين يطلبون لذة النظر إلى وجهه الكريم ، ويتلذذون بذكره ومناجاته ، ويكون لهم أعظم من الماء للسمك ، حتى لو انقطعوا عن ذلك لوجدوا من الألم ما لا يطيقون ، وهم السابقون .
كما فى صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ فَقَالَ سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ قَالُوا وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ ).
وفى رواية أخرى : ( قَالُوا وَمَا الْمُفْرِدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الْمُسْتَهْتَرُونَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ ، يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ ، فَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافًا ) رواه الترمذي وقال : حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ " .
" مجموع الفتاوى " ( 10 / 84 ) .
ثانياً :
ومن أحب الله لكماله وجلاله واستحقاقه المحبة والتأله والتعبد لا شك أنه يحب قربَه سبحانه ، ويتشوف إلى النظر إليه ، ويتشوق إلى لقائه ، يسعى للحصول على رضاه ، ويرجو أن ينال محبته وكرمه ويكون عنده من المقربين .
وذلك كله لا يكون إلا بدخول الجنة التي هي محل رضوان الله ، وفيها ينظر أهلها إلى وجه الله ، وتمتلئ قلوبهم بمحبة معبودهم وإلههم الذي تنفطر القلوب شوقا إليه وإجلالا له ، كما يكون فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
هذه هي الجنة التي طمَّعنا الله فيها ، وطَمِعَ بها الأنبياء والصالحون والأولياء ، كي يكونوا فيها بجوار الكريم سبحانه ، ويتنعمون فيها برضوانه والقرب منه ، فذلك أكبر لذات الجنة .
يقول سبحانه وتعالى : ( وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) التوبة/72 .
وبهذا نعلم أن ليس ثمة تعارض بين عبادة الله محبة له وإجلالا ، وبين سؤال الجنة وطلبها والشوق إليها والحرص على المسابقة إليها ، وكذا الاستعاذة من النار والخوف منها ، فإن العبد الذي يحب الله لذاته إذا استحضر أن الجنة دار رضوان الله ودار كرامته ، وأنه سيجد فيها من قرب الله ما يزيد محبته وأنسه وشوقه : فلا شك أنه سيعمل لدخولها ، ويسعى للدرجات العلى منها ، ويحتسب طاعاته في الدنيا وسائلَ تقربه إليها وتبعده عن النار التي هي دار المهانة والبعد والغضب والعذاب .
ثالثا :
وأنتِ - أختنا الفاضلة - إذا تصورتِ معي ما سبق علمت خطأك حين ظننت أن الطمع في الجنة والخوف من النار يتعارض مع محبة الله إجلالا وتعظيما ؛ لأن محبة الله تعني الشوق إليه ، والرغبة في القرب منه ، والسعي إلى رضوانه وتجنب سخطه ؛ ولأن المحب يشتاق إلى محبوبه ، وعذابه في البعد عنه ، فكيف بسخطه عليه .
ولكن لما توهم كثير من الناس أن نعيم الجنة إنما هو طعام وشراب وحور عين ونحوها من اللذات الحسية قامت في أذهانهم تلك المعارضة بين محبة الله وعبادته وبين سؤال الجنة والاستعاذة من النار .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :
ومن هنا يتبين زوال الاشتباه فى قول من قال : ما عبدتك شوقاً إلى جنَّتك ولا خوفاً من نارك ، وإنما عبدتك شوقاً إلى رؤيتك .
فإن هذا القائل ظنَّ هو ومن تابعه أن الجنة لا يدخل فى مسماها إلا الأكل والشرب واللباس والنكاح ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات ، ولهذا قال بعض من غلط من المشائخ لما سمع قوله : ( مِنْكُم مَنْ يُريدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ ) قال : فأين من يريد الله ؟! وقال آخر فى قوله تعالى : ( إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ المُؤمِنينَ أنْفُسَهُم وَأَمْوَالُهُم بِأَنَّ لَهُم الجَنَّةَ ) قال : إذا كانت النفوس والأموال بالجنة فأين النظر إليه ؟! .
وكل هذا لظنِّهم أنَّ الجنَّة لا يدخل فيها النظر ، والتحقيق أن الجنة هي الدار الجامعة لكل نعيم ، وأعلى ما فيها النظر إلى وجه الله ، وهو من النعيم الذى ينالونه فى الجنة كما أخبرت به النصوص ، وكذلك أهل النار ، فإنهم محجوبون عن ربهم يدخلون النار ، مع أن قائل هذا القول إذا كان عارفاً بما يقول فإنما قصده أنك لو لم تخلق ناراً ، أو لو لم تخلق جنَّة لكان يجب أن تعبد ، ويجب التقرب إليك ، والنظر إليك ، ومقصوده بالجنة هنا ما يتمتع فيه المخلوق .
" مجموع الفتاوى " ( 10 / 62 ، 63 ) .
ويقول ابن القيم - رحمه الله - :
والتحقيق أن يقال : الجنة ليست اسماً لمجرد الأشجار والفواكه والطعام والشراب والحور العين والأنهار والقصور ، وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنة ، فإن الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل ، ومن أعظم نعيم الجنة : التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم ، وسماع كلامه ، وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه ، فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلى هذه اللذة أبدا ، فأيسر يسير من رضوانه : أكبر من الجنان وما فيها من ذلك ، كما قال تعالى : ( ورضوان من الله أكبر ) التوبة/72 ، وأتى به مُنَكَّرًا في سياق الإثبات ، أي أي شيء كان من رضاه عن عبده : فهو أكبر من الجنة .
قليل منك يقنعني ... ولكن قليلك لا يقال له قليل
وفي الحديث الصحيح حديث الرؤية : ( فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه ) وفي حديث آخر : ( أنه سبحانه إذا تجلى لهم ورأوا وجهه عيانا : نسوا ما هم فيه من النعيم وذهلوا عنه ولم يلتفوا إليه ) .
ولا ريب أن الأمر هكذا ، وهو أجل مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال ، ولا سيما عند فوز المحبين هناك بمعية المحبة ، فإن المرء مع من أحب ، ولا تخصيص في هذا الحكم بل هو ثابت شاهدا وغائبا ، فأي نعيم وأي لذة وأي قرة عين وأي فوز يداني نعيم تلك المعية ولذتها وقرة العين بها ، وهل فوق نعيم قرة العين بمعية المحبوب الذي لا شيء أجل منه ولا أكمل ولا أجمل قرة عين ألبتة ؟ .
وهذا - والله - هو العلَم الذي شمر إليه المحبون ، واللواء الذي أمه العارفون ، وهو روح مسمى الجنة وحياتها ، وبه طابت الجنة وعليه قامت .
فكيف يقال : " لا يعبد الله طلباً لجنته ولا خوفاً من ناره " ؟! .
وكذلك النار أعاذنا الله منها ، فإن لأربابها من عذاب الحجاب عن الله وإهانته وغضبه وسخطه والبعد عنه : أعظم من التهاب النار في أجسامهم وأرواحهم ، بل التهاب هذه النار في قلوبهم : هو الذي أوجب التهابها في أبدانهم ، ومنها سرت إليها .
فمطلوب الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين : هو الجنة ، ومهربهم : من النار . والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل .
" مدارج السالكين " ( 2 / 80 ، 81 ) .
والله أعلم