كان الأحنفُ بن قيس التميمي (أبوبحر) (العالم والأمير والصحابيُّ الجليل) أحلَمُ العرب؛ حتى ضُرب بحلمه المثل، فقيل "أحلَمُ مِن الأحنف".

قيل عاشت بنو تميم بحلم الأحنف أربعين سنة، وفيه قال الشاعر:

إذا الأبصار أبصرت ابن قيس -- ظللن مهابة منه خشوعا.

قال ابن المبارك قيل للأحنف بم سودوك قال لو عاب الناس الماء لم أشربه.


وقال: ما نازعني أحد إلا أخذت أمري بأمور: إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه، وقال لستُ بحليم ولكني أتحالم.


قال الحسن ذكروا عن معاوية شيئا فتكلموا والأحنف ساكت فقال يا أبا بحر مالك لا تتكلم قال أخشى الله إن كذبت وأخشاكم إن صدقت.

قيل، كان زيادُ (ابن أبيه) مُعَظِّماً للأحنف، فَلمّا ولي بعده ابنه عبيد الله، تَغيَّر أمرُ الأحنف وقَدَّمَ عليه مَن هو دونَه ثُم وَفِدَ على معاويةَ في الأشراف. فقال معاوية لعبيد الله: أدخلهم على قَدرِ مراتبهم، فأخَّرَ الأحنفَ. فلما رآهُ معاويةُ أكرمَهُ لمكان سيادته وقال إلي يا أبا بحر وأجلَسَهُ معه وأعرض عنهم، فأخذوا في شكر عبيد الله بن زياد وسكت الأحنف. فقال له لم لا تتكلم؟، قال إن تكلمت خالفتهم. قال: اشهدوا أني قد عزلت عبيد الله؛ فلما خرجوا كان فيهم مَن يَرومُ الإمارة، ثم أتوا معاوية بعد ثلاث وذَكَرَ كُلُّ واحدٍ شخصا وتنازعوا. فقال معاوية: ما تقول يا أبا بحر؟ قال إن وَليتَ أحدا مِن أهل بيتك لم تجد مثل عبيد الله، فقال قد أعدته، قال فخلا معاوية بعبيد الله، وقال كيف ضيعت مثل هذا الرجل الذي عزلك وأعادك وهو ساكت!؟ فلما رجع عبيد الله جعل الأحنف صاحب سره.

وروي عن ذي الرمة قال شهدت الأحنف بن قيس وقد جاء إلى قوم في دم، فتكلم فيه وقال احتكموا، قالوا نحتكم ديتين، قال: ذاك لكم فلما سكتوا، قال أنا أعطيكم ما سألتم. فاسمعوا إن الله قضى بدِيَّةٍ واحدة وإن النبي (صلى الله عليه وسلم) قضى بدية واحدة وإن العرب تعاطى بينها دية واحدة وأنتم اليوم تطالبون، وأخشى أن تكونوا غدا مطلوبين فلا ترضى الناس منكم إلا بمثل ما سننتم، قالوا ردها إلى دية.

قال الشعبي وفد أبو موسى الأشعري وفدا من البصرة إلى عمر منهم الأحنف بن قيس فتكلم كل رجل في خاصة نفسه. وكان الأحنفُ في آخر القوم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد يا أمير المؤمنين فإن أهل مصر نزلوا منازل فرعون وأصحابه وإن أهل الشام نزلوا منازل قيصر وأصحابه وإن أهل الكوفة نزلوا منازل كسرى ومصانعه في الأنهار والجنان، وفي مثل عين البعير وكالحوار في السلى تأتيهم ثمارهم قبل أن تبلغ وإن أهل البصرة نزلوا في أرض سبخة زعقة نشاشة لا يجف ترابها ولا ينبت مرعاها وطرفها في بحر أُجاج (مالح ) (وهي ما يعرف بالأهواز) وطرف في فلاة لا يأتينا شيء إلا في مثل مريء النعامة فارفع خسيستنا وانعش وكيستنا، وزد في عيالنا عيالا وفي رجالنا رجالا، وصغر درهمنا وكبر قفيزنا ومر لنا بنهر نستعذب منه. فقال عمر عجزتم أن تكونوا مثل هذا؟ هذا والله السيد قال فما زلت أسمعها بعد.



و قيل للأحنف : ممن تعلمت الحِلم ؟
قال : مِن قيس بن عاصم (رضي الله عنه) رأيتُه يوماً مُختبئا بردائه يُحادِثُ قَومَه بِمجلسِ دارِه؛ فأُتي برجل مَكتوفٍ وآخرَ مقتول، فقيل:هذا ابن أخيك، قتل ابنك! فيقول الأحنف
فوالله ما حَلَّ حَبَوتَهُ، وما قطع كلامَهُ. وحين انتهى، التَفَتَ إلى ابن أخيه فقال يا ابن أخي بِئسَ ما فعلت، أثِمتَ بربك، وقطعت رحمك، وقَللت عددك، ورميتَ نفسَك بِسهمك
ثُم قال لابن له آخر، قم يا بني، فوارِ أخاك، -وحُلَّ كتاف ابن عمك - وسُق إلى أُمِّه مائةَ ناقةٍ دِيَّةَ ابنِها، فإنها غريبة.

ويُروى أنّ الأحنف دخل ذات مرة على معاوية بن ابي سفيان غضبان، و خاطبه قائلا يا معاوية، فألانَ له معاويةُ الحديث واسترضاه، وبعد أن انصرف قال بعض جلساؤه : يا أمير المؤمنين، مَن هذا الذي دخل عليك، فأغلظ القول، فألنتَ له الحديث واسترضيته؟ فقال معاوية رضي الله عنه : هذا الذي إذا غَضِب، غَضبَ له مائةُ ألف سيفٍ مِن بني تميم، لايسألونَ فيمَ غَضِب.