السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

القرآن الكريم أول مصادر التشريع


اشتمل القرآن على لون آخر من الإعجاز، يعترف به كل المتخصصين، وإن لم يعرفوا العربية؛ لأنه يتعلق بمحتواه ومضمونه، وهو الإعجاز الإصلاحي أو التشريعي، الذي تضمن أعظم التعاليم، وأقوم المناهج لهداية البشرية إلى التي هي أقوم، في تزكية الفرد، وإسعاد الأسرة، وتوجيه المجتمع، وبناء الدولة، وإقامة العلاقات الدُولية على أمتن الدعائم[1].
ومن المعلوم أن القرآن الكريم المصدرُ الأول من مصادر الشريعة الإسلامية، ونصوص القرآن الكريم جميعها قطعية في وُرُودها وثبوتها ونقلها عن رسول الله القرآن الكريم أول مصادر التشريع R_20 إلينا، وقد تناقل المسلمون القرآن كتابة من المصحف المدون، وتلقيا من الحُفاظ أجيالا عن أجيال في عدة قرون، وما اختلف المكتوب منه والمحفوظ منذ أربعة عشر قرنا.
المزايا العامة للإسلام

وقد جاء القرآن الكريم بتقرير المزايا العامة للإسلام؛ فالإسلام دين وسط جامع لحقوق الرُوح والجسد، ومصالح الدنيا والآخرة؛ مصداقا لقوله تعالى: {وكذلك جعلْناكُمْ أُمة وسطا لتكُونُوا شُهداء على الناس ويكُون الرسُولُ عليْكُمْ شهيدا} [البقرة: 143].
كما أن غاية الإسلام الوصولُ إلى سعادة الدنيا والآخرة؛ بتزكية النفس بالإيمان الصحيح، ومعرفة الله والعمل الصالح، ومكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، لا بمجرد الاعتقاد والاتكال، ولا بالشفاعات وخوارق الأعمال، وهو ما يُدلل عليه ربطُ القرآن الكريم بين الإيمان والعمل في ندائه للمؤمنين.
والإسلام يُسْر لا حرج فيه، ولا عُسْر ولا إرهاق ولا إعنات، قال تعالى: {لا يُكلفُ اللهُ نفْسا إلا وُسْعها} [البقرة: 286]، وقال تعالى: {ما يُريدُ اللهُ ليجْعل عليْكُمْ منْ حرجٍ} [المائدة: 6]، ومن فروع هذا الأصل أن الواجب الذي يشقُ على المكلف أداؤه، ويُحْرجه يسقط عنه إلى بدلٍ أو يسقط مطلقا؛ كالمريض الذي يُرْجى برؤه والذي لا يُرْجى برؤه، فالأول يسقط عنه الصيام ويقضيه كالمسافر، والثاني لا يقضي بل يُكفر بإطعام مسكين فدية عن كل يوم إذا قدر.
كما أن الإسلام منع الغلو في الدين، وأبطل تعذيب للنفس، وأباح الطيبات والزينة بدون إسراف ولا كبرياء، فقال تعالى: {يا بني آدم خُذُوا زينتكُمْ عنْد كُل مسْجدٍ وكُلُوا واشْربُوا ولا تُسْرفُوا إنهُ لا يُحبُ الْمُسْرفين * قُلْ منْ حرم زينة الله التي أخْرج لعباده والطيبات من الرزْق قُلْ هي للذين آمنُوا في الْحياة الدُنْيا خالصة يوْم الْقيامة كذلك نُفصلُ الآيات لقوْمٍ يعْلمُون * قُلْ إنما حرم ربي الْفواحش ما ظهر منْها وما بطن والإثْم والْبغْي بغيْر الْحق وأنْ تُشْركُوا بالله ما لمْ يُنزلْ به سُلْطانا وأنْ تقُولُوا على الله ما لا تعْلمُون} [الأعراف: 31-33]، وقال تعالى: {يا أهْل الْكتاب لا تغْلُوا في دينكُمْ} [المائدة: 77]، فنهى عن الغلو في العبادة، وعن ترك الطيبات، وعن الرهبانية.
من وجوه الإعجاز التشريعي في القرآن

فمن وجوه الإعجاز التشريعي في القرآن أنه راعى درجات البشر في العقل والفهم، وعلو الهمة وضعْفها، فالقطعيُ منه هو العامُ، وغيرُ القطعي تتفاوت فيه الأفهام، فيأخذ كلُ أحد منه بما أداه إليه اجتهاده، وكذلك فعل رسول الله القرآن الكريم أول مصادر التشريع R_20 مع أصحابه عندما نزلت آية البقرة في الخمر والميسر الدالة على تحريمهما دلالة ظنية، فتركها بعضهم دون بعض، فأقر كلا على اجتهاده، إلى أن نزلت آيتا المائدة بالتحريم القطعي؛ ولذلك قال تعالى: {وتلْك الأمْثالُ نضْربُها للناس وما يعْقلُها إلا الْعالمُون} [العنكبوت: 43]، فالفرائض الدينية العامة، والمحرمات الدينية العامة لا يثبتان إلا بنصٍ قطعي يفهمه كلُ أحد.

كما أرسى القرآن الكريم مبدأ معاملة الناس بظواهرهم، وجعل البواطن موكولة إلى الله تعالى؛ فليس لأحد من الحكام، ولا الرؤساء الرسميين، ولا لخليفة المسلمين أن يُعاقب أحدا ولا أن يُحاسبه على ما يُضمر في قلبه أو يعتقد، وإنما العقوبات على المخالفات العملية المتعلقة بحقوق الناس ومصالحهم.
وجعل القرآن الكريم مدار العبادات كُلها على اتباع ما جاء به رسول الله القرآن الكريم أول مصادر التشريع R_20 في الظاهر؛ فليس لأحد فيها رأي شخصي ولا رئاسة، ومدارها في الباطن على الإخلاص لله تعالى وصحة النية.

وكُلُ واحدة من النقاط السابقة جديرة بأن تُجعل مقصدا خاصا من مقاصد الوحي، ويُسْتدلُ بها على أنه من الله تعالى؛ قرآنا معجزا في أحكامه التشريعية، جالبا مصالح العباد معه[2].
القرآن والسياسة العامة

ولم يتوقف الإعجاز التشريعي للقرآن الكريم عند الأحوال والنواحي الشخصية فقط، وإنما تعدى ذلك إلى السياسة بمفهومها الإسلامي العام؛ فالحُكْمُ الإسلامي للأئمة مُتخذ مبدأ الشورى تُكأة في تنفيذه، والإمامُ الأعظم أو الخليفة مُنفذ لشرع الله تعالى في الأرض، فقال تعالى: {وأمْرُهُمْ شُورى} [الشورى: 38]، وبين الإسلام أن هناك طائفة من الأُمة يجب على الخليفة أن يستشيرهم -وهم أهل الحل والعقد- في مصالحها؛ وهم الذين تثق بهم الأُمة، وتتبعهم فيما يُقررُونه، وكان أول منفذٍ لها رسولُ الله r؛ فلم يكن يقطع أمرا من أمور السياسة والإدارة العامة للأُمة إلا باستشارة أهل الرأي والمكانة في الأُمة؛ ليكون قدوة لمن بعده.
ثم لم يُهمل القرآن الكريم الإرشاد إلى الإصلاح المالي؛ فبين القرآن حقيقة المال التي يجب أن يعيها الإنسان جيدا فقال تعالى: {لتُبْلوُن في أمْوالكُمْ} [آل عمران: 186]، فالمال فتنة للبشرية جميعا، ووسيلة للسعادة والفلاح أو الخزي والذل، فمنْ أنفقه في وجوه الخير نال وسيلة السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، ومن أنفقه في الصد عن سبيل الله نال من الله العذاب الأليم، فقال تعالى: {وأنْفقُوا في سبيل الله ولا تُلْقُوا بأيْديكُمْ إلى التهْلُكة وأحْسنُوا إن الله يُحبُ الْمُحْسنين} [البقرة: 195]، كما خاطب الله I الذين يستخدمون المال في الصد عن سبيل الله فقال: {إن الذين كفرُوا يُنْفقُون أمْوالهُمْ ليصُدُوا عنْ سبيل الله فسيُنْفقُونها ثُم تكُونُ عليْهمْ حسْرة ثُم يُغْلبُون والذين كفرُوا إلى جهنم يُحْشرُون} [الأنفال: 36][3].
ولم يقتصر القرآن على الجانب النظري فقط في محاربة الأمراض المتعلقة بالمال، وإنما تعدى ذلك إلى الجانب العملي؛ بتشريعه للزكاة وبيانه لطُرُق صرفها، وتحريمه للربا، فقال تعالى: {يا أيُها الذين آمنُوا لا تأْكُلُوا الربا أضْعافا مُضاعفة واتقُوا الله لعلكُمْ تُفْلحُون} [آل عمران: 130]، وكذلك تحريمه للرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، ونهى كذلك عن تطفيف الميزان، فقال تعالى: {ويْل للْمُطففين * الذين إذا اكْتالُوا على الناس يسْتوْفُون * وإذا كالُوهُمْ أوْ وزنُوهُمْ يُخْسرُون} [المطففين: 1-3]، وغير ذلك من وجوه الإعجاز التشريعي في القرآن[4]، والتي تدُلُ دلالة واضحة على صدق النبي القرآن الكريم أول مصادر التشريع R_20.
د. راغب السرجاني