في ظلال هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ـ



الهجرة النبوية..


هي خروج النور المحمدي إلي العالم كله بسم الله الرحمن الرحيم »وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.

إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سيكنته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم« صدق الله العظيم. الهجرة النبوية هي الطاقة التي انطلق منها نور الإسلام الثقلين ليحيي القلوب بأنوار الهداية ويضىء العقول بالتوحيد الخالص. ولقد سبقت حادثة الهجرة ثلاثة أحداث مهمة ترتبط بشكل ما بها. أولاً موت عمه أبوطالب، ثم وفاة زوجته وأم أولاده وأول من اسلم من النساء السيدة خديجة رضي الله عنها، أما الحادث الثالث فهو الإسراء والمعراج الذي بدأ وكأنه رسالة ربانية تخبر الناس آنذاك بأن الله سبحانه وتعالي سينصر عبده حتي وإن لم تنصروه وحتي وان غاب من كان ينصره ويواجه قريشا دفاعا عنه. لقد رحبت السماء بالرسول الخاتم صلي الله عليه وسلم والتقي بربه الذي كلفه بالصلاة التي هي هدية الله سبحانه وتعالي إلي عباده المؤمنين.

لقد اتخذ رسول الله صلي الله عليه وسلم قرار الهجرة وأخبر صديقه أبا بكر الذي اتخذ في الحال قرار مصاحبة رسول الله في رحلة الهجرة الي المدينة. لم يكن رسول الله يهجر مكة أحب بقاع الأرض لله ويفر منها ولكنه ترك الغطرسة والصلف والكبر القريشي والإصرار علي التمسك بفكرة الوثن وديانة الوثنية التي تحقر من شأن العقل والفكر السليم واحترام الإنسان لأخيه الإنسان. البعض يري ان أحد معاني الخروج من مكة عند المسلم هو الابتعاد نهائيا عن الأوثان حتي وان كانت في مركزه أي في قلبه وذلك حتي يتحرر القلب من الارتباطات الوثنية الوجدانية التي تعوق انطلاقه الروحاني إلي العوالم العليا فيسجد بقلبه للرب طالبا رضاه ورحمته ومغفرته وشاكراً ربه علي نعمه التي لا تحصي ولا تعد.

لقد كان التنزيل الإلهي علي رسوله الكريم صلي الله عليه وسلم قد أثبت لأهل مكة أن لا إله إلا الله وأن من الغباء الركون الي تماثيل لا تضر ولا تنفع ولا إلي مشعوذين يستخدمون الجن والشياطين ولا إلي المنجمين وقارئي الطالع علي الرمل.

لقد قال لهم رسول الله صلي الله عليه وسلم ان هناك حياة أخري وحساباً علي ما يرتكبه الإنسان. ولكن الجاهليين واللهبويين أصروا علي الباطل وتركوا قيادتهم للمعلون إبليس. ولأنه صلي الله عليه وسلم يشرع فقد قام بالإعداد للهجرة بعد أن جاء الإذن له بالخروج إلي المدينة، وفي يوم جاءه سيدنا جبريل وقال له لا تنام في بيتك هذه الليلة. لقد قررت قريش الوثنية ان تقتل رسول الله فينطفئ النور في الجزيرة العربية وفي العالم اجمع. لقد جمعوا قوتهم الفتية للقيام بأحقر عملية يقوم بها إنسان. لم يفر رسول الله صلي الله عليه وسلم عندما علم بأن خطراً يتهدده ولكنه تأكد أولا من أن الأمانات التي كانت عنده سيتم توصيلها إلي أصحابها فهذا أحد جوانب الدين الجديد. أن يأخذ كل شخص حقه ولا يظلم ولا يسرق. ولقد قام بتوصيل الأمانات الإمام علي كرم الله وجهه. ثم كان الخروج إلي المدينة. وقف فتيان الخيانة والاغتيال وقد أعدوا سيوف الغدر لكي ينقضوا علي خير البشر وهو نائم، ولكنه قرأ عليهم سورة »يس« فأعمي عيونهم وصم آذانهم وشل حركتهم وراحوا في سبات عميق وخرج رسول الله صلي الله عليه وسلم وقد نثر عليهم التراب ووضعه علي رؤوسهم لكي يعلموا حجم جريمتهم وغبائهم. ولكنهم أصروا علي عماهم.
لقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: »
لكل شىء قلب وقلب القرآن يس« وقال »يس لما قرأت له
« وقد تغلب علي مؤامرة إبليس المدعومة من قريش بأن قرأ عليهم جزءاً من قلب القرآن »سورة يس« فأفسد عليهم مخططهم وتدبيرهم الشيطاني. ومن هنا ندرك ان الأشياء تحل بالتدبير والإيمان وبأدوات الإيمان ومنها الدعاء وقراءة القرآن والحفاظ علي حقوق الغير، فالذي يحافظ علي الغير يحافظ الله عليه.
وطلع الصباح علي أهل الغدر والمؤامرة الذين أصروا علي ان يعيشوا في الظلام، فدخلوا بيت رسول الله ليجدوا الإمام علي في سرير النبي وكانت المفاجأة لطمة شديدة لكل وجه قبيح من وجوههم، ولكنهم أصروا علي مسيرتهم الشيطانية وانطلقوا نحو جبل لعلهم يجدوا رسول الله صلي الله عليه وسلم . وصل رسول الله صلي الله عليه وسلم »
جبل ثور« واستمرت المطاردة.
دخل رسول الله صلي الله عليه وسلم الغار مع سيدنا أبابكر ليختبئا عن أعين الكفار. ويقترب الكفار من الغار، ولكن الله أمر العنكبوت فنسجت خيوطها علي وجه الغار وأرسل حمامتين بريتين فوقفتا علي مدخل الغار. وهذا المشهد قد صد الكفار عن النظر داخل الغار. قال سيدنا أبوبكر لرسول الله صلي الله عليه وسلم »لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا« فقال له خير خلق الله صلي الله عليه وسلم : »لا تحزن فما بالك باثنين الله ثالثهما«. عند أهل المعاني والرموز فإن العنكبوت يعني ان الحماية الربانية إذا شاء رب العزة تتحقق بأضعف المخلوقات ليثبت لأهل الغرور عجزهم وتفاهة غرورهم وعمي عيونهم وقلوبهم. أما الحمام فيعني ان رمز السلام قد حط علي مدخل الغار، معلنا أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال لأبي بكر »لا تحزن« وأم يقل له لا تخف، لان سيدنا أبابكر لم يكن خائفا لانه كان واثقاً من ربه وان الله لن يترك رسوله بل سيحميه ولكنه كان حزينا لان رسول الله قد يتعب من المطاردة وطول المسافة إلي المدينة.

أما بالنسبة للغار فإنه يرمز لحالة التسليم التي يجب ان يكون عليها المسلم المؤمن في رحلة الهجرة من دنيا الأصنام الي مدينة النور والحق والعدل والتوحيد. ففي تلك المرحلة يفر المرء الي الله تاركا الظلام خلفه. وبعد التسليم لله سبحان وتعالي يتلاشي الخوف ويقوي البصر وتقوي البصيرة ويعتمد العبد علي الله سبحانه وتعالي في كل شىء ويجعل رسول الله قدوته والله قبلته
. وفي رحلة الهجرة إذا طلب العبد من الله العون وجده لأنه في الحقيقة هو ذاهب الي ربه بنفس راضية وبقناعة كاملة انه يعلم يقينا أن الهجرة هجرتان مكانية ونفسية أو معنوية، ولا ينفصلان، فالحركة الظاهرية تواكبها حركة باطنية داخلية يتخلص فيها العبد من كل ما لا يرضي الله سبحانه وتعالي. إن الهجرة هي أشبه بحالة تطهر مستمرة علي كل الأصعدة تتحقق بها الحياة الفعلية للعبد والسعادة أيضا
. كما قال سيدي محيي الدين بن عربي إن الصراط يبدأ في عالم الشهادة فإن الهجرة تبدأ في عالم الشهادة ولكن الحقيقة الهجرة تمتد إلي عالم الغيب حيث يحاسب المرء علي اختياراته وهل هجر ما يغضب الله أم اختار الدنيا وفضلها علي الآخرة.
في حقيقة الأمر ان الهجرة هي عمل من أروع اختيارات الإنسان لان الإنسان يختار الله ورسوله ويسعي إلي ربه وإلي رسوله بنفس صافية قانعة ومحبة لكل ما جاء به رسوله الكريم صلي الله عليه وسلم . وتلك الرحلة التي تؤدي الي مدينة النور تستغرق الحياة كلها وتجعل للحياة معني وتجلب السعادة الي القلب والسمو الي الروح، وذلك لان التوجه سليم ونوراني وهذا يفجر طاقات الخير والحب لكل ذرة في الكون فكل شىء من صنع الله وبالتالي فهو جميل وكامل في حد ذاته ليؤدي المهمة التي خلقه الله لها. ففي رحلة الهجرة صحب رسول الله معه سيدنا أبا بكر وهو الصديق المحب للرسول الخاتم صلي الله عليه وسلم وهي إشارة للعباد بأن اختيار الرفيق في طريق الهجرة ضروري ومهم لان الائتناس بالمخلص يعين في المسيرة ولا يكون عنصراً معطلاً. فمن بين الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله اثنان تحابا في الله. ولا شك ان الهجرة منهج إسلامي، وقد درب رسول الله صلي الله عليه وسلم أصحابه عليه عندما أرسلهم الي الحبشة وقد نجح كل الذين هاجروا الي الحبشة لأنهم ضربوا المثل والقدوة وكانوا رسلاً للإسلام، وكان من ثمار تلك الهجرة إسلام النجاشي. ومن ثمار الهجرة أيضا ما جاء في الحديث النبوي الشريف »
لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية« اي ان العبد يهاجر إلي الله أي يترك كل ما لا يرضي عنه الله ويبدأ التطهر المكاني والمعنوي، فيأتي اليه الفتح الرباني بالشكل والصفة والصورة التي يريدها رب العزة ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الجهاد الباطني أو القلبي لزيادة الدرجات والقرب من رب العالمين. والهجرة تكتمل بالوصول إلي المدينة حيث النور في كل شىء ولكل شىء وحيث تكتمل التربية السلوكية ويتم الفتح. ومن أولي علامات الفتح هي العودة إلي مكة أو إلي القلب وهدم الأصنام والأوثان الكبيرة والصغيرة المادية والمعنوية والسجود الكامل لله سبحانه وتعالي طبقا لما جاء به رسول الله صلي الله عليه وسلم : "لا يؤمن أحدكم حتي يكون هواه طبقاً لما جئت به".