إنه خالد بن سعيد بن العاص -رضي الله عنه-، أسلم مبكرًا، فلم يكن قد سبقه إلى الإسلام سوى ثلاثة أو أربعة، وقيل إنه أسلم مع أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.

ويروى في إسلامه أنه قام مفزوعًا من نومه ذات يوم، وهو يقول: أحلف بالله إنها لرؤيا حق. فلقى أبا بكر الصديق -رضي الله عنه-، فقال: إني رأيت في منامي أني واقف على شفير نار عظيمة، وأبي يدفعني نحوها، ورسول الله يمنعني من أن أقع فيها، ويجذبني من ملابسي بيده اليمنى المباركة.

فقال له أبو بكر -رضي الله عنه-: إنه لخير أريد لك، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، وإنك ستتبعه في الإسلام الذي يحجزك من أن تقع فيها، وأبوك واقع فيها.

وانطلق خالد يبحث عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وجده عند جبل بمكة يسمى أجياد، ثم سأله: يا محمد، إلى من تدعو؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وتخلع (تترك) ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع، ولا يدرى من عَبَده ممن لم يعبده. [البيهقي والحاكم].

فقال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، ففرح الرسول صلى الله عليه وسلم بإسلامه.

ولما علم أبوه سعيد بن العاص بإسلامه، أرسل إليه أحد إخوته، ولم يكونوا أسلموا بعد، فجاء خالد ووقف أمام والده، فأخذ أبوه يشتمه، ويسبه، ويضربه بمقرعة كانت في يده حتى كسرها على رأسه، ثم قال: اتبعت محمدًا وأصحابه، وأنت ترى خلافه مع قومه، وما جاء به من عيب آلهتهم، وعيب من مضى من آبائهم!!

فقال خالد: نعم تبعته على ما جاء به، فصاح أبوه فيه قائلا: اذهب يا أحمق حيث شئت، فوالله لأمنعنك القوت (أي الطعام)، فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، ثم طرده من بيته، وقال لإخوته: لا يكلمه أحد منكم إلا صنعت به ما صنعت بهذا اللئيم. وغادر خالد دار أبيه بكل ما فيها من نعيم، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وظل معه، يعيش بجواره، وينهل من علمه وفضله.

وعندما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة الثانية إلى الحبشة، كان خالد من أوائل من خرج إليها، ومكث هناك ما شاء الله له أن يمكث، ورزقه الله بابنه سعيد وابنته أم خالد.

ثم يعود خالد مع إخوانه إلى المدينة بعد فتح خيبر، ويقيم بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشاركه في فتح مكة وحنين والطائف، وتبوك، لا يتخلف عن غزوة، ولا يتقاعس عن جهاد، ثم بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم واليًا على اليمن.

وشاء الله تعالى أن يهدى إخوته إلى الإسلام، فأسلموا جميعًا، وشاركوا الرسول صلى الله عليه وسلم غزواته، ثم جعلهم أمراء على بعض الإمارات، ولما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ترك خالد وإخوته الإمارات، ورجعوا إلى المدينة، فقال لهم أبو بكر: ما لكم رجعت عن عمالتكم، ما أحد أحق بالعمل من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ارجعوا إلى أعمالكم.

فقالوا: نحن بنو أبي أحيحة (لقب لأبيهم) لا نعمل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدًا. ثم ذهبوا إلى الشام يجاهدون في سبيل الله حتى قتلوا جميعًا هناك.

وقد قيل: ما فتحت بالشام بلدة إلا وجد فيها رجل من بني سعيد بن العاص ميتًا. وكان خالد -رضي الله عنه- شديد الحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم حتى إن أباه سعيد بن العاص مرض ذات يوم، فقال: لئن رفعني الله من مرضي هذا، لا يعبد إله ابن أبي كبشة بمكة أبدًا (يقصد بابن أبي كبشة رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

فلما سمع خالد ما يقوله أبوه قال: اللهم لا ترفعه. فمات أبوه في مرضه ذلك. واستشهد خالد بن سعيد -رضي الله عنه- في معركة أجنادين في جمادى الأولى سنة (13 هـ) قبل وفاة أبي بكر، وقيل: استشهد في معركة مرج الصفر سنة (14هـ) في بداية خلافة عمر -رضي الله عنه-.



خالد بن سعيد رضي الله عنه ( لن أدع الإسلام لشيء، وسأحيا به وأموت عليه ).
خالد بن سعيد هو خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، والده زعيم في قريش، كان شابا هادىء السمت، ذكي الصمت، منذ بدأ أخبار الدين الجديد كان النور يسري إلى قلبه، وكتم ما في نفسه خوفا من والده الذي لن يتوانى لحظة عن تقديمه قربانا لآلهة عبد مناف.
اسلامه ذات ليلة رأى خالد بن سعيد في منامه أنه واقف على شفير نار عظيمة، وأبوه من ورائه يدفعه نحوها بكلتا يديه، ويريد أن يطرحه فيها، ثم رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل عليه، ويجذبه بيمينه المباركة من إزاره فيأخذه بعيدا عن النار واللهب.
ويصحو من نومه فيسارع إلى دار أبي بكر ويقص عليه رؤياه، فيقول أبو بكر له: { إنه الخير أريد لك، وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاتبعه، فإن الإسلام حاجزك عن النار }.
وينطلق خالد إلى رسول الله فيسأله عن دعوته، فيجيب الرسول الكريم: { تؤمن بالله وحده لا تشرك به شيئا، وتؤمن بمحمد عبده ورسوله، وتخلع عبادة الأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولاتضر ولا تنفع }.
ويبسط خالد يمينه فتتلقاها يمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حفاوة ويقول خالد: { إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله }.
وهكذا أصبح من الخمسة الأوائل في الإسلام.
والده والعذاب وحين علم والده {سعيد} بإسلامه دعاه وقال له: { أصحيح إنك اتبعت محمدا وأنت تسمعه يعيب آلهتنا ؟}.
قال خالد: { إنه والله لصادق، ولقد آمنت به واتبعته }.
هنالك انهال عليه أبوه ضربا، ثم زج به في غرفة مظلمة من داره، حيث صار حبيسها، ثم راح يضنيه ويرهقه جوعا وظمأ، وخالد يصرخ من وراء الباب: { والله إنه لصادق، وإني به لمؤمن }.
وأخرجه والده الى رمضاء مكة، ود سه بين حجارتها الملتهبة ثلاثة أيام لا يواريه فيها ظل، ولا يبلل شفتيه قطرة ماء، ثم يئس والده فأعاده الى داره وراح يغريه ويرهبه وخالد صامد يقول لأبيه: { لن أدع الإسلام لشيء، وسأحيا به وأموت عليه }.
وصاح سعيد: { إذن فاذهب عني يا لُكَع، فواللات لأمنعنك القوت }.
فأجاب خالد: { والله خير الرازقين }.
وغادر خالد الدار، وراح يقهر العذاب بالتضحية، ويتفوق على الحرمان بالإيمان.
جهاده مع الرسول كان خالد بن سعيد من المهاجرين الى الحبشة في الهجرة الثانية، وعاد مع إخوانه الى المدينة سنة سبع فوجدوا المسلمين قد انتهوا للتو من فتح خيبر، وأقام -رضي الله عنه- في المدينة لايتأخر عن أي غزوة للرسول -صلى الله عليه وسلم- ويحضر جميع المشاهد، وقد جعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته واليا على اليمن.
خلافة أبوبكر لما وصل نبأ وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لخالد في اليمن عاد من فوره الى المدينة، وعلى الرغم من معرفته لفضل أبي بكر إلا أنه كان من الجماعة التي ترى أحقية بني هاشم في الخلافة ووقف الى جانب علي بن أبي طالب ولم يبايع أبا بكر، ولم يكرهه أبوبكر على ذلك، وإنما بقي على حبه وتقديره له، حتى جاء اليوم الذي غير فيه خالد رأيه فشق الصفوف في المسجد وأبو بكر على المنبر، فبايعه بيعة صادقة.
عزله عن الإمارة يُسير أبو بكر الجيوش للشام، ويعقد ل{ خالد بن سعيد } لواء، فيصير أحد أمراء الجيوش، إلا أن عمر بن الخطاب يعترض على ذلك ويلح على الخليفة حتى يغير ذلك، ويبلغ النبأ خالدا فيقول: { والله ما سرتنا ولايتكم، ولا ساءنا عزلكم }.
ويخف الصديق -رضي الله عنه- الى دار خالد معتذرا له مفسرا له هذا التغيير، ويخيره مع من يكون من القادة: مع عمرو بن العاص ابن عمه أو مع شرحبيل بن حسنة، فيجيب خالد: { ابن عمي أحب الي في قرابته، وشرحبيل أحب الي في دينه }.
ثم يختار كتيبة شرحبيل، ودعا أبو بكر -رضي الله عنه- شرحبيل وقال له: { انظر خالد بن سعيد، فاعرف له من الحق عليك، مثل ما كنت تحب أن يعرف من الحق لك، لو كنت مكانه، وكان مكانك.
انك لتعرف مكانته في الإسلام، وتعلم أن رسول الله توفى وهو له وال، ولقد كنت ولّيته ثم رأيت غير ذلك، وعسى أن يكون ذلك خيرا له في دينه، فما أغبط أحدا بالإمارة.
وقد خيرته في أمراء الأجناد فاختارك على ابن عمه، فاذا نزل بك أمر تحتاج فيه الى رأي التقي الناصح، فليكن أول من تبدأ به: أبوعبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل ولْيَكُ خالد بن سعيد ثالثا، فإنك واجد عندهم نصحا وخيرا، وإياك واستبداد الرأي دونهم، أو إخفاءه عنهم }.
استشهاده وفي معركة { مرج الصُفَر } حيث المعارك تدور بين المسلمين والروم، كان خالد بن سعيد في مقدمة الذين وقع أجرهم على الله، شهيد جليل، ورآه المسلمون مع الشهداء فقالوا: { اللهم ارض عن خالد بن سعيد}.