الاقتصار على تناول تاريخ الإسلام فقط، باستثناء حديثه عن بعض إرهاصات النبوة التي سبقت نزول الوحي، مثل: الرؤيا الصادقة[3]، وخبر يسير عن زيد بن عمرو بن نفيل وإظهاره الحنيفية، ذكره عن أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها (ابن هشام: ج1، ص: [225]).

الإيجاز والاقتصار على الجانب المهم من الرواية أو الخبر؛ انظر مثلاً: حديثه عن إسلام أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه إذ يقول: "دخل عليه -أي رسول الله صلى الله عليه وسلم- أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام بمنزله بمر الظهران فبايعوه على الإسلام، فلما بايعوه بعثهم بين يديه إلى قريش يدعونهم إلى الإسلام، فأخبرت أنه قال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن -وهي بأعلى مكة- ومن دخل دار حكيم -وهي بأسفل مكة- فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه وكف يده فهو آمن»" (الطبري: ج3، ص: [55]، والحديث في [url=http://ar.islamway.net/search?domain=default&query="%D8%B5%D8%AD%D9%8A%D8%AD %D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85"]صحيح مسلم[/url][ ] ؛ ج3، رقم: [1780])، هذه الرواية الموجزة نراها قصة طويلة عند ابن إسحاق والواقدي تمتد لصفحات.

النزاهة والموضوعية والبُعد عن التعصُّب حتى ولو لأقرب الأقربين له، فقد روى أن سيف الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أعطاه لأبي دجانة رضي الله عنه يوم أحد طلبه أبوه الزبير رضي الله عنه فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيه له (الطبري: ج2، ص: [510]).




رغم أنه قد يُفهَم منها نقصان منزلة أبيه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعند حديثه عن مقتل أخيه مصعب بن الزبير يذكر قول عبد الملك بن مروان رغم أنه قتل على أيدي جنوده؛ "واروه فقد والله كانت الحرمة بيننا وبينه قديمة، ولكن هذا الملك عقيم" (الطبري:ج6، ص: [161]).

الأخذ من مصادر مباشرة؛ إما عن طريق مشاهدته، أو من شهود العيان لها.

أنها لم يهتم تقتصر على الروايات التي تتصل بأمر الحكم فقط، أو ما يُسمَّى في العصر الحديث بالتاريخ السياسي، وإنما تناولت كثيراً من الأمور الاجتماعية.

منهج عروة التاريخي:

ورغم كثرة المرويات التاريخية عن عروة إلا أننا لا نستطيع أن نعرف أو نُحدِّد بإيضاح المنهج الذي سلكه في كتابة مروياته أو جمعها؛ لأن هذه المرويات كما ذكرت وردت متناثرة في ثنايا الكتب، إضافة إلى أن المؤرخين الذين حفظوها لنا كانوا في بعض الأحيان لا ينقلون الرواية كاملة، وإنما يأخذون منها ما يحتاجون لدمجه في مرويات أخرى؛ ليكون الفكرة التي يريدون عرضها أو تقديمها.

1- أنه كان يجمع الروايات التي ترتبط بالحادثة الواحدة ثم يصوغها بأسلوبه الخاص في دقةٍ وتسلّسل، وهذا ما سُمِّيَ فيما بعد بالإسناد الجمعي، فكان عروة أول من اتبعه، وليس الزهري كما ظن بعض الباحثين المعاصرين.

2- أنه كان يمهِّد للحادثة التي يتكلَّم عنها في مُقدِّمة توضح سببها قبل ذكر تفاصيلها (أ. عبد العزيز الدوري: نشأة علم التاريخ عند العرب، ص: [76]).




ومثال ذلك:



تمهيده لهجرة المسلمين إلى الحبشة، بقوله: "لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه لما بعثه الله من الهدى والنور الذي أنزل عليه، ولم يبعدوا منه أول ما دعاهم، وكادوا يسمعون له، حتى ذكر طواغيتهم. وقَدِم ناس من الطائف من قريش لهم أموال، أنكروا ذلك عليه واشتدوا عليه، ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من تبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، فلما فعل ذلك بالمسلمين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة" (الطبري: ج2، ص: [328]).

3- أنه كان يُوضِّح أحياناً العلاقة بين الأحداث ويربط بعضها ببعض، فعند حديثه عن غزوة بدر مثلاً ربط بينها وبين بعض المناوشات التي سبقتها، مثل: مقتل ابن الحضرمي، وإيقاع عبد الله بن جحش رضي الله عنه ببعض قريش وأسر فريق منهم، إذ يقول: "وكان الذي هاج وقعة بدر وسائر الحروب التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش ما كان من قتل واق بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي" (الطبري: ج2، ص: [420]).

4- أنه كان يجمع الآيات القرآنية التي نزلت في الحادثة التي يتكلم عنها أو التي لها صلة بها، ويقوم بتفسيرها.

5- أنه كان يحاول رد ما يوجه إلى بعض الصحابة من اتهام بأمور لا تليق بمنزلتهم على ألسنة ذوي الأهواء، مستنداً إلى المكانة الدينية لهؤلاء الصحابة، فرد اتهام علي رضي الله عنه بالمساعدة على قتل عثمان رضي الله عنه بقوله: "كان علي أتقى لله من أن يُعين على قتل عثمان، وكان عثمان أتقى لله من أن يَقتله علي"[4]، عبارة موجزة لو فقهها المسلمون لوفَّروا ما ضاع من جهد ووقت في بحث خلافات لا وجود لها.

6- أنه لم يكن يكتفي بما يرويه عن غيره، وإنما سجَّل الحوادث التي شاهدها بنفسه، مثل: حديثه عن حصار عثمان بن عفان رضي الله عنه إذ يقول: "وقفتُ وأنا غلام أنظر إلى الذين حاصروا عثمان رضي الله عنه وقد مشى أحدهم إلى الخشبة؛ ليدخل إلى عثمان فلقيه عليها أخي عبد الله فضربه..." (ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق؛ ج7).




ويقول أيضاً مصوراً حال الناس زمن عثمان رضي الله عنه: "أدركتُ زمن عثمان وما من نفس مؤمنة إلا ولها في بيت مال الله حق" (عمر بن شبة: تاريخ المدينة؛ ج4، ص: [1023]).

7- أنه عند حديثه عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم أو المعارك الإسلامية كان يُقدِّم مع أحداث الغزوة قائمة بأسماء من شهدها ومن استشهد فيها، فيقول مثلاً: "ممن شهد بدراً: أبو حذيفة بن عتبة[5]، وثابت بن حسان[6]، وممن شهد أُحداً: ثعلبة بن ساعدة (ابن حجر: الإصابة: ج1، ص: [200])، وممن شهد جسر أبي عبيد أنيس بن عتيك (ابن الأثير: أسد الغابة؛ ج1، ص: [157])، وممن استشهد باليمامة: بشير بن عبد الله الأنصاري" (ابن الأثير: أسد الغابة؛ ج1، ص: [162]).


8- كما أنه قدم تراجم لكثير من الصحابة، وهذه الترجمة قد تكون وافية أحياناً، وأحياناً موجزة لا تتعدى سطراً واحداً، مثل قوله: "كان صهيب من المستضعفين من المؤمنين الذين كانوا يعذبون في الله" البلاذري: أنساب الأشراف؛ ج1، ص: [181]).



وقوله: "كان بلال من المستضعفين من المؤمنين، وكان يُعذِّب حين أسلم ليرجع عن دينه، فما أعطاهم قط كلمة مما يريدون" (البلاذري: أنساب الأشراف؛ ج1، ص: [185]).


9- أنه حرص على إيراد التواريخ وبدقة تامة، فيقول عن نزول الوحي: "عرض له جبريل ليلة السبت وليلة الأحد، ثم أتاه بالرسالة يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان[ ] ورسول الله ابن أربعين" (البلاذري: أنساب الأشراف؛ ج1، ص: [116]).




وانظر إلى وصفه لمرض ووفاة أبي بكر الصديق: "كان أول ما بدأ مرض أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه اغتسل يوم الإثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يوماً بارداً، فحُمَّ خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى الصلاة... وتوفى ليلة الثلاثاء لثمان ليال بقين من جُمادى [سنة 13هـ]، وكانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا أربع ليال، فتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة" (الطبري: ج3، ص: [419]، وما بعدها).

تقييم مروياته:

ورغم ما اشتهر به عروة من فضل، وقبول بين المحدثين إلا أنه لا يمكن التسليم بكل المرويات المنسوبة إليه؛ لأنه بمنزلته العلمية ومكانته من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم يكن بمنأى عن الوضَّاعين أن يستغلوا ذلك ليُروِّجوا عن طريقه بعض أكاذيبهم.


ومن هذه الروايات:

ما نسبهُ إليه أبو نعيم في حلية الأولياء عن عائشة رضي الله عنها "النظر إلى علي عبادة" (أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء؛ ج2، ص: [183])، فقد أشار إلى وضع هذا الخبر صاحب تذكرة الموضوعات، وقال: "إن بعض علماء الحديث أشاروا إلى أنه موضوع ومتنه ينبئ بذلك".

وما نسبهُ إليه السيوطي في كتابه الخصائص: "أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فجاءه إنسان قَدِمَ من ناحية طريق مكة فقال له: هل لقيت أحداً؟ قال: لا يا رسول الله، إلا امرأة سوداء عريانة ثائرة الشعر، فقال رسول الله: «لك الحمى ولن تعود بعد اليوم أبداً" (السيوطي: الخصائص؛ ج1، ص: [483])، والمعروف عند أهل الطب أن الحمى تصيب الإنسان نتيجة فيروسات معينة تهاجم الجسم، فينتج عنها الأعراض التي نراها، فما علاقة ذلك إذاً بالمرأة السوداء ثائرة الشعر، وكيف تشبهت تلك الفيروسات الموجبة لمرض الحمى بها. وإنما الصحيح ما جاء عند البخاري[ ] : «رَأَيْتُ كَأَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنْ الْمَدِينَةِ، حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةَ وَهِيَ الْجُحْفَةُ فَأَوَّلْتُ أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إِلَيْهَا» (البخاري: ج6، ص: [2580]).

وما نُسِبَ إليه عند ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق: "لما نزل طاعون عمواس كان أبو عبيدة معافى منه وأهله، فقال: اللهم نصيبك في آل أبي عبيدة، قال: فخرجت بأبي عبيدة في خنصره بثرة فجعل ينظر إليها، فقيل: إنها ليست بشيء، فقال: إني لأرجو أن يبارك الله فيها، فإنه إذا بارك في القليل كان كثيراً" (ابن الأثير: أسد الغابة؛ ج3، ص: [130])، فمُحال أن يصدر هذا الكلام عن صحابي مثل أبي عبيدة رضي الله عنه، وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن تمني نزول البلاء، وإذا كان أبو عبيدة رضي الله عنه يريد الأجر والثواب ففي رباطه وجهاده، وإذا أراد الموت[ ] في سبيل الله فليس الموت بالطاعون بأفضل من القتل في ساحة القتال.

ثم متى أباح الإسلام الدعاء[ ] بالبركة في المرض[ ] ورسولنا صلى الله عليه وسلم هو القائل: «تداووا عباد الله» (السيوطي: الجامع الصغير؛ ج3، رقم: [3271])، ليس هذا فقط بل طالب المسلم أن يقي نفسه من الإصابة بالأمراض فضلاً عن أن يتمناها قدر إمكانه، فقال صلى الله عليه وسلم: «فُرَّ من المجذوم فرارك من الأسد» (البخاري: ج4، رقم: [5380]).

ومما يدل على بطلان هذا الخبر: أن ابن عساكر أورد خبراً آخر عنه يتوافق مع ما ذكرت، ويليق بأبي عبيدة وفهمه لمقدور الله وهو: "عن أنس: أن عمر بن الخطاب أقبل ليأتي الشام[ ] ، فاستقبله أبو طلحة وأبو عبيدة بن الجراح فقالا: إن معك وجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيارهم، وإنا تركنا بعدنا مثل حريق النار[ ] يعني الطاعون فارجع العام، فرجع" (ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق؛ ج6، ص: [6])، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم بالطاعون في بلدٍ فلا تخرجوا منه، ولا تدخلوا إليه» (أبو داود، السنن رقم: [1130]).




ولكن ذلك لا يجعل الشك يتسرَّب إلينا تِجاه مروياته، فإن طريق التعرُّف على الدخيل عليها يسيراً إن شاء الله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


المراجع:

[1]- (ابن الجوزي: صفة الصفوة؛ ج2، ص: [82]، والبلاذري: أنساب الأشراف ج5، ص: [284]، إصدار مكتبة المثنى ببغداد).


[2]- (ابن كثير: البداية والنهاية؛ ج9، ص: [136]، وانظر أيضاً: خير الدين الزرِكلي: الأعلام؛ ج4، ص: [226]، دار [url=http://ar.islamway.net/search?domain=default&query="%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85 %D9%84%D9%84%D9%85%D9%84%D8%A7%D9%8A%D9%8A%D9%86"]العلم للملايين[/url][ ] بيروت).

[3]-(ابن عبد البر: الدرر في اختصار المغازي والسير؛ ص: [31]، تحقيق: د. شوقي ضيف، دار المعارف بالقاهرة، ط2، سنة 1983م)

[4]-(المبرد الكامل في الأدب: ج2، ص: [916]، تحقيق: محمد أحمد الدالي، نشر مؤسسة الرسالة).

[5]- (ابن حجر: الإصابة: ج4، ص: [34]).


[6]- (ابن الأثير: أسد الغابة؛ ج1، ص: [266]، تحقيق: أ. علي محمد البجاوي، ط سنة 1970م).


عروة بن مسعود الثقفي : الصحابي المشهور والسيد المذكور، زعيم ثقيف في زمانه وأحد وجوه العرب، له الكثير من المأثر والأخبار، هو عظيم القريتين على ما ذُكر لدى المفسرين وابوه مسعود بن معتب سيد بني ثقيف في حرب الفجار ضد كنانة .

نسبه

هو عروة بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف بن منبه .الثقفي، أبو مسعود، وقيل‏:‏ أبو يعفور‏.‏ وأمه سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف القرشية، يجتمع هو والمغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود في مسعود‏.‏ وهو جد أم الحجاج بن يوسف الثقفي.
ولادته ونشأته

ولد في الطائف في بيت عز وشرف، فأبوه مسعود بن معتب كان زعيم ثقيف وقيس عيلان في حرب الفجار أمام قريش وكنانة، وقد حضر تلك الحروب هو وأخوتة الأسود ونويرة ووحية وهم يومئذٍ غلمان، فكانوا في يوم عكاظ - إحدى أيام حرب الفجار - يجيرون قومهم ويدخلونهم خباء أمهم سبيعة بنت عبد شمس وهي أمرتهم بذيلك ليسودوا. وبذلك تحققت لة السيادة والشرف من الصغر فأصبح مقدماً لدى قومة وأحد وجية العرب وأشرافها.
إنقاذة ثقيف من حرب بين بطونها

وكان المغيرة بن شعبة خرج مع نفر من بني مالك بن حطيط ابن جشم بن قسي والمغيرة أحد الأحلاف ومع المغيرة حليفان له يقال لأحدهما دمون رجل من كندة والآخر الشريد - وإنما كان اسمه عمرو فلما صنع المغيرة بأصحابه ما صنع شرد فسمي الشريد- خرجوا إلى المقوقس صاحب الإسكندرية فجاء بني مالك وآثرهم على المغيرة فأقبلوا راجعين حتى إذا كانوا ببساق شربوا خمرا فكف المغيرة عن بعض الشراب وأمسك نفسه وشربت بنو مالك حتى سكروا فوثب عليهم المغيرة فقتلهم وكانوا ثلاثة عشر رجلا فلما قتلهم ونظر إليهم دمون تغيب عنه وظن أن المغيرة إنما حمله على قتلهم السكر فجعل المغيرة يطلب دمون ويصيح به فلم يأت ويقلب القتلى فلا يراه فبكى فلما رأى ذلك دمون خرج إليه فقال المغيرة ما غيبك قال خشيت أن تقتلني كما قتلت القوم قال المغيرة إنما قتلت بني مالك بما صنع بهم المقوقس قال وأخذ المغيرة أمتعتهم وأموالهم ولحق بالنبي () فقال النبي()(لا أخمسه هذا غدر) وذلك حين أخبر النبي() خبرهم وأسلم المغيرة وأقبل الشريد فقدم مكة فأخبر أبا سفيان بن حرب بنعمان واد لهذيل على ليلتين من عرفات، وهو بين مكة والطائف بما صنع المغيرة ببني مالك فبعث أبو سفيان معاوية بن أبي سفيان إلى عروة بن مسعود يخبره الخبر وهو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب فقال معاوية خرجت حتى إذا كنت بنعمان قلت في نفسي إن أسلك ذا غفار فهي أبعد وأسهل وإن سلكت ذا العلق فهي أغلظ وأقرب فسلكت ذا غفار فطرقت عروة بن مسعود من الليل فأخبرته الخبر فقال عروة انطلق إلى مسعود بن عمرو المالكي فوالله ما كلمته منذ عشر سنين والليلة أكلمه قال فخرجنا إلى مسعود فناداه عروة فقال من هذا فقال عروة فأقبل مسعود إلينا وهو يقول أطرقت عراهية أم طرقت بداهية بل طرقت بداهية أقتل ركبهم ركبنا أم قتل ركبنا ركبهم لو قتل ركبنا ركبهم ما طرقني عروة بن مسعود فقال عروة أصبت قتل ركبي ركبك يا مسعود انظر ما أنت فاعل فقال مسعود إني عالم بحدة بني مالك وسرعتهم إلى الحرب فهبني صمتا قال فانصرفنا عنه فلما أصبح غدا مسعود فقال يا بني مالك إنه قد كان من أمر المغيرة بن شعبة أنه قتل إخوانكم بني مالك فأطيعوني وخذوا الدية اقبلوها من بني عمكم وقومكم قالوا لا يكون ذلك أبدا والله لا نترك الأحلاف أبدا حتى تقبلها قال أطيعوني واقبلوا ما قلت لكم فوالله لكأني بكنانة بن عبد ياليل قد أقبل يضرب درعه روحتى رجليه لا يعانق رجلا إلا صرعه والله لكأني بجندب بن عمرو قد أقبل كالسيد عاضا على سهم مفوق بآخر لا يشير إلى أحد بسهمه إلا وضعه حيث يريد فلما غلبوه أعدوا القتال واصطفوا أقبل كنانة بن عبد ياليل يضرب درعه روحتي رجليه يقول من مصارع ثم أقبل جندب بن عمرو عاضا سهما مفوقا بآخر قال مسعود يا بني مالك أطيعوني قال الأمر إليك قال فبرز مسعود بن عمرو فقال يا عروة بن مسعود اخرج إلي فخرج إليه فلما التقيا بين الصفين قال عليك ثلاث عشرة دية فإن المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلا فاحمل بدياتهم قال عروة حملت بها هي علي قال فاصطلح الناس فقال الأعشى أخو بني بكر وائل يمدح عروة :
تحمل عروة الأحلاف لما
رأى أمرا تضيق به الصدور ثلاث مئين عادية وألفا
كذلك يفعل الجلد الصبور [1]
سعيه في صلح الحديببية

لما بعث النبي صلى الله علية وسلم بعثاً إلى قريش فأبوا أن يسمعوا فقال عروة بن مسعود: والله ما رأيت كاليوم رأياً أعجب! وما تكرهون أن تسمعوا من بديل وأصحابه؟ فإن أعجبكم أمرٌ قبلتموه، وإن كرهتم شيئاً تركتموه؛ لا يفلح قومٌ فعلوا هذا أبداً! وقال رجالٌ من ذوي رأيهم وأشرافهم، صفوان ابن أمية والحارث بن هشام: أخبرونا بالذي رأيتم والذي سمعتم. فأخبروهم بمقالة النبي التي قال، وما عرض على قريشٍ من المدة، فقال عروة: يا معشر قريش تتهمونني؟ ألست الوالد وأنا الولد؟ وقد استنفرت أهل عكاظٍ لنصركم، فلما بلحوا علي نفرت إليكم بنفسي وولدي ومن أطاعني! فقالوا: قد فعلت! فقال: وإني ناصحٌ لكم شفيقٌ عليكم، لا أدخر عنكم نصحاً، وإن بديلاً قد جاءكم بخطة رشدٍ لا يردها أحد أبداً إلا أخذ شراً منها، فاقبلوها منه وابعثوني حتى آتيكم بمصداقها من عنده، وأنظر إلى من معه وأكون لكم عيناً آتيكم بخبره. فبعثته قريشٌ إلى رسول الله ، وأقبل عروة بن مسعود حتى أناخ راحلته عند رسول الله ، ثم أقبل حتى جاءه، ثم قال: يا محمد، إني تركت قومك، كعب بن لؤي وعامر بن لؤي على أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، قد استنفروا لك أحابيشهم ومن أطاعهم، وهم يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تجتاحهم. وإنما أنت من قتالهم بين أحد أمرين، أن تجتاح قومك، ولم نسمع برجلٍ اجتاح أصله قبلك؛ أو بين أن يخذلك من نرى معك، فإني لا أرى معك إلا أوباشاً من الناس، لا أعرف وجوههم ولا أنسابهم. فغضب أبو بكر الصديق وقال: امصص بظر اللات! أنحن نخذله؟ فقال عروة: أما والله لولا يدٌ لك عندي لم أجزك بها بعد لأجبتك! وكان عروة بن مسعود قد استعان في حمل ديةٍ، فأعانه الرجل بالفريضتين والثلاث وأعانه أبو بكر بعشر فرائض، فكانت هذه يد أبي بكر عند عروة بن مسعود. فطفق عروة وهو يكلم رسول الله يمس لحيته - والمغيرة قائمٌ على رأس رسول الله بالسيف، على وجهه المغفر - فطفق المغيرة كلما مس لحية رسول الله قرع يده ويقول: اكفف يدك عن مس لحية رسول الله قبل ألا تصل إليك! فلما أكثر عليه غضب عروة فقال: ليت شعري من أنت يا محمد من هذا الذي أرى من بين أصحابك؟ فقال رسول الله : هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. قال: وأنت بذلك يا غدر؟ والله ما غسلت عنك عذرتك إلا بعلابط أمس! لقد أورثتنا العداوة من ثقيف إلى آخر الدهر!. لما فرغ عروة بن مسعود من كلام رسول الله ورد عليه رسول الله ما قال لبديل بن ورقاء وأصحابه وكما عرض عليهم من المدة، ركب عروة بن مسعود حتى أتى قريشاً فقال: (يا قوم، إني قد وفدت على الملوك، على كسرى وهرقل والنجاشي، وإني والله ما رأيت ملكاً قط أطوع فيمن هو بين ظهرانيه من محمدٍ في أصحابه؛ والله ما يشدون إليه النظر، وما يرفعون عنده الصوت، وما يكفيه إلا أن يشير إلى أمرٍ فيفعل، وما يتنخم وما يبصق إلا وقعت في يدي رجلٍ منهم يمسح بها جلده، وما يتوضأ إلا ازدحموا عليه أيهم يظفر منه بشيءٍ؛ وقد حرزت القوم، واعلموا أنكم إن أردتم السيف بذلوه لكم؛ وقد رأيت قوماً ما يبالون ما يصنع بهم إذا منعوا صاحبهم؛ والله لقد رأيت نسياتٍ معه إن كن ليسلمنه أبداً على حال؛ فروا رأيكم، وإياكم وإضجاع الرأي، وقد عرض عليكم خطةً فمادوه! يا قوم، اقبلوا ما عرض فإني لكم ناصح، مع أني أخاف ألا تنصروا عليه! رجلٌ أتى هذا البيت معظماً له، معه الهدي ينحره وينصرف.) [2]
إسلامه واستشهاده

كان عروة بن مسعود حين حاصر النبي أهل الطائف بجرش يتعلم عمل الدبابات والمنجنيق ثم رجع إلى الطائف بعد أن ولى رسول الله فعمل الدبابات والمنجنيق والعرادات وأعد ذلك حتى قذف الله عز وجل في قلبه الإسلام فقدم المدينة على النبي فأسلم.. قصة إسلامه قال ابن إسحاق: لما انصرف رسول الله من الطائف اتبع أثره عروة بن مسعود بن معتب حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، وسأل رسول الله أن يرجع إلى قومه بالإسلام فقال له رسول الله : " إن فعلت فإنهم قاتلوك ". فقال له عروة: يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبصارهم وكان فيهم محببا مطاعا فخرج يدعو قومه إلى الإسلام فاظهر دينه رجاء ألا يخالفوه لمنزلته فيهم ورجع عروة إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام، ولكنهم غضبوا منه وسبوه، وأسمعوه ما يكره، وفي فجر اليوم التالي صعد عروة فوق سطح غرفة له وأذن للصلاة، فخرجت إليه ثقيف، ورموه بالنبل من كل اتجاه، فأصابه سهم فوقع على الأرض، فحمله أهله إلى داره، وهناك قيل لعروة: ما ترى في دَمِكَ؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليَّ، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. فلما علم بما حدث لعروة قال: (مَثَلُ عروة في قومه مَثَلُ صاحب ياسين دعا قومه إلى الله فقتلوه) [الطبراني]. وقال: (عُرض عليَّ الأنبياء، فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى بن مريم—فإذا أقرب مَنْ رأيت به شبهًا عروة بن مسعود). 3
أخبرنا أبو جعفر بن السمين بإسناده إلى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق‏:‏ أن رسول الله لما انصرف عن ثقيف اتبع أثره عروة بن مسعود بن معتب، فأدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله ، كما يتحدث قومه‏:‏ إنهم قاتلوك‏.‏ وعرف رسول الله أن فيهم نخوة بالامتناع الذي كان منهم، فقال له عروة‏:‏ يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبصارهم‏.‏ وكان فيهم محبباً مطاعاً، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام، ورجا أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف لهم على علية وقد دعاهم إلى الإسلام، وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله‏.‏ وتزعم بنو مالك أنه قتله رجل منهم، يقال له‏:‏ أوس بن عوف أحد بني سالم بن مالك، وتزعم الأحلاف أنه قتله رجل منهم، من بني عتاب بن مالك، يقال له‏:‏ وهب بن جابر، فقيل لعروة‏:‏ ما ترى في دمك، فقال‏:‏ كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي، فليس فيّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله مع رسول الله قبل أن يرحل عنكم، فادفنوني معهم‏.‏ فدفنوه معهم، فيزعمون أن رسول الله قال فيه‏:‏ ‏"‏إن مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه‏"‏‏.‏ 4
عظيم القريتين

وقال قتادة:‏ ‏{‏لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏، قالها الوليد بن المغيرة المخزومي أبو خالد قال‏:‏ لو كان ما يقول محمد حقاً أنزل القرآن علي، أو على عروة بن مسعود الثقفي‏.‏ قال‏:‏ والقريتان‏:‏ مكة والطائف‏.‏
وكان عروة يشبه بالمسيح في صورته‏.‏
روى عنه حذيفة بن اليمان أن النبي قال‏:‏ ‏"‏لقنوا موتاكم لا إله إلا الله فإنها تهدم الخطايا كما يهدم السيل البنيان‏"‏‏.‏ قيل يا رسول الله، كيف هي للأحياء? قال‏:‏ ‏"‏هي للأحياء أهدم وأهدم‏"‏‏.‏
ولعروة ولد يقال له‏:‏ أبو المليح، أسلم بعد قتل أبيه مع قارب بن الأسود‏.‏
أخرجه الثلاثة‏.‏ المصدر: أسد الغابة في معرفة الصحابة (ابن الأثير)