إنَّه عروة بن مسعود الثقفي أحد أكابر قومه، وكان أحد الذين أرسلتهم قريش إلى النبي صلى الله عليه و سلم يوم صلح الحديبية ليفاوضه، ويومها قال عروة للنبي صلى الله عليه و سلم: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك. [البخاري].
ثم رجع عروة إلى أهل مكة، وقال: إني رأيت من أصحاب محمد العجب، فوالله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلَّك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيمًا له: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمدًا، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فكان لعروة اليد البيضاء في تقرير الصلح يوم الحديبية.
وروى أن عروة بن مسعود ظل على شركه حتى عزم الرسول صلى الله عليه و سلم على فتح الطائف، وجهز النبي صلى الله عليه و سلم سرية من أصحابه، وخرج معهم إلى ثقيف، التي تحصنت بحصون عظيمة، فعسكر النبي صلى الله عليه و سلم بسريته حول الحصن عدة أيام، فلما وجد أن الحصار لا يفيد قرر العودة إلى المدينة، فلحق به عروة سيد ثقيف، فأسلم وحسن إسلامه، ثم استأذن النبي صلى الله عليه و سلم أن يرجع إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم: (إن فعلت فإنهم قاتلوك)، فقال عروة: يا رسول الله، أنا أحبُّ إليهم من أبصارهم، فأذن له النبي صلى الله عليه و سلم.
ورجع عروة إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام، ولكنهم غضبوا منه وسبوه، وأسمعوه ما يكره، وفي فجر اليوم التالي صعد عروة فوق سطح غرفة له وأذن للصلاة، فخرجت إليه ثقيف، ورموه بالنبل من كل اتجاه، فأصابه سهم فوقع على الأرض، فحمله أهله إلى داره، وهناك قيل لعروة: ما ترى في دَمِكَ؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليَّ، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. فلما علم صلى الله عليه و سلم بما حدث لعروة قال: (مَثَلُ عروة في قومه مَثَلُ صاحب ياسين دعا قومه إلى الله فقتلوه) [الطبراني].
وقال صلى الله عليه و سلم: (عُرض عليَّ الأنبياء، فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى بن مريم -عليه السلام- فإذا أقرب مَنْ رأيت به شبهًا عروة بن مسعود. [مسلم].
هو عروة بن مسعود بن معتّب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف الثقفي.وهو عم والد المغيرة بن شعبة، وأمه سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف أخت آمنة، كان أحد الأكابر من قومه، وقيل: إنه المراد بقوله: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31], قال ابن عباس وعكرمة ومحمد بن كعب وقتادة والسدي: المراد بالقريتين مكة والمدينة، واختلفوا في تعيين الرجل المراد، فعن قتادة أرادوا الوليد بن المغيرة من أهل مكة وعروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف.
حال عروة بن مسعود في الجاهلية:
قالوا: كان عروة بن مسعود حين حاصر النبي أهل الطائف بجرش يتعلم عمل الدبابات والمنجنيق ثم رجع إلى الطائف بعد أن ولى رسول الله فعمل الدبابات والمنجنيق والعرادات وأعد ذلك حتى قذف الله في قلبه الإسلام فقدم المدينة على النبي فأسلم..
قصة إسلام عروة بن مسعود :
قال ابن إسحاق: لما انصرف رسول الله من الطائف اتبع أثره عروة بن مسعود بن معتب حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم, وسأل رسول الله أن يرجع إلى قومه بالإسلام, فقال له رسول الله : "إن فعلت فإنهم قاتلوك". فقال له عروة: يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبصارهم, وكان فيهم محببًا مطاعًا, فخرج يدعو قومه إلى الإسلام فأظهر دينه رجاء ألا يخالفوه لمنزلته فيهم, فلما أشرف على قومه وقد دعاهم إلى دينه رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله .
بعض مواقف عروة بن مسعود مع النبي :
أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث مسور بن مخرمة في حديث صلح الحديبية وفي هذا الحديث أن عروة بن مسعود الثقفي وكان إذ ذاك كافرًا قال لقريش: ألست منكم بمنزلة الولد؟ قالوا: بلى، قال: ألستم مني بمنزلة الوالد؟ قالوا: بلى، قال: فدعوني آته -يقصد النبي عليه الصلاة والسلام- فأعرض عليه وقد عرض عليكم خطة رشد، وكان النبي قال لبديل بن ورقاء قبل عروة بن مسعود: "إننا ما جئنا لقتال إنما جئنا قاصدين البيت"، وكان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قد أهلوا بالعمرة فصدتهم قريش عن البيت, فقال النبي عليه الصلاة والسلام لبديل بن ورقاء: "إننا ما جئنا لقتال إنما جئنا قاصدين البيت فإن شاءوا ماددتهم مدة وإلا فوالله لأقاتلنهم على أمري حتى تنفرد سالفتى", يعنى: أنا إذا دخلت في حرب, أنا لا أتهاون ولن أتردد أبدًا في أن أدخل في حرب، إنما إذا أرادوا الهدنة ماددتهم مدة أخرى..
هذا الكلام لم يعجب قريشًا وظلت المسائل في شد وجذب فلما رأى عروة بن مسعود الثقفي هذا الشد والجذب قال: فدعوني آته ربما يكون هناك أمور أخرى في المفاوضات فيقول قولاً آخر بخلاف ما قاله لبديل بن ورقاء, ثم إن عروة بن مسعود قال قولاً ليؤكد أمانته في رفع التقرير، قال: ألستم مني بمنزلة الوالد؟ وعادة لا يخدع الولد والده، قالوا: بلى، قال: ألست منكم بمنزلة الولد؟ يعني أنتم مني بمنزلة الوالد وأنا منكم بمنزلة الولد, يعني مسألة الخيانة في رفع التقرير هذه مسألة غير واردة -قالوا بلى- قال: دعوني آته, فجاء النبي عليه الصلاة والسلام, فقال له نحوًا من قوله لبديل بن ورقاء, فجاءه عروة بن مسعود فقال: يا محمد, إنها واحدة من اثنتين إذا قامت الحرب بيننا وبينك واجتحت قومك وغلبتهم ووضعت أنوفهم في التراب فهل علمت أحدًا اجتاح قومك قومه قبلك؟ كأنه يذكره أن هذا ليس من مكارم الأخلاق -إنك إن ظفرت بقومك وأهلك وعشيرتك فإنك تفعل فيهم كل ذلك، وإلا كأنه قال: وما أخالك تستطيع أن تفعل كل ذلك وإذا قامت الحرب فوالله ما أرى حولك إلا أوباشًا خليقًا أن يفروا ويدعوك، قال أبو بكر : أنحن نفر وندعه؟ وقال له كلمة عظيمة، فقال عروة بن مسعود: من هذا؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "إنه ابن أبى قحافة", فقال: والله لولا أن لك عليّ يدًا لأجبتك..
وفي رواية محمد بن إسحاق عن الزهري عن المسور في هذا الحديث قال: ولكن هذه بتلك، يعني هذه الإساءة منك أكلت جميلك السابق وليس لك عندي جميل، فمعنى الكلام: أنك لو تكلمت في حق آلهتنا لرددت عليك لأنك استوفيت جميلك السابق بهذه الكلمة العظيمة، ثم كان وقت الظهر فجيء للنبي بوضوء -وترك النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه يفعلون ما كان ينهاهم عنه قبل ذلك وهذه سياسة حكيمة- هذه هي السياسة الشرعية -رعاية المصالح- النبي كان ينهى الصحابة عن القيام فقد فعلوا في هذا الموقف ما هو أعظم من القيام ومع ذلك تركهم النبي لماذا؟ حتى يرى عدوه أن هؤلاء لا يسلمونه أبدًا وأن هؤلاء لو دخلوا في حرب لا يهزمون، وجيء بوضوء فتوضأ النبي فاغتسل أصحابه على وضوئه، ما سقطت قطرة ماء على الأرض.
وكان ينهى عن أقل من ذلك -ولما قال له رجل: أنت سيدنا وابن سيدنا قال: "قولوا بقولكم ولا يستجدينكم الشيطان إنما أنا عبد الله ورسوله"، مجرد كلام قاله الرجل وهو كذلك، هو سيدنا لا شك في ذلك ومع ذلك يقول: "قولوا بقولكم ولا يستجدينكم الشيطان إنما أنا عبد الله ورسوله", تركهم يغتسلون على وضوئه وما تنخم نخامة فوقعت في يد رجل إلا دلك بها وجهه وجلده، ولا يحدون النظر إليه تعظيمًا له -أي لا ينظر إليه فيملأ عينيه منه ولكن كان يصوب وجهه إلى الأرض- ولا يرفعون أصواتهم عنده.
فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أي قوم قد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي, فوالله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمدًا! وحدثهم ما رأى وما قال النبي .