تأييد الله تعالى ونصرته لنبيه صلى الله عليه وسلم



إنه من غير المقبول أن يكون هناك ربٌّ خالق مطَّلع، قادرٌ على كل شيء، يقبل ادِّعاء من يكذب عليه ويتركه يمضي هكذا، حاشاه وكلاَّ، بل إن الله تعالى قد توعَّد من كذَب عليه، فقال: ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ [الحاقة: 44 - 47]، وقال: ﴿ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ﴾ [طه: 61]، والواقع ينطق بإقرار الله - عز وجل - لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - وتأييده ونُصرته له.




واقرأ معنا هذا الكلام القيِّم للإمام ابن القيِّم في مناظرة جرَت مع يهودي يُنكر نبوَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -:

قيل لليهودي: إذا قلتُم: إن محمدًا ليس رسولاً من عند الله، وقد أقام ثلاثًا وعشرين سنة يدَّعي النبوة والرسالة، ويدَّعي أنه يُوحَى إليه، وأن ما يقوله وحي من عند الله، فلا يخلو الأمر من احتمالين:

• إما أن تقولوا: إن الله تعالى لا يطَّلع على ما يقول ويفعل محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وبهذا تكونون قد نسَبتم إلى الله أقبحَ الجهل، وادَّعيتُم أن مَن عَلِم ذلك أعلمُ منه، وحاشاه - سبحانه.




• وإن قلتم: إنه يعلم ويطَّلع، فإما أن يكون قادرًا على التغيير، ومنَع ذلك، أو لا يكون.




• فإن لم يكن قادرًا، فقد نسَبتم إلى الله - سبحانه - أقبحَ العجز المنافي للربوبية، وإن كان قادرًا ومع ذلك أقرَّه وأيَّده، وأجرى على يديه المعجزات التي تتجاوز الألف، ونصَره على أعدائه، وأجاب دعاءه، فقد ادَّعيتُم على الله الظلم والسَّفه - والعياذ بالله - والذي لا يليق نسبته إلى أحد من العقلاء، فضلاً عن رب الأرض والسماء[1].




نعم، لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كاذبًا - وحاشاه - كيف يتركه الله تعالى يكذب عليه، ويَنسب إليه - سبحانه - ما لم يقله، وفوق ذلك يسدِّده ويؤيِّده ويَنصره على كل مَن عاداه، وعلى كل مَن آذاه؟! وكيف يُجيب دعاءه، بل أحيانًا تأتي الإجابة بعد الدعاء مباشرة؟!




في حين أنه ما من كاذبٍ يدَّعي النبوة كذبًا إلا والله - سبحانه - يَفضَحه ويَخذُله، بل ويُهلكه؛ كما كان من مُسيلمة الكذاب الذي ادَّعى النبوة، وإثباتًا لادِّعائه الكاذب وضَع يده على عين مريض زعمًا منه أن عين المريض ستُشفى، وإذ بالعين السليمة يُصيبها العمى، وكذلك غيره ممن عرَفهم التاريخ، وافتضحوا على الفور، بل إن هذا من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر أنه سيظهر ثلاثون كذابًا يدَّعون النبوة؛ حيث قال: ((لا تقوم الساعة حتى يُبعث دجَّالون كذَّابون قريبٌ من ثلاثين، كلهم يزعُم أنه رسول الله))[2].




التأييد بإجابة الدعاء:

كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكاد يدعو بدعاءٍ، إلا استجاب الله - سبحانه - له في الحال، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:

أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أتاه رجل يوم الجمعة، وسأله أن يدعو الله - سبحانه - لإنزال المطر، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أن أنهى الدعاء إلا ومطر شديد يَنزل من السماء، في حين أنه قبل أن يدعوَ كانت السماء صافيةً، وظل المطر ينزل حتى الجمعة التي بعدها، إلى أن جاء هذا الرجلُ يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الله أن يوقف المطر، ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأوقَف الله المطر، ويروي لنا ذلك أنس بن مالك: أن رجلاً دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فاستقبل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا، ثم قال: يا رسول الله، هلَكت الأموالُ، وانقطعت السُّبل، فادعُ الله يُغثْنا، قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه، ثم قال: ((اللهمَّ أغثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهمَّ أغثنا))، قال أنس: ولا والله، ما نرى في السماء من سحاب ولا قَزَعة، وما بيننا وبين سَلْعٍ من بيت ولا دارٍ، قال: فطلعت من ورائه سحابةٌ مثل التُّرس، فلما توسَّطت السماء، انتشرت، ثم أمطَرت، قال: فلا والله، ما رأينا الشمس سبتًا، قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فاستقبله قائمًا، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل؛ فادعُ الله، يُمسكْها عنَّا، قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: ((اللهم حَولنا ولا علينا، اللهم على الآكام والظِّراب، وبطون الأوْدِية ومنابت الشجر))، فانقلَعت، وخرَجنا نمشي في الشمس[3].




وكما دعا يوم بدر بعد أن أخذ بالأسباب، فتضرَّع إلى ربه طويلاً؛ فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لَمَّا كان يوم بدر، نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة، ثم مدَّ يديه، فجعل يهتف بربه: ((اللهم أنجِز لي ما وعَدتني، اللهم آتِ ما وعدتني، اللهم إن تَهلِك هذه العصابة من أهل الإسلام، لا تُعبَدْ في الأرض))، فما زال يهتف بربه مادًّا يديه، مستقبلاً القبلة، حتى سقط رداؤه عن مَنكِبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكِبيه، ثم التزَمه من ورائه، وقال: يا نبيَّ الله، كفاك مناشدتُك ربَّك؛ فإنه سيُنجز لك ما وعدك، فأنزل الله - عز وجل -: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9][4].




فانظر كيف تضرَّع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه - سبحانه - فكانت الاستجابة على الفور؛ حيث أنزل الله الملائكة؛ لتؤيِّده ومن معه، إلى غير ذلك من الأدعية الكثيرة التي استجابها الله لنبيِّه في الحال، وهذا لا يمكن أن يتيسَّر لكاذبٍ، بل لا يكون إلا لصادق مؤيَّدٍ من الله تعالى!




التأييد بخِذلان الأعداء:

وهذا باب عظيم يُثبت بما لا يدَع مجالاً للشك - صدقَ ونبوَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث إن الله - عز وجل - كان يُسارع في رد كيد من كادوا لنبيِّه ومصطفاه - صلى الله عليه وسلم - بل كان يَخذُلهم شرَّ خِذلان، ولِمَ لا وهو نبيُّه وصفيُّه من خلقه - صلى الله عليه وسلم؟




ولذلك يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾ [الحج: 38]، فكيف يكون دفاع الله تعالى عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - وقد قال له: ﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 137]، وقال له: ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [الحجر: 95]، وقال له: ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67]؟!




ومن أمثلة ذلك:

1- ما رواه أنس - رضي الله عنه - حيث قال: كان رجل نصرانيًّا، فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فعاد نصرانيًّا، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبتُ له، فأماته الله، فدفنوه، فأصبح وقد لفَظَتْه الأرض، فقالوا: هذا فِعلُ محمد وأصحابه؛ لَمَّا هرب منهم، نبَشوا عن صاحبنا فألقَوه، فحفروا له فأعمَقوا، فأصبح وقد لفظَتْه الأرض، فقالوا: هذا فِعلُ محمد وأصحابه؛ نبَشوا عن صاحبنا لَمَّا هرب منهم، فألقوه، فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظَته الأرض، فعلِموا أنه ليس من الناس، فألقَوه[5].




2- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو جهل: هل يُعفِّر محمد وجهه[6] بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيتُه يفعل ذلك، لأطَأَنَّ على رقبته، أو لأُعَفِّرنَّ وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، زعَم ليَطأ على رقبته، قال: فما فجِئَهم[7] منه إلا وهو يَنكُص على عَقِبيه[8]، ويتَّقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهَولاً وأجنحة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو دنا مني، لاختَطفتْه الملائكة عضوًا عضوًا))[9].




3- ما حدث لزوجة أبي لهب أمِّ جميل بنت حرب (حمَّالة الحطب): وتروي لنا ذلك أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: لما نزَلت: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ [المسد: 1]، أقبلت العوراء أمُّ جميل بنت حرب ولها وَلْوَلة، وفي يدها فِهر، وهي تقول: مُذمَّمًا أبَيْنا، ودينَه قلَينا، وأمْرَه عصَينا، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر، قال: يا رسول الله، قد أقبلتْ وأنا أخاف أن تراك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنها لن تراني))، وقرأ قرآنًا، فاعتَصم به، فوقفت على أبي بكر ولم ترَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا أبا بكر، إني أُخبِرتُ أن صاحبك هجاني، فقال: لا وربِّ هذا البيت، ما هجاك، فولَّت وهي تقول: قد علِمت قريش أني بنت سيدها[10].




4- وفي العصر الحديث أمثلة كثيرة؛ منها: ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عن أحوال تحدث مع مَن تُسوِّل لهم أنفسهم أن يَستهزئوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: لَمَّا حصَر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نَحصُر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا، حتى نكاد نيئَس، حتى إذ تعرَّض أهله لسبِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والوقيعة في عِرضه، فعجَّلنا فتْحه وتيسَّر، ولم يكد يتأخَّر إلا يومًا أو يومين، أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عَنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمِعناهم يَقَعُون فيه، مع امتلاء القلوب غيظًا بما قالوه فيه - صلى الله عليه وسلم[11].




التأييد في الهجرة:

خرَج النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه أبو بكر الصديق مهاجرَينِ إلى المدينة النبوية، واختَفيا في غار ثور ثلاثة أيام، وصعِد المشركون إلى الغار بحثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، فحمى الله نبيَّه وأبا بكرٍ منهم، قال أبو بكر: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه، لأبصرنا، فقال: ((ما ظنُّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟!))[12].




وأشار القرآن إلى ذلك، فقال تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].




نُصرة الله لرسوله بالريح الشديدة في غزوة الأحزاب:

يقول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴾ [الأحزاب: 9، 10].




فلقد تجمَّع الأحزاب من الكفار لقتال النبي، وكان عددهم نحوًا من عشرة آلاف، وتحالفوا مع اليهود القاطنين في شرق المدينة على حرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، واشتدَّ الحال على المسلمين الذين حفروا خندقًا بينهم وبين الكفار، واستمر الكفار قريبًا من شهر وهم يحاصرون المسلمين في المدينة.




دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأحزاب، فقال: ((اللهم مُنزل الكتاب، سريع الحساب، اهزِم الأحزاب، اللهم اهزِمهم وزلْزِلهم))[13].




فاستجاب الله تعالى دعاء رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأرسل على الأحزاب ريحًا شديدة أقضَّت مضاجعهم، وجنودًا زلزَلتْهم، مع ما ألقى الله - سبحانه - بينهم من التخاذل، فأجمعوا أمرَهم على الرحيل وترْك المدينة النبوية.




ولو كانت هذه المعجزة لم تَقع، لتشكَّك المسلمون في القرآن، وربما ارتدُّوا عن دينهم، وقالوا: كيف نُصدِّق ما لم يَقع؟!




تسديد الله - سبحانه - لرَمْيَة رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17].




يقول الله تعالى لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - في شأن القبضة من التراب التي حصَب بها وجوه الكافرين يوم معركة بدر، حين خرج - صلى الله عليه وسلم - من العريش بعد دعائه وتضرُّعه، فرماهم بها، وقال: ((شاهَت الوجوه))، فلم يبقَ أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17]؛ أي: هو الذي بلَّغ ذلك إليهم وكبَتهم بها لا أنت[14].




ولو لم تكن تلك الرَّمْية من الرسول قد حدثت، لسارَع المسلمون والمؤمنون بتكذيب الآية، واتهام الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بالكذب، وحاشاه.




وقد جاءت رواية عند مسلم بوقوع نفس الآية في غزوة حُنين، ويروي لنا ذلك إياس بن سلمة، قال: حدثني أبي، قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُنينًا، فلما واجهْنا العدوَّ، تقدمت فأعْلُو ثَنيَّةً، فاستقبلني رجل من العدو، فأرْمِيه بسهمٍ، فتوارى عني، فما دريتُ ما صنع، ونظرت إلى القوم، فإذا هم قد طلعوا من ثنيةٍ أخرى، فالتَقوا هم وصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - فولَّى صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرجِع منهزمًا وعليّ بُردتان مُتَّزِرًا بإحداهما، مرتديًا بالأخرى، فاستطلق إزاري، فجمعتهما جميعًا، ومررت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهزمًا وهو على بَغلته الشَّهباء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد رأى ابن الاكوع فزَعًا))، فلما غَشوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزَل عن البغلة، ثم قبض قبضةً من تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: ((شاهت الوجوه))، فما خلَق الله منهم إنسانًا إلا ملأ عينيه ترابًا بتلك القَبضة، فولَّوا مدبرين، فهزَمهم الله - عز وجل - وقسَم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائمهم بين المسلمين[15].




التأييد بالمواساة والتثبيت وتسخير الأعوان:

فقد أيَّده الله بزوجه خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - في أول الدعوة، وأيَّده بعمِّه الذي كان في كَنفه، وكان عمُّه على الشِّرك، بل مات عليه، ولكنه حال بينه وبين قريش، وأيَّده بعمِّه حمزة - رضي الله عنه - الذي آمَن به، ووقف سدًّا وحصنًا منيعًا له، وأيَّده بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استجابةً لدعائه - صلى الله عليه وسلم.




ثم حينما مات عنه عمه وزوجه، واساه ربُّه، وسرَّى عنه بمعجزة عظيمة، وهي رحلة الإسراء والمعراج، كانت من أعظم المعجزات الدالة على مكانة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ربِّه، وبين إخوانه من الأنبياء، وكذلك مكانة الصلاة؛ حيث فُرِضت من فوق سبع سموات[16].




وبعدُ، فهذه ملامح يسيرة موجزة عن إقرار الله تعالى وتأييده ونُصرته لحبيبه ومصطفاه، وصَفيه من خلقه ومُجتباه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فهل يُعقَل أن يكون هذا الإقرار والتأييد والنصرة إلا لرسول ونبيٍّ؟!




فصلى الله على خير خلْقه وخاتم رُسله، وعلى آله وصحبه وسلم.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] هداية الحيارى (1/ 87)؛ لابن القيِّم؛ (بتصرُّف).

[2] رواه البخاري (3609)، ومسلم (157) عن أبي هريرة - رضي الله عنه.

[3] رواه البخاري (933)، ومسلم (897) عن أنس - رضي الله عنه.

[4] رواه مسلم (1763).

[5] رواه البخاري (3617)، مسلم (2781).

[6] هل يُعفِّر محمد وجهه؛ أي: يَسجد، ويُلصِق وجهه بالتراب.

[7] فجِئَهم؛ أي: بغَتهم.

[8] ينكُص على عقِبيه؛ أي: رجَع يمشي وراءه.

[9] رواه مسلم (2797).

[10] رواه الحاكم في المستدرك (2/ 393 - 3376)، وهو صحيح (تعليق الذهبي في التلخيص)، وصحَّحه الألباني في صحيح السيرة (137).

[11] الصارم المسلول (1/123).

[12] رواه البخاري (4663)، مسلم (2381).

[13] رواه البخاري (3025)، ومسلم (1742) عن عبدالله بن أبي أَوفَى - رضي الله عنه.

[14] انظر: تفسير ابن كثير (2/ 391)، سورة الأنفال.

[15] رواه مسلم (1777).

[16] انظر: سيرة ابن هشام (5/ 2)، طبعة دار الحديث، محقَّقة.



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/55349/#ixzz3mBFPAsAK

مناظرة لابن القيم مع اليهود

وقد جرت لي مناظرة بمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة ، فقلت له في أثناء الكلام :

أنتم بتكذيبكم محمداً صلى الله عليه وسلم قد شتمتم الله أعظم شتيمة .

فعجب من ذلك ، وقال: مثلك يقول هذا الكلام!

فقلت له : اسمع الآن تقريره ، إذا قلتم : إن محمداً ملك ظالم قهر الناس بسيفه وليس برسول من عند الله ، وقد أقام ثلاثاً وعشرين سنة يدعى أنه رسوله الله أرسله إلى الخلق كافة، ويقول : أمرني الله بكذا ونهاني عن كذا وأوحى إلى كذا ، ولم يكن من ذلك شئ . ويقول : إنه أباح لي سبي ذراري من كذبني وخالفني نساءهم وغنيمة أموالهم وقتل رجالهم ، ولم يكن من ذلك شئ ، وهو يدأب في تغيير دين الأنبياء ومعاداة أممهم ونسخ شرائعهم ،

فلا يخلو إما أن تقولوا أن الله سبحانه كان يطلع على ذلك ويشاهده ويعلمه

أو تقولوا أنه خفي عنه ولم يعلم به

فإن قلتم لم يعلم به نسبتموه إلى أقبح الجهل وكان من علم ذلك أعلم منه

وإن قلتم بل كان ذلك كله بعلمه ومشاهدته واطلاعه عليه

فلا يخلو إما أن يكون قادراً على تغييره والأخذ على يديه ومنعه من ذلك أو لا ،

فإن لم يكن قادراً فقد نسبتموه إلى أقبح العجز المنافي للربوبية

وإن كان قادراً وهو مع ذلك يعزه وينصره ويؤيده ويعليه ويعلي كلمته ، ويجيب دعاءه ويمكنه من أعدائه ويظهر على يديه من أنواع المعجزات والكرامات ما يزيد على الألف ولا يقصده أحد بسوء إلا أظفره به ولا بدعوة إلا استجابها له فهذا من أعظم الظلم والسفه الذي لا يليق نسبته إلى آحاد العقلاء فضلاً عن رب الأرض والسماء فكيف وهو يشهد له بإقراره على دعوته وبتأييده وبكلامه وهذه عندكم شهادة زور وكذب.

فلما سمع ذلك قال معاذ الله أن يفعل الله هذا بكاذب مفتر بل هو نبي صادق من اتبعه أفلح وسعد.

قلت : فما لك لا تدخل في دينه ؟

قال : إنما بعث إلى الأميين الذين لا كتاب لهم ، وأما نحن فعندنا كتاب نتبعه .

قلت له : غلبت كل الغلب ، فإنه قد علم الخاص والعام أنه أخبر أنه رسول الله إلى جميع الخلق ، وإن من لم يتبعه فهو كافر من أهل الجحيم ، وقاتل اليهود والنصارى وهم أهل كتاب ، وإذا صحت رسالته وجب تصديقه في كل ما أخبر به ، فأمسك ولم يحر جواباً.

--------------