المثال في مواجهة الواقع - تأملات في سورة "يوسف"

منذ أن خلقَ الله الأرضَ واستخلف فيها الإنسان، خلق من كلِّ شيء زوجين اثنين، فما من شيء إلا وله مقابلُه وضده من الجنسِ والنوع الآخر، فخلق السَّالبَ والموجب، والجنَّةَ والنار، والليلَ والنَّهار، والفجرَ والغَسَق، فلكلِّ شيء نقيضُه وضده، وتبعًا لذلك وُجد الخيرُ ومعه الشَّر، ونشأ الصِّراعُ بينهما منذ فجرِ التاريخ، ولعلَّ قصةَ هابيل وقابيل أول تجسيدٍ لهذا الصِّراع، ودائمًا ما كانت الغلبةُ حليفةَ الخير، وتلك سنَّةُ الله، ولن تجدَ لسنة الله تبديلاً.

وتجَسِّد لنا سورةُ يوسف هذا الصِّراعَ في أعلى صورِه؛ وهو صراعٌ غير متَّزنٍ بالمرة، فغالبًا ما تكون كفةُ الشرِّ أعلى من كفة الخير، ورغم ذلك فالذي تكونُ له كلمةُ الحسمِ في آخر المطاف هو الحق لا محالة.

ولقد احتدَمَ الصِّراعُ في بداية السورة بين المثالِ والواقع، المثال الذي يجسدُه لنا سيدُنا يوسف - عليه السَّلام - والواقع الذي يتمثَّلُ لنا في شخصِ إخوةِ يوسف - عليه السَّلام - وبعد ذلك في امرأةِ العزيز، وعلى العمومِ وتجنبًا للإطالة وجلبًا للإيجازِ سيكون مدارُ حديثِنا في هذه الصفحات عن طبيعةِ الصِّراعِ المحتدم بين الواقعِ والمثال، وبين الشرِّ والخير، وبين النُّورِ والضَّلال، وقُلْ ما شئتَ من مرادفات هذه المعاني، على أن نسلِّطَ الضوءَ على الجانب الأخلاقي الذي ميَّزَ السورة.

1- يوسف بين مطرقةِ إخوته وسندانِ الاسترقاق:
أ- يوسف بين أحضانِ أسرته:
قبل المضي قدمًا في إلقاءِ الضَّوء على حياةِ يوسف - عليه السَّلام - الطِّفل بين أسرتِه، أجدني مضطرًا إلى أن أقدِّمَ ورقةً تعريفية مختصرة بيوسف - عليه السَّلام - فأقول والله المستعان:
هو يوسف بن يعقوب، نبي ابن نبي، ورث النُّبوةَ كابرًا عن كابر، أتاه الله جَمالاً يفوقُ كلَّ جمال، وحسنًا يربو على كلِّ حسن، حسنًا لو نطقت الشَّمسُ لنظمت فيه قطع شعر أشبه بالسِّحر، حسنًا تَغَار منه النُّجومُ الطوالع في ذروةِ لَمَعانِها، والشمس في قمة إشراقِها، وهو إلى جانبِ حسنه وبهائه حكيم، مخبتٌ حيي، تقي نقي، طاهرٌ سخي، أوَّاب تواب، حليمٌ أمين، وقد كُتِب على يوسف أن يتواجدَ في بيتٍ متفكك العرى، متقطع الأوصال؛ إذ كان له إخوةٌ عشرة يشكِّلون لوحدهم عصبةً قوية شديدة المراس، وكان يوسف أثيرًا عند أبيه مُفضَّلاً، يداعبه ويلاعبه، مقربًا إليه على الدَّوامِ لا يكاد يفارقُه لحظة أو بعض لحظة، وكان طبعيًّا أن ينتبهَ إخوةُ يوسف إلى هذه النقطةِ وإلى تفضيل أبيهم ليوسف وأخيه، وهكذا اتخذوا هذا الأمرَ ذريعةً تبرِّرُ كلَّ ما سيقدمون على فعلِه؛ إذ قالوا فيما قالوه: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ [يوسف : 8]، وهم في حكمِهم هذا يظنُّون أنَّ الحقَّ بجانبِهم، فهم الأَولى بالتَّفضيل؛ لأنهم - ولسببٍ بسيط - يشكِّلون عصبةً وجماعة، بخلافِ يوسف وأخيه، وعلى هذا الأساسِ بدت العَلاقةُ بين الإخوة العشرة ويوسف مهدَّدة بالتفسخِ، هذا إن لم تكن متفسخة في الأساس.

ب- كيد الإخوة ليوسف:
1- إزماع الإخوةِ على التخلُّصِ من يوسف وإعداد الخطَّة المناسبة لذلك:
لما رأى الإخوةُ ما رأوا من أمرِ تفضيل أبيهم ليوسف وعدم إيلائه إياهم أي اهتمامٍ يُذكر، بدأت النَّفسُ توسوس لهم، وتوقَّدت تبعًا لذلك نيرانُ الحسد في قلوبهم، واستشاطت شرارةُ الغيرة، منبئة بدمار قادم يأتي على الأخضرِ واليابس ويقلِّبُ الموازين، وما لبث أن انفجَرَ بركانُ الحقد الدَّفين الذي كان ينتظرُ الإشارةَ ليتدفَّقَ في قوةٍ دون سابق إنذار، لقد استكثروا محبةَ أبيهم ليوسف وهو الطِّفل الصغير، والصبي الغض الذي هو في أمسِّ الحاجة إلى حنوِّ أبيه وعطفه، ونسوا تمامًا أنَّ الشجرةَ الصغيرة تحتاج إلى العنايةِ المستمرة من قِبل غارسِها، وتحتاجُ إلى سقي جذورِها، وتقليم أغصانِها وتشذيب فروعِها حتى تنمو في استواءٍ واعتدال، فقد أعمى الحقدُ قلوبَهم المريضة، فصارت حجارةً لا تهشُّ لمعول، وطُمست كل معالم الحبِّ في نفوسهم، فصارت مجرد أطلال دوارس أعفتها الروامس.

ومن المحقَّقِ في نظرهم أنَّ يوسف هو الحاجز الذي يقفُ بينهم وبين أبيهم، وبإزاحته سيخلو لهم وجهُ أبيهم، وينعموا بحبِّه، وكبير عطفه، ودفء حنانِه، وفيء ظلالِه، ويصيروا بعد ذلك قومًا صالحين مُصلحين، هكذا كان منطقُ الإخوةِ وهو منطق ضعيف مريض هار لا يقومُ على أسٍّ.

وهكذا تبرزُ لنا السورةُ منذ الوهلة الأولى تدنيًا أخلاقيًّا فظيعًا، وتكالبًا شبيهًا بتكالبِ ذئاب جائعة أضناها النصبُ وأعياها التَّعب، ووقع منها الجوع موقعًا، فماذا عساها فاعلة سوى أن تنهشَ لحم وعظم الفريسة، وعلى هذه الشَّاكلةِ كان الإخوةُ توَّاقين إلى التخلُّصِ من يوسف بأي شكلٍ كان، وهكذا أجمعوا أمرَهم، وأعلنوا حالةَ الطوارئ، وقرَّروا قتلَ يوسف وتنحيته من الوجود، وهو الطفل الصغير الذي لا حولَ له ولا طَول، فعوض أن يشملوه بعطفهم ويلبسوه لباسَ حنانهم، كشَّروا عن أنيابِهم، وأظهروا ما كان مضمرًا، لسبب بسيط - يرونه كافيًا - هو في تعلق أبيهم الكبير به وإيثاره عليهم، ولقد كان هذا السببُ في نظرهم كافيًا لتبريرِ فعلهم الشنيع، حيث بلغ بهم الحقد مداه فأعماهم عن سبيلِ الرَّشاد، فلم يعد يتحدثُ قلبهم سوى لغة الحقدِ الذي أعمى عيونَهم من أنْ ترى الحقَّ، فكان طبعيًّا أن يخلعوا ثوبَ الإنسانية ويلبسوا لباسَ الحيوانية، واستعاروا أنيابًا بدل أسنانِهم، ومخالبَ عوضًا عن أظافرِهم، كان ذاك في سبيل تنحية طفلٍ صغير هو أشبه بالغزال الغرير، وهكذا تحوَّلَ الحقدُ الدَّفين في دواخلِهم إلى بركانٍ يؤذن بانفجارٍ رعيب رهيب، وأجمعوا أمرَهم وأخفوا سرَّهم عن كلِّ أذنٍ وعين، لكن وقبل أن يتخلصوا منه كان لزامًا عليهم، أن يعدُّوا الخطَّةَ المؤاتية والكفيلة بضمانِ نجاح المهمة دونما خطأ يكشفُ سرَّهم هذا، ولا شكَّ أنَّهم وفي غمرة هذا التخطيط اختاروا مكانًا لا تطؤه قدمٌ ولا تراه عين، وابتعدوا عن مقرِّ سُكناهم وخلصوا نجيًّا درءًا للرِّيبة، خاصة إذا علمنا أنَّهم في لحظة من أهمِّ لحظات حياتِهم، وهم في غنًى عن أن يشكَّ في أمرِهم أحد، ويرتاب في شأنهم إنسانٌ أيًّا كان.

وعلى هذا النحوِ وتلك الشاكلة أقاموا مجلسَهم وتداولوا أفكارَهم، كلٌّ يدلي برأيه، وكلٌّ يطرحُ الخطَّةَ الكفيلة بالخلاصِ من يوسف دونما ريبة ودونما ترك دليل، ونحن نرى كيف وصل بهم الحقد كلَّ موصلٍ، وذهب بهم كلَّ مذهب، فصارت قلوبُهم صخرةً صمَّاء لا تلينُ لمعولٍ ولا تهش لضارب، ونحن إذ نقرأ في السورةِ الكريمة موقفَ الإخوةِ وما أجمعوا عليه، نتمثَّلُ في أذهانِنا صورةَ ذلك التجمع، وكأنهم بصددِ بحثِ مشكلةٍ وجودية مصيرية، أو بصدد إعداد خطة حربية يردُّون بها خطرًا يحيقُ بهم، ولا يكادُ المرءُ يمضي في قراءةِ الآياتِ الكريمة حتى يتيقنَ أنَّ المرادَ من هذا التجمعِ الخفي هو التدبير لقتل يوسف، ولقد أحسنوا التدبيرَ كل التدبير؛ فها هو ذا أحدهم يقولُ بملء فِيه: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا﴾ [يوسف : 9]، هكذا تنالون منالَكم بأسهلِ الطُّرق، فليس هناك أسهل ولا أيسر من القتل، اذبحوه بخنجرٍ أو ألقوه في الفَلاةِ يفترسه الذِّئب، فنتبرأ من دمِه، ولعلَّ المشير بهذا الرأي كان أقساهم قلبًا وأغلظهم كبدًا على الإطلاق، لكن وما إن أتمَّ هذا كلامَه حتى انبرى أحدُهم، وقال: ﴿لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [يوسف : 10]، وإلا فما الدَّاعي إلى إقامةِ هذا التجمع الحزبي، ولا شكَّ عندي أنَّ الذي صدر عنه هذا القول كبر عليه أمرُ قتلِ أخيه، ورأفة به أشارَ عليهم بهذا الرأي الذي اعتمدوه في تطبيقِ خطتهم، وعلى هذا المنوال يزدادُ مكرُ الإخوةِ نموًّا، ولم يعلموا أنَّ المكر السيئ يحيقُ بأهلِه، كما لم يعلموا أنَّ مكرَ الله فوق مكرِهم وهم كما قدمنا سالفًا عند اختيارِهم مكانًا لا تطؤه قدم ولا يطالُه بصر، خافوا من أن يكشفَ سرَّهم أحدٌ، كم هو غريب أمر الإنسان! يظنُّ أنه قادرٌ بمكره أن يفعلَ كلَّ شيء، وهو لعمري غير مستطيع أن يدفعَ ضرَّ ذبابة إذا ما قُدِّر وسلِّطتْ عليه، يمكرُ ويمكر، يفكِّرُ ويدبر، وفي نهايةِ المطاف تدورُ عليه الدوائر، ويكشف أنَّ سلطانَ الله هو القاهر.

2- تنفيذ الخطة:
أشرنا فيما سبق إلى أشياء كثيرة، وتحدَّثنا بما فيه الكفاية عن كيفيةِ إعداد الإخوة لخطتِهم العبقرية، وما داموا قد أعدوا هذه الخطة ورسم كل خيوطِها، ودرسوا شتى جوانبِها، بقي السؤال المطروح: كيف سينجزون خطتهم؟ أو بعبارةٍ أكثر بيانًا: ما هو السبيلُ إلى تنفيذِ الخطة؟ خاصَّةً إذا عُلم أنَّ يوسف دائم اللصوق بأبيه لا يكادُ يغيبُ عن عينيه، فكيف إذًا يستميلون أباهم؟ وما الحيلةُ التي ستمكنُهم من أخذِ يوسف والتخلص منه؟ هنا خطر ببالِهم أمر الخروج في رحلةٍ إلى الغاب طلبًا للتمتعِ وتغيير الروتين اليومي، هكذا لجأت العصبةُ المباركة إلى المراوغة، طالبين من أبيهم أن يدعَ يوسف يذهب معهم في خرجتِهم هذه، وقد طمأنوه وأعطوه موثقًا من الله وقالوا له: ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [يوسف : 12]، ولننظر كيف أكَّدوا كلامَهم بمؤكدَيْن اثنين في "إنَّ" و"لام الابتداء" المزحلقة، وبعد أخذٍ وردٍّ مع أبيهم، أوكلَ أمرَه إلى الله المطَّلع على كلِّ دقيقة وجليلة، وأرسل معهم يوسف لعلَّ ظنه يخيبُ فيرجعون به سالمًا، وهكذا خرجوا به معهم، وتمَّ لهم ما أرادوا، وها هو ذا هدفهم قرب تحقيقُه، فيا بشراهم! إنَّ حلمَ حياتهم قاب قوسين أو أدنى أن يتحقَّق.

ويكاد يأخذُ المرء العجب والزَّوْلُ من هذه العصبةِ السَّاعية لهلاك أخيها البريء براءة الطفولة والأحلام، الذي لم يخبر الحياة بعد، ولم يدرِ ما الخيرُ وما الشر، وتحدثنا الآيةُ الكريمة كيف أنهم أجمعوا على جعلِه في الْجُبِّ؛ ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [يوسف : 15]، والمستنبط من الآيةِ أنَّ اتفاقَهم على أنَّ أمرَ جعله في الجب تم بالإجماعِ، كما نستشفُّ ذلك من الفعل "أجمعوا"؛ حيث عقدوا اجتماعًا سريعًا حرصوا فيه على أن يتمَّ الأمرُ بإجماعٍ، وعلى ألا يشذ أحدُهم عنه، فتوسوس له نفسُه بفضحِ سرِّهم وكشفه فيما بعد، هكذا هان عليهم أخوهم ورموه في ظلماتِ البئر غير عابئين به ولا آبهين بما يمكنُ أن يصيبَه من ضررٍ ومكروه، أو هول وأسى يفضي به إلى الموتِ خوفًا من ظلامِ الجبِّ، وما يعتمل فيه من أشباحٍ وعقارب وحيات، ولقد كانوا على علمٍ بهذا كلِّه وبكثيرٍ غيره، إلا أنهم تعاموا عنه عمدًا برميه في الجبِّ، فيكونون قد تخلَّصوا من يوسف، من هذا الهمِّ الثقيل الذي كان جاثمًا على صدورِهم، وخانقًا أنفاسهم، وبهذا فارقَ الهمُّ قلوبَهم وعَلَتْهم الأريحية وتنفسوا الصعداء بدفعِهم خطرَ عدوِّهم إلى غير رجعة، فقد رمَوا به إلى أعماقِ الجب حيث لا يلبثُ أن تلدغَه حية، أو يلسعَه عقربٌ فيموت مسمومًا، لكنَّهم نسوا أنَّ هناك ربًّا رحيمًا بعباده خاصة المظلومين، وما بالنا لو كان نبيًّا.

في كلِّ آيةٍ من الآيات نكتشفُ في أخوةِ يوسف خصالاً جديدة، وشيمًا قلَّما تجتمع في شخصٍ دفعة واحدة؛ إذ يكادون يجمعون خصالَ الشرِّ كلِّها، وإن كنَّا قد ألمحنا إلى ما تميزوا به من مكرٍ وحيلة وحقد دفين، فهذه الخصالُ مجموعة لا تشكِّلُ إلا جزءًا يسيرًا من خصالِهم الوفيرة، ونقطةً في بئرِ شيمِهم الكثيرة، ولعلَّ أول خصلةٍ ميزتهم هي الغيرة وما أدراك ما الغيرة والحسد، ولم يكتفوا بهذه الخصالِ الذَّميمة، بل أضافوا إليها القسوةَ والشدَّةَ والغلظة والفظاظة، ولا شكَّ عندي أنه بكى واستعطَفَهم، وتوسَّلَ إليهم كما أنه لا شكَّ عندي أنهم قابلوا بكاءَه وتوسله بغلظةٍ وقسوة.

وبالمضيِّ في قراءةِ السورة وتلمُّسِ مظاهرِ الاتِّضاع الأخلاقي الذي مثَّله إخوةُ يوسف بامتياز استحقُّوا عليه درجةَ امتياز، يعترينا الذهولُ وتأخذنا الدهشة كل مأخذٍ، ويذهب بنا الحزن كل مذهب، ذهول وحزن مردُّه إلى هذا التصرفِ اللا إنساني من قبل الإخوةِ الذين من المفترضِ أن يحموا أخاهم الصغيرَ، لا أن يتخلَّصوا منه.

3- الذريعة التي برَّروا بها فعلتَهم:
وقع الإخوةُ في موقفٍ حرج لا يحسدون عليه البتة، موقف جعلهم يحسبون له ألفَ حساب، إذ كيف بهم أن يقنعوا أباهم بمقتلِ يوسف، وهم الذين أعطوه موثقًا من الله بأن يحفظوه، لكن لم يكن ليصعب عليهم أمرٌ كهذا، حيث كانوا قد دبَّروا الحيلةَ قبلُ لإقناعِ أبيهم بهلاكِ يوسف وافتراسه من قبلِ الذئب، بأن خلعوا قميصَه ولطَّخوه بدماء شاة كانوا قد ذبحوها، ومرَّغوا القميصَ في الدَّمِ حتى استحال أحمر، ولما نسج الليلُ خيوطَ ظلامِه وأزاح النَّهارَ من أمامه كروا إلى الدارِ راجعين راسمين على وجوهِهم أمارات الحزن والحسرة، ولو اطلعنا على قلوبِهم لوجدناها ترقصُ طربًا؛ احتفالاً بنشوةِ الانتصار، وتتمايلُ ذهابًا وجيئة، ويمنةً ويسرة كما لو احتست قهوةً معتَّقة، ولننظر جميعًا إلى الآيةِ؛ كيف تلخِّصُ لنا موقفَهم في أسلوبٍ بياني رائع: ﴿وَجَاؤُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ﴾ [يوسف : 16]؛ إذ ليس المقصود بـ"يبكون" البكاء الحقيقي الصادر عن لواعجِ نفسٍ حَرَّى، بل لا يعدو أن يكون مفتعلاً مخترعًا أو تباكيًا.

وحريٌّ بنا بعد طولِ الكلام والملام على إخوةِ يوسف أن نعودَ إلى يوسف، فنرى كيف واجه المحنةَ، وثبت ثبوتَ الأبطال المساعير في حومةِ الوَغَى، وكان جلدًا على الأهوالِ صلدًا، وكيف لا يكون كذلك والله معه يطمئنُه في كلِّ حين ويصبِّرُه بين الفَيْنةَ والأخرى، باعثًا في قلبه الصبرَ والشجاعة، وعلى أيٍّ فالمحقق أنَّ يوسفَ لما رأى من إخوتِه ما رأى صدم شعوريًّا، وحز في نفسِه فعلُ إخوته، صدمة خلقت في نفسِه حزنًا مريرًا لن ينساه ما مرَّت السنون والأعوام؛ إذ كيف بالجرحِ النغار أن يندملَ بين ليلٍ ونهار، لكن ورغم هذا وذاك لم يفقد الأملَ وظلَّ يناجي ربَّه ويستخيره عله يستجيب له، وهو المظلوم المغلوب على أمرِه، ولما كانت دعوةُ المظلومِ مستجابة استجاب له ربُّه وكان به رفيقًا.

4- يوسف والاسترقاق:
جاء الفرجُ من أوسع الأبواب، وآن ليوسف أن يتخلَّصَ ويرتاح مما أصابه من العذاب، إذ وقفت بجانبِ الجبِّ سيارةٌ ألهب العطشُ حناجرَ أصحابِها، وأرسلوا واردَهم فأدلى دلوَه، فكانت المفأجاة بادية على مُحيَّا ذاك الذي أرسلوه ليسقيَهم، نعم لقد عثر على صبي برَّاق الثنايا، حسن المحيا، فطار فرحًا ورقص طربًا، موقِفٌ يصوره لنا قوله - تعالى -: ﴿يَا بُشْرَى﴾؛ حيث نادى البشرى وهي مما لا ينادى، تعبيرًا عن عظيمِ فرحِه وكبير سرورِه، والظَّاهرُ أنَّ هؤلاء كانوا تجارَ رقيق، بدليل الآية: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ [يوسف : 20]، وما دمنا بصددِ دراسةِ تمظهراتِ وتجليات الجانب الأخلاقي، فلا بأس أن نقفَ عند هذه الحادثةِ وقفةَ متأمِّل ومتمعِّن؛ ذلك أنَّ حادثةَ العثور على يوسف وجعله مع البضاعةِ وبيعه بذاك الثَّمنِ البخس الزاهد، يدلُّ دلالة قاطعة على نشاط تجارةِ الرَّقيقِ آنئذ، وغالبًا ما تكون هذه التجارةُ نشيطةً في المجتمعاتِ الطبقية التي لا حقوقَ فيها ولا مساواة، وتظهر لنا الحادثةُ أيضًا هوسَ الإنسان وحرصه على كسبِ المال بأية طريقةٍ كانت، المهم هو كسبُ المال، وهكذا كان هدف هؤلاء الذين شرَوْه بثمنٍ زهيد لا يتجاوزُ العشرة الدراهم هو المال، ما يدلُّ على اتضاعِ أخلاقهم وفساد طباعِهم، فعوض أن يسألوه عن علةِ وجودِه في الجب، وما الذي أودى به إلى قاعِه، ويعيدوه من ثَمَّ إلى أهلِه - علمًا بأنهم كانوا على مقربةٍ من دارِه - قاموا ببيعِه لربح دُرَيْهمات، خاصة عندما رأوه صبيًّا جميلاً بهيًّا، وأيقنوا أنهم لو باعوه في سوقِ النخاسةِ لأتى لهم بثمنٍ جيد، هنا يتبدى التدهور الأخلاقي الذي كان سائدًا في صورةٍ بشعة يطغى عليها حبُّ المالِ إلى حدِّ الهوس، صورة الدَّوْس على كرامةِ الإنسان وسلبه حريتَه، وبيعه كأي شيءٍ وكأي بضاعة.

5- مظاهر الاتضاع الأخلاقي:
كنا قد أشَرْنا فيما سبق بما فيه الكفاية إلى شتَّى مظاهر التدني الأخلاقي؛ سواء عند إخوةِ يوسف أو عند أولئك التجَّار، ويقابل هذا التدني سموٌّ أخلاقي رفيع يجسدُه لنا يوسف في صبرِه وثباته وعزمه.

إنَّ نظرةً عابرة على ما سبق توضح لنا مدى ما تميزَ به الإخوةُ من خصالٍ ذميمة، وشيم قبيحة تمجها الطِّباعُ السَّليمة، وتستقبحها الأنفسُ الكريمة، وأول هذه الخصالِ الحقدُ الأعمى والحسد وكذا المكرُ والخديعة، وتبييت الشرِّ وإظهار الخير، أضفْ إلى ذلك قساوةَ قلوبِهم، وشدة مكرهم، وبهذا كان الإخوةُ بحقٍّ مجسدين لمساوئ الأخلاقِ كلِّها بدايةً بالحقدِ ونهايةً بالنفاق.

ولم يكن الإخوةُ وحدهم المجسدين لهذه الخصالِ الذَّميمة، بل كان المجتمعُ بأسرِه، ومن بينهم أولئك التجار المولعون بجمعِ المال والهوس به، هكذا وانطلاقًا من كلِّ ما سبق ذكره يحقُّ لنا أن نسمَ هذا المجتمع بالمجتمعِ الفاسد المتضع قيميًّا.

6- محنتا الإغواء والسجن:
أ- محنة الإغواء:
كان التجار قد باعوا يوسفَ لعزيزِ مصر، وهكذا عاش يوسف في قصرِ العزيز يخدمُه، وهو يومًا عن يوم يشتدُّ ساعدُه ويقوى عوده، وتتضحُ ملامحُ الحسنِ والبهاء على وجهِه أكثر فأكثر، ولقد كانت امرأةُ العزيز تراقبُه في خفاء، ولما رأت حسنَه الخارق البهي يزدادُ التماعًا، أخذت فكرةُ مراودتِه تتبلور شيئًا فشيئًا، إلى أن تضخمت وصارت هاجسها الوحيد، بل الأوحد، فشغلت كلَّ تفكيرِها، وقرَّرتْ أخيرًا أن تخرجَ فكرتها إلى حيزِ الوجود، وحدثتها نفسُها أنها الفرصةَ المؤاتية لتحقيقِ مرامِها، وأنها إن عرضت نفسَها على يوسف لا يلبث أن يوافق، هكذا حدثتها نفسُها!

ولنا أن نصفَ مشهد ما قبل المراودة؛ فباعتبارِها امرأة سيد مصر، فالأكيدُ أنها تتوفَّرُ على كلِّ أشكال الزينة والتجميل، من عطرٍ فوَّاح يسرقُ الأنفاس، وصباغةٍ تجميلية، إضافة إلى الأحمرين: الذهب والزعفران، والألبسة الحريرية التي تبهرُ العيون وتخلبُ الألباب، وكان طبعيًّا أن تستغلَّ كلَّ هذه المستحضرات في تزيينِ صورتِها حتى تحبِّبَ يوسف فيها، ويقبل عليها إقبال الظمآن يبغي ماءً يسدُّ به علتَه، وهكذا لبست أفخرَ الثِّيابِ، ووضعت أروعَ العطور، وأشعلت الشُّموع، وجعلت غطاءَ السريرِ حريرًا، وأفرغت القصرَ من كلِّ الخدم وغلَّقتِ الأبواب، كل ذلك في سبيلِ شهوةٍ عابرة، هنا افترصت الفرصة، وأخذت تراودُ يوسفَ وهو مَن هو في الجمال والجلال والمهابة، وتطاردُه لاهثةً متوسلة حينًا، ومتوعدةً حينًا، ذلك أنَّ نارَ الحبِّ تأجَّجتْ في قلبِها وأبت أن تنطفئ، فقد أطلقت العنانَ لعواطفِها، ولو أنها حكمت عقلَها برهة واحدة لأدركت فظاعةَ ما هي مُقدمة عليه، وما دمنا في دراسةِ مشهد المراودةِ نبيحُ لأنفسِنا تصور هذا المشهدِ وهي تطاردُه بكلِّ ما أُوتيت من قوة، تمسكُه من قميصِه وتجرُّه من يدِه، لنا أن نتمثَّلَ هذا المشهدَ مع ما فيه من دمارٍ أخلاقي يفوقُ الوصف، وفي هذا المشهدِ بالضبط يصطرعُ المثال مع الواقع، والعفةُ مع الغريزة، ويا له من صراع!

والحقُّ أنَّ يوسف لم يطع النفسَ اللجوج؛ قائلاً في يقينٍ لا يعادلُه يقين: ﴿مَعَاذَ اللهِ﴾، عبارة نزلتْ كالصَّاعقةِ على امراةِ العزيز، أو كماءٍ بارد أفاقها من حلمِها الوردي، ويبرزُ لنا هذا الموقفُ أمانةَ يوسف، فليس هو ممن يخونُ سيدَه الذي أكرمَه، وأحسن مثواه ومرباه، وليس هو ممن يقابلُ الإحسانَ بالإساءة، وأي إساءة أفظع من الطَّعنِ في الشَّرفِ، والوقوع في فاحشةِ الفواحش.

هنا وفي هذا المشهدِ الاختباري لعقيدةِ يوسف، تقف القيمُ المثلى كالطودِ الشَّامخ والجبل الراسخ في مواجهةِ أعاصير القيم السُّفلى، وفي هذا المشهدِ يتصارعُ المثال والواقع، الواقع بأسلحتِه الفتَّاكة من دلالٍ وغنج وتبرجٍ وكلام معسول، والمثال بقيمِه وثباته ورباطة جأشه وإيمانِه بربه، ولقد ثبت يوسفُ في موقفٍ لا يستطيع أن يثبتَ فيه إلا مَن كان على بينةٍ من ربِّه ورأى برهانَه، ويوسف وهو في غمرةِ هذا الامتحان رأى برهانَ ربِّه، فاستعصم وثبت واستحقَّ أن يكونَ من المخلصين، ولم يفكِّر ولو للحظةٍ في أن يستغلَّ جمالَه فيما لا يرضي الله، فكان بحقٍّ مخلصًا تقيًّا.

ب- محنة السجن:
رأينا كيف أنَّ امرأةَ العزيز أطلقت العنانَ لتيارِ شهوتها الجامح، الذي أتى على الأخلاقِ؛ أخضرِها ويابسها، ورأينا في الطرفِ المقابل استماتة يوسف واستنجاده بربه، وهكذا خذل امرأةَ العزيز التي لم تجد بدًّا من أن ترفعَ أمرَه لسيدِها، وتتهمه بالتحرشِ بها، ومحاولة مراودتِها، وفعلاً تَمَّ لها ذلك، وانتقمت لأنوثتِها المرفوضة، وألفت سيدَها لدى البابِ وشكتْ له أمرَها، ومثَّلت أمامَه دورَ الطيرِ الجريح الذي أدماه الصقرُ الجارح، بقلبٍ كسير جريح مكلوم، وهنا تبرزُ لنا بجلاءٍ نفسية هذه المرأةِ؛ وقد تملَّكَها الحقدُ وجرى في دمِها، فصار الانتقامُ هدفَها المنشود، والانتقام لا يصدرُ إلا عن النَّفسِ الضعيفة المريضة، ولقد قررت الانتقامَ لأنوثتها، فأعمى بصرَها وبصيرتَها، واتهمته بما اتهمته: ﴿قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [يوسف : 25].

ولننظر كيف طرحت السؤالَ وقدمت جوابَه في الحين، وهو جوابٌ يتكوَّنُ من خيارين يفصلُ بينهما الحرف ﴿أَوْ﴾ الذي يُستعملُ للتخيير، هنا تدخَّلَ يوسفُ بثباتِه ويقينه المعهودَيْن، قائلاً: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾، فلم يصرحْ باسمها، وإنما أشارَ إليها بالضَّمير ﴿هِيَ﴾، وكأني به يراعي مشاعرَ سيدِه الذي أكرمَه، ويدلُّ هذا الموقفُ على تأدُّبِ يوسف الجم أمام سيدِه.

ولما كانوا أمام قضيةٍ واتهام كان لا بدَّ من توافرِ الأدلة التي تدين الطرفَ المدان، وفعلاً توفَّرَ الشَّاهد، وكان في صفِّ يوسف، الأمر الذي حزَّ في نفسِ العزيز، فتوجَّهَ باللَّومِ إلى زوجتِه، وقال في مرارةٍ مسرفة: ﴿إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف : 28]، والملاحظ أنه استهدى بـ﴿إِنَّ﴾ مرتين تأكيدًا لكلامِه، وفي قوله: ﴿مِنْ كَيْدِكُنَّ﴾ استعمل ﴿مِنْ﴾ التبعيضية؛ أي: من بعضِ كيدكن، فإذا كانت المراودةُ من بعضِ الكيد، فكيف يكون الكيدُ كلُّه؟!

والملفت للانتباهِ في هذا المشهد هو بروزُ العزيزِ في مظهرِ الذي لا يغارُ على أهلِه قِيد أنملة، فلم يبد اهتمامًا بما اقترفتْ زوجتُه، فلا نرى تلك الحميةَ التي تشدُّ الزوجَ إبان اكتشافِه خيانةَ زوجته، أو ذلك الغضب الذي يعلو كلَّ حريصٍ على شرفِه وشرف زوجته، لم نر شيئًا من هذا البتة، والغريبُ في الأمر أنه لم يكلفْ نفسَه تعنيف زوجتِه، وإنما اكتفى بالقول: ﴿وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ [يوسف: 29].

والعزيز في هذا المشهدِ لا يهمُّه شرفُه بقدر ما تهمه سمعتُه، ولما كانت هذه السمعةُ مهددةً، قرَّر وزوجتُه إدخالَ يوسف إلى السِّجنِ، على الرَّغمِ من ثبوت براءته للعيان، إنه واقعٌ لا ينصفُ المظلومَ وينصف الظَّالم، ويعطيه الحقَّ كاملاً في إلحاقِ ما يشاء بالمظلوم، وعلى الرَّغم من محاولةِ إخفاء ما وقع انتشر الخبرُ انتشارَ النَّارِ في الهشيم، وصار حديثُ المدينة في المغْدَى والمراح، والممسى والصَّباح، إلا أنَّ انتشار الخبرِ في أوساط النِّساء كان أكبر منه في أوساطِ الرِّجال، خاصةً إذا علمنا أنَّ الخبر يتعلَّقُ بامرأةِ العزيز سيدة السيدات، وهكذا وجد نساءُ المدينةِ في هذا الخبر مطعنًا يطعنُ من خلالِه في امرأةِ العزيز ويتفكهنَ به، وهنا تبرزُ لنا النميمةُ في أبشع صورِها، مع ما يتبعها من طعنٍ في أعراضِ النَّاسِ وذكرٍ لعيوبهم، وهذه هي حال المجتمع المترف، حيث كانت النساءُ من عليةِ المجتمع، وغالبًا ما تكون المرأةُ في هذه الطَّبقةِ شاغرة البال، فتحاول أن تملأَ هذا الفراغَ بالحديث والمسامَرة والنميمة، وهذا أمرٌ تعرفه جلُّ الطبقاتِ المرموقة من المجتمع.

ودرءًا لكلِّ شبهةٍ أُدخل يوسفُ السجنَ فلبث فيه بضعَ سنين، ونكتشفُ في هذه السنين إيمانَ يوسف الكبير بربِّه، إضافة إلى صبرِه وجلده، فلم نجد القرآنَ الكريم يصفُ لنا يوسف في موقفِ ضعف، إذ لم يشك ولم ينُح ولم يقل: "ليتني أطعتهن"، بل كان على يقينٍ من أنه على حقٍّ وعلى طريقٍ مستو، ويظهر من حديثِ يوسف لصاحبيه إيمانُه العميق بالله الواحدِ القهَّار، معترفًا بفضله عليه، مقرًّا بوحدانيتِه، ولم نره يشكو لهما ما وقع عليه من ظلم، أو حتى يلمح لهما ببعضِ ذلك، إنه المثالُ في أرقى تجلياتِهالإنسانية.

ج- أخلاق يوسف المثالية:
لقد وقف يوسفُ كما أسلفنا كالطودِ الشامخ، واستعصم وكان من المتعففين، ويشهد له بذلك كلامُ ربِّ العزة، إلا أنه من المفسرين من شطَّ بهم القلم وقالوا قولاً منكرًا، وذهبوا إلى أنَّ يوسف هَمَّ باقترافِ الفاحشة، وقابل المرأة بما يقابلُ به الزوجُ زوجتَه من لمسٍ وتقبيل وعناق، وهم في ذلك خاطئون، وكأني بهم لم يقرؤوا قولَه - تعالى -: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف : 24]، إذ كيف يكونُ مخلصًا، وقد اقترف ما يغضبُ الله، وكأني بهم أيضًا لم ينتبهوا إلى قولِه - تعالى -: حكايةً عن امرأةِ العزيز ﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾ [يوسف : 32]، كما أنهم لم يلتفتوا إلى قولِه - تعالى -: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف : 24]، فهَمُّها به محقَّقٌ بدليل ﴿لَقَدْ﴾، أمَّا همه بها فغيرُ محقَّقٍ؛ نظرًا لوجودِ ﴿لَوْلَا﴾ التي هي حرف امتناعٍ لامتناع، فالجواب "الهم" امتنع لامتناعِ الشرط "رؤية البرهان"، فهذا شبيهٌ بقولِك: "لولا سقوط المطر لخرجت"، وهذه لعمري حجةٌ ما بعدها حجة تقرُّ ببراءةِ يوسف وعصمته، ومن المحققِ أنَّ معظمَ هذه التفاسير دخيلة من الإسرائيليات مع ما فيها من غلوٍّ وتزيد كبير، يصل حدَّ الإسرافِ والغلو، وخروج عن الحقِّ إلى الباطل.

7-انتصار الحق واندحار الباطل:
أ- ظهور براءة يوسف:
مرَّت الأيامُ تلو الأيام، والسنون تعقبها السنون، وجاء الفرحُ من أوسعِ أبوابه كالفجر الوضاء البهيج، يطردُ دولةَ الظلام بجيوش نوره، فظهر الحقُّ ناشرًا عبقَ أريجِه على الوجود، وزهق الباطلُ، وثبت صدقُ يوسف، فما كان له أن يطعنَ سيدَه في ظهرِه، ويقوم بفعال السفهاءِ وهو معدود في الأنبياء، والملاحظ أنَّ يوسفَ على الرَّغمِ من أنه ظُلم، لم يطلب تعويضًا عمَّا عاناه وقاساه، وهكذا انتصر الخيرُ في آخرِ المطاف، وعرفت التوبةُ طريقَها إلى قلبِ امرأة العزيز، فغسلت أدرانَ الحقدِ وأوثان الغريزة المعششة في قلبها، واعترفت بذنبِها، وتابت إلى ربِّها، ولنتأمل اعترافَها المفعم بالتوبةِ والنَّدم على ما اقترفت: ﴿قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [يوسف : 51]، هنا صوت الحقِّ هو المتكلِّم والصادح، هنا الشر يندحر، هنا الخيرُ ينتصر، لقد كان موقفُ امرأةِ العزيز ومعها النسوة إيذانًا ببدايةِ انتصار الحق وعلو صوته، واندحار الظُّلمِ وانهزام فلولِه.

ب- تأمين يوسف على خزائن الأرض وعفوه عن إخوته:
صار يوسف بعد كلِّ هذا مكينًا أمينًا، فأُمِّن على خزائنِ مصر، وكان ذلك خيرَ جزاء من الله العلي القدير ولم يداخله الغرور ولم يزهه النَّصرُ، بل على العكسِ فقد صار أكثر تواضعًا ووقارًا؛ لأنَّ الإنسانَ المؤمن وثيق الإيمان لا يزيدُه النصر إلا تواضعًا وسماحة، وهكذا لم يعامل إخوتَه بمثل ما عاملوه، ولم يستغل سلطتَه في إيذائهم، بل قرَّبهم وأكرمهم، فعمل بالمثلِ القائل: "من رماك شوكًا ارمه وردًا"، وبهذا تنتهي السورةُ بتوبةِ الإخوة وأوبتهم إلى الطريقِ المستقيم، وما يلفتُ الانتباهَ في نهايةِ السورة هو هذه العبارة الراقية التي صدحَ بها يوسفُ - عليه السَّلام -: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف : 92]، فيا له من تواضعٍ ويا لها من سماحة، موقف يذكرُنا بموقفِ نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندما دخل مكَّةَ منتصرًا فلم يرفع رأسَه تواضعًا واحترامًا لمشاعرِ قومِه، وما كان له إلا أن يقولَ لأهلِه وذويه بعد أنَّ ظنُّوا أنه سينكِّلُ بهم: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.

خاتمة:
استعرضنا في هذه الكلماتِ مختلفَ الأمورِ التي أدَّتْ إلى فساد العَلاقةِ بين الإخوة ويوسف، وألقينا الضوءَ على شتَّى خصالِ الشر التي ميزتْهم، وكان مدارُ الكلام في أساسِه على التجليات الأخلاقية التي أبرزتها السورةُ الكريمة، وفعلاً حاولنا جهدَ الإمكانِ إبراز خلفية الصِّراعِ بين يوسف وإخوته الذين لم يألوا جهدًا في سبيلِ التخلص منه، وكذلك تطرَّقنا بما فيه الكفاية إلى قضية الإغراء وما تبعها من دخولِ يوسفَ السجن، وظهور براءته وتمكينِه من خزائنِ الأرض، واجتماع شملِ أسرته وعفوه عن إخوتِه وشكره لربه، وجماعُ القولِ كانت السورةُ مسرحًا لتشريحِ النَّفسِ البشرية وولوعها بفعالِ الشَّرِّ، كما جسدتِ السورةُ الصِّراعَ الأبدي بين الشَّرِّ والخير، وبين الواقع والمثال.